الجمعة ١٤ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم أحمد الخميسي

الليل طويل والطيارات مش نايمة

لم ألتق يوما بمها خميس الشاعرة الفلسطينية . لكن صداقتنا بدأت بإيميل تلقيته منها ذات يوم تعليقا على مقال . وجذبني تعليقها إلي قراءة بعض قصائدها الجميلة . ثم صرنا من وقت لآخر نتبادل الرسائل القصيرة . ورحت أمزح معها قائلا لها إنها أختي بالقطع ، فهي منال خميس ، وأنا أحمد خميس ، فكانت تقول - مادام الأمر كذلك - فإنها لن تترك حقها في الثروة التي تركها لنا أبونا " خميس " . بين حين وحين أخذنا نقطع بمكالمة سريعة على المحمول المسافة المجهولة بين القاهرة وغزة . في لحظة أجدها معي . تقول : " كيفك ؟ " أقول : " كويس . أنت إزيك ؟ ابنك عامل إيه ؟ ". ترد : " بخير " . أنهي المكالمة وأتعجب كيف كسبت من الهواء ، من الفراغ ، صديقة حية ، لم أر حتى صورتها لكنها أصبحت قريبة ، مغروسة في النفس كأني أعرفها منذ سنوات طوال ، وعلى علم بتفاصيل حياتها ، ولون الستائر المسدلة على نوافذها ، والإضاءة الضعيفة قرب سرير نومها ، والكتاب الذي تحمله بين يديها . كان صوتها وهي تتحدث يتناثر كقطرات مياه خارج ضفتي نهر صغير ، فأرى عينين ووجها ، وترسم كلماتها أمامي روحا حية ، ولم أكن بحاجة لأكثر من ذلك لكي أراها تقريبا بوضوح .

بتعرفي إلي مها ، كفت مدينة غزة عن كونها مدينة متخيلة ، وتحولت إلي شخص محدد أعرفه . والآن حين يقصفون غزة فإنني أشعر بالقلق ليس فقط على مدينة ذات ملامح عامة ، ولكن على غزة التي تسكن فيها مها وتتعرض فيها للموت داخل شقة صغيرة في مبنى بشارع جانبي . في اليوم الثاني لقصف غزة أرسلت لي مها تقول : " " لا ماء ولا كهرباء ولا تلفونات ، كمان شوي ويقطعوا الهواء " . وفي الساعة الثالثة من فجر يوم الأحد ، 9 يوليو ، كنت ما أزال جالسا إلي مكتبي ، أقرأ مجموعة قصص ألمانية مترجمة ، فجاءتني رسالة على المحمول من مها تقول فيها : " الليل طويل ، والطيارات مش نايمة ". وتخيلت ليلا طويلا يمتد بلا نهاية ليس فيه من نجوم سوى ما يلمع به القصف والموت . ومها هناك تقول إن الطائرات لا تنام . ما الذي يمكن أن أفعله ؟ أكانت رسالتها استغاثة ؟ أم دعوة لتحمل المسئولية عما يجرى ؟ أم استدعاء للشعور بالطمأنينة ؟ أم للتأكد من أن خارج الليل بشرا ونهارا ؟ . أغلقت الكتاب . ثم كتبت لها : " قلبي معك " . وشعرت بالعجز . ماذا تعني " قلبي معك " هذه ؟ . إنني لست معها في واقع الأمر ، لا أنا ، ولا قلبي ، ولا جسدي ، أنا بعيد جدا عنها ، وهي وحدها تحت ذلك الليل الذي لا تنام فيه الطائرات . عدت ثانية إلي المحمول وكتبت مرة أخرى : " أنا أحس أنني معك تماما ، بجوارك ، وأنا أعلم أنك شجاعة " . ردت على فورا : " مش قادرة أنام . صوت الرصاص والتفجيرات والطيارات وصور الشهدا والأشلاء والكهرباء مقطوعة وكل شوي رايحة جاية على غرفة ابني أتطلع بوجهه وهو نايم وأقول يا ترى ح أشوفه الصبح ولا لاء " .

الآن غمرني الشعور بالذنب تماما ، شعور لزج مثل الإحساس بالعار حين ترى جريمة تقع أمام عينيك مباشرة ولا تستطيع أن تمد يدك لوقفها . تذكرت العدوان الثلاثي علينا ، وكيف كنا نجلس مع أمي صامتين تماما في الصالة ونسمع من الشارع صياح : " طفى النور " ، ونتمنى لو أن يدا امتدت إلينا في هذه الغرفة الصغيرة ، وتذكرت عدوان 1967 ، وحرب الاستنزاف ، ومدرسة بحر البقر ، و " الطفلة مصرية وسمرا كانت من أصغر تلاميذي " . الآن تستغيث بي مها التي أعرفها ، وليست مدينة متخيلة . كتبت لها أقول : " أنت فلسطينية بطلة " ثم اكتشفت سخافة العبارة الموجهة لأم تحت القصف في شقة صغيرة ، فمحوت الرسالة وأخذت أحاول الاتصال بها ، لكن دون جدوى ، فبعثت لها برسالة أشجعها بأي شكل : " أحاول الاتصال بك دون جدوى ، لا تقلقي ، صدقيني ، سترين ابنك في الصباح . صدقيني " . أرسلت إلي تقول : " مش راح يمسك معك الخط عشان الطيران " . فتحت نافذة غرفتي حتى نهايتها ، ووقفت أحاول أن أملأ رئتي بالهواء . تطلعت من النافذة إلي الشارع . كان الليل ممتدا أمامي في السماء ، والصمت يغمر كل شئ ، المباني ، وأطراف الشجر ، والشوارع ، ومع ذلك هزني إحساس مرعب بأن الهواء الساكن مشحون بكهرباء ، وثمة أزيز أسمعه ، وضوء يشق السماء ، وصوت يعبر مسافة في الليل يقول لي " مش راح يمسك معك الخط عشان الطيران " .

لم أنم ، وأنا أتخيل مها ، وهي تروح وتجئ ، وتتطلع من نافذة مغلقة إلي شوارع غزة ، والسماء ، ووجه الطفل . في السابعة صباحا جائتني منها رسالة قصيرة "احنا بخير " . وبعد لحظة واحدة وصلتني رسالة أخرى : " أنت شو مصحيك لهلق ؟ " .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى