الثلاثاء ٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم محمود سعيد

المائدة في العصر العباسي

طبيخ وكتاب طبخ ومطبوخات عند ابن سيار الوراق
نكهات مستخرجة من كتب الطب وألفاظ الطهاة

الجاجيك: نذهب في طفولتنا، أيام العيد، لنأكل القص الشاورما، مرتين في السنة فقط. عند الأرمني شاهين جاجيكيان، في مطعمه الصغير، الملاصق لسينما الحمراء في الموصل، ولا أعتقد أن من يأكل من تلك الشاورما ينسي طعمها. فبعد أن يضعها شاهين في الصحن، ينقعها بماء فلفل أخضر، فيه بهارات متميزة، قليلة الحرارة، ثم يأتي بكاسة صغيرة، فيها لبن وخيار وثوم وكرافس، لذيذة جداً، سألناه عن اسمها، قال جاجيك. ولما كان اسمه جاجيكيان، فقد أثار (ولابدّ) تساؤلاً عن الربط بينه وبين الجاجيك، كان يوضح دائماً: أحد أجدادي قبل مئات السنين اخترع الأكلة، ولذا فنحن نجيدها، وأسميناها جاجيك.

مضي نحو نصف قرن علي آخر كاسة جاجيك أكلتها في المطعم الصغير، وأنا مقتنع تمام الاقتناع أن الاسم ارمني، يعود إلي عائلة صاحب الشاورما اللذيذة، لا بل أروي لمن يسامرني إن كان هناك جاجيك قصة الاسم حتي وقع بيدي، قبل أشهر، كتاب الطبيخ لابن سيار البغدادي، ففوجئت أن العراقيين كانوا يعدون الجاجيك منذ أكثر من ألف ومئتي سنة، ويسمونه جاجق، كانوا يتأنون، ويتفنون في إعداده، لأنهم يعيشون في عصر مستقر، هادئ، يخلو من المليشيات، ولعنات الله، والهرولة والركض وراء الدولار، فجاجيكهم، أطيب طعماً ونكهة ورائحة من جاجيكنا، لأنهم يصنعونه علي مهل، ويضيفون إليه ما لم نضف. وكان أول شروطهم له أن يكون الإناء مطيّباً، أي ذي رائحة زكية، وهذا ما لا نفعله اليوم، وكانوا يضعون فيه كل شيء نضعه الآن، إلا أنهم يزيدون عليه بصلا، ونعنعاً، وطرخوناً، وسذاباً، وقثاءً، وأصول الخس المقشر، والحرسف، واللوز الرخص "الأخضر". وبعض هذه المواد الغذائية أشياء لا نعرفها في عصر السرعة، لأنها غريبة علي مسامعنا، ونظرنا.

إن كثرة هذه المواد وتجمعها في طبق واحد لابد أن تعطي مذاقاً متميزاً، ولابد أن تعدّ وجبة غذائية كاملة، طبيعية، لا للتمزز، كما اعتدنا (نحن العراقيين) علي تناولها مع (المشروبات الكحولية).

كتاب عشر السنين
يرِد الجاجق الذي انتحله صناعة واسماً لعائلته، شاهين، صاحب المطعم الطيب الذي ضحك علي عقولنا ونحن أطفال، مع مئات الوجبات الأخري في كتاب الطبيخ لابن سيار الوراق. المكتوب قبل أكثر من ألف سنة، ومن يتصفح شيئاً من التراث العربي العراقي في العهد العباسي، يري العشرات، ولا أبالغ أنها كانت مئات، لكنها اختفت، كما اختفي غيرها، فحقد الغزاة علي هذا الشعب، بدأ من فجر الحضارة، واستمر إلي حد الآن. وربما كان دجلة الأسعد حضاً منا، لأنه ضم في جوانحه عشرات ملايين الكتب.

متاعب أجدادنا في الطبخ
حقق كتاب الطبيخ عالمان فلنديان، وثالث عربي اختار الجنسية الفلندية: توفي أحدهم (يوسي آرو) وبقي إثنان: (كاي أورنبري، وسحبان مروه) وحسبما جاء في المقدمة أنهم أمضوا نحو عقد من الزمان يحققون فيه، علي فترات غير مستمرة، وأنهم لأمانتهم العلمية، أبقوا الألفاظ العامية كما هي. مع مقابلتها بالفصحي الآن. ومن يقرأ الكتاب يذهل لكثرة الأخطاء، مما يجعله يقرر حالاً أنه نسخة كتبت في عصور متأخرة عن الكتاب الأصلي، إذ أن القرن التاسع الميلادي، وهو الوقت الافتراضي لتأليف الكتاب، كان عصر ازدهار لغوي، وفصاحة متميزة.

ترجمت السيدة نوال نصر الله الكتاب إلي اللغة الإنكليزية، بطبعة جميلة مصورة، وكانت هي السبب في حصولي علي نسخة مهداة من السيد كاي أورنبري، وهذا يدفعني إلي الإشادة بجهود وكرم وطيبة الجميع.

حفّزني هذا الكتاب علي مقارنة ما كان أهلنا يعدّونه من أطايب الطعام في ذلك العصر، مع ما كانت تعده الشعوب الأخري آنذاك، ففي الوقت الذي يصف كتاب ابن الوراق آلاف الطبخات المعقدة، اللذيذة منها سبعة أنواع من الخبز، لم يكن يعرف العالم كله سوي نوع واحد من الخبز، حتي المدن غير العربية القريبة من بغداد كأصبهان، لم تكن تتوافر موائدها إلا علي بصل وثوم وباذنجان، وقثاء وزعرور من دون طبخ، أو معالجة مع خبز (عادي)، وذلك كما ورد في المقامة البغدادية وهي تصف رحلة بغدادي إلي أصفهان، (عاصمة فارس في القرن الرابع الهجري) إذ يقارن الكتاب بين ما هو موجود في العاصمتين. فلا يمكن لأي كان أن يماري أن تنوع المائدة دليل علي رقي ذوق وموارد وحياة وحضارة الشعوب

ما يلاحظه المرء من قراءة أي كتاب طبخ آنذاك، تلك العلاقة بين الطبخ والطب، في منطقتنا المتحضرة الهلال الخصيب، (وباقي الدول العربية) لقد حرص أجدادنا علي تناول، وطبخ ما يصفه الأطباء، لا بل أنهم اعتبروا الطبخ مهنة راقية شريفة، لأن الأطباء كانوا يمارسونها، وأن أهم الطبخات صدرت عن أطباء معترف لهم بطول الباع. فهم عندما يوصون بطبخة معينة، يشيرون إلي فوائدها، وتأثيرها علي من يتناولها، وكيف تزيل بعض الأمراض، وكيف تداوي بعض الآلام. وهذا ما دفع مثقفاً بريطانياً معاصراً، د. ديفيد وينز، (بروفسيور في جامعة أوكسفورد. بريطانيا) إلي إعداد 40 طبخة عربية عراقية عباسية، كما وردت في أحد كتب الطبخ الذي ألفه الشاعر المرموق (كشاجم)، وصورها ونشرها في كتاب. ومن يتتبع يقرأ عن عشرات كتب الطبخ العربية العراقية العباسية، منها كتاب مشهور جداً هو (مناهج الدكان فيما يستعمله الإنسان، من منافع الأغذية ودفع مضارها، للطبيب البغدادي المشهور ابن جزلة، المتوفي سنة 493 هجرية).

الطب والطبخ
ومن يقرأ أيضاً كتاب ابن سيار الوراق هذا: الطبيخ وإصلاح الأغذية المأكولات، وطيب الأطعمة المصنوعات، مما استخرج من كتب الطب وألفاظ الطهاة، وأهل اللب. يجد إلي جانب وصف الطبخة فوائدها الصحية، وتأثيرها الطيب علي البدن، وماذا تجنب من آلام. إن هذه النظرة العلمية المزاوجة بين إعداد الطعام والوصايا الطبية لا توجد الآن في أرقي دول العالم، وأعني بها دول العالم الأول (أوربا والولايات المتحدة)، فمن يعش في هذه الدول، لا يعرف ماذا يجرّ عليه تناول الهمبركر، والهوت دوك، والبيتزا، والستيك الخ من أمراض، وما تسببه من مضاعفات في جسمه، وشراينه، وقلبه، فقد رأيت في مدينة أمريكية واحدة (شيكاغو) في خلال أسبوع لي فيها، من البدينيين والبدينيات، والشرهين والشرهات، والسمينين والسمينات مئة ضعف ما رأيت طيلة 60 سنة من عمري في البلدان العربية (المتخلفة).

ما ضرّ الأجهزة الطبية، والأطباء، والهيئات الطبية وكل من يسعي لخير المواطن في أمريكا وأوربا أن يبين أخطار هذه المأكولات المدمرة لصحة المواطن. ففي هذه الدول يموت من أمراض القلب التي تسببها الأكلات غير الصحية مئة ضعف ما يموت من حوادث الطرق، والحرائق، وجرائم الاغتصاب، والسرقة، وحتي ضحايا الإرهاب (الإسلامي، والعربي بما فيه القاعدة ووو).

وبعد معركة مريرة مع المشرعين في الولايات المتحدة، المشرعين الذين ينظرون بعين واحدة، ويسمعون بنصف أذن، ويزنون الأمور بميزان صدئ، بعد معركة طويلة معهم وافق المسؤولون علي وضع نسبة للكسترول علي الأطعمة التي تباع في الأسواق، وهذه خطوة جيدة وإن لا تصل إلي المطلوب، لكنها خطوة في طريق طويل لم تصل إليه ثلاث دول أوربية زرتها قبل سنة: هولندا، ألمانيا، السويد.

النظافة
من يقرأ هذا الكتاب يدرك، ويستنتج، ويثبت أننا كنا قبل أكثر من ألف عام، أكثر وأفضل وأشد شعوب العالم نظافة، واعتناء بالغذاء، وبتنظيف الأسنان، وبإزالة الروائح من الفم، وبتطهير الجسد، الخ.

قرأت قصة ألمانية تدور حوادثها في نهاية القرن الثامن عشر، أن الشخصية الرئيسة فيها عندما كان طفلاً، لم يكن عندهم سوي إناء واحد يتبرزون فيه ليلاً (لشدة البرد) ويطبخون فيه نهاراً.

وإن كان الأوربيون لا يعرفون أسس النظافة الأساس في القرن الثامن عشر الميلادي، فكتابنا يبين معاناة الناس في تنظيف ما يعود إلي الطبخ والمطبخ، وبخاصة قدور الطبخ قبل أكثر من ألف سنة.

لا يجد المرء الآن، رجلاً أو امرأة أي صعوبة في تنظيف أواني الطعام: قدور، صحون، ملاعق الخ. يتوافر في محل للتسوق، كبيراً أم صغيراً مواد تنظيف، سوائل، مرشات تزيل الزيت والرائحة والطعم، قدور لا يلصق بها الزيت ومخلفات اللحوم والخضر والبقول.

أما القدور والأواني آنذاك فكانت مصنوعة من المعادن و الفخار أو الخشب والأولي يجب أن تنظف حالاً بعد الاستعمال لأنها تصدأ، والصدأ مضر، أما الفخار والخشب فهما مادتان مساميتان تدخل الزيوت فيهما، ويحتاج تنظيفها إلي جهد مضاعف عشرات المرات لكي تزال الرائحة والدسم منها. لنسأل أنفسنا كيف نزيل الدهون من صحن خشبي إن لم يكن لدينا سائل تنظيف، وإن لم يكن لدينا إسالة ماء معاصرة، أي حنفية، نفتحها فيتدفق ماء نظيف، معقم. كيف كان أجدادنا ينظفون قدورهم؟ آنياتهم؟

لابد من الذهاب إلي النهر. أو إلي ساقية تمر غير بعيد، وقد كان المنصور عبقرياً إلي درجة لا توصف، فقد طلب من المعماريين المخططين لبغداد حفر قنوات دائرية تأخذ ا لمياه من دجلة وتنتهي بها، كي يستطيع الناس كلهم أخذ الماء منها، وقضاء حاجيات التنظيف فيها بسهولة، وقبل أن يهدي الطابور الخامس بغداد إلي المغول وصف أحد الجغرافيين، واقع بغداد بأنها: يحيطها خمسون قناة.

أفضل صفحة غراء تبين نظافة شعبنا في العراق آنذاك وصية الكاتب في تنظيف القدور أن: تغسل القدور، ثم تطين، ثم تغسل من الطين الأول، ثم تطين ثانية، وتترك في الطين ليلة كاملة، ثم تغسل مرة أخري، ثم يأمر بشمها، فإن كان فيها رائحة (دهن. زيت) غسلت مرة أخري بالكرفس، فإن وجد فيها رائحة فعليه إعادة غسلها مرة أخري. ويبدو أن وظيفة الطباخ لدي الخلفاء والوزراء والأغنياء وذوي الشأن لا يتوافر عليها أي كان، فمن الشروط المهمة: كيفية إزالة الرائحة من القدور، وهي مهمة سهلة الآن، فعندنا في الوقت الحاضر كما تقدم آلات غسل تلقائي، وعشرات مواد كيمياوية، وتنظيفية تزيل الرائحة والطعم خلال ثوانٍ، أما آنذاك فلا سبيل غير العادات المتوارثة التي نقرأ عنها في عشرات كتب التراث، وما استقر عليه طلب الأطباء من توصيات، وأهمها هي أن يمسك الطباخ بحصاة نظيفة، ويشمها، ثم ينظف القدر، ويشمه، فإن رأي اختلافاً في الشم، عاود الغسل، حتي يري الرائحة نفسها في الحصاة والقدر.

الماضي والحالي
في العراق حيث كتب كتابنا هذا مازلنا إلي حد الآن نعدّ الكثير من طبخات ما ذكره ابن الوراق، فمازال خبز التنور نفسه، ولعل خبز الرقاق الذي ورد ذكره في تراث ما قبل الإسلام، مازال يعدّ، وكذلك السنبوسة، والجاجق، والكشك، والباذنجان المحشي، واللوبيا المسلوقة، والكيبايات، من كرشة المعدة محشوة بالرز والقيمة المبهّرة، والهريسة، وبضعة أنواع من الثريد، والسماقية الموصلية، والمخلمة، والقلية الموصلية التي مازالت تعدّ إلي حدّ الآن، من ثلاثة مواد رئيسة هي اللحمة (الهبرة) والليا، والبصل مع البهارات، وقلية الباذنجان، التي تتم الآن مع الطماطة، والشوي في التنور، والزلابية، والكليجية، والقطايف. الخ.

إن الكتابة عن الطبخ العباسي العربي الذي كان سائداً في المنطقة العربية من بغداد حتي الأندلس يأخذ من الكاتب إن أراد أن يبرز بأمانة رقي حضارة الأجداد مجلدات، أما اهتمام الناس في تنظيف الأسنان، بما يعادل الآن المعاجين المنوعة، فلا أظنه موجود قط عند أي أمة أخري حينئذ، وما هذا الكتاب وغيره سوي نقطة ضوء في نهار كان مشرقا قبل أكثر من سبعة قرون ونصف


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى