الاثنين ١٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم منى العبدلي

المبدعون قلق والهام وعزلة

عقل المبدع سواء كان فنانا تشكيليا، شاعرا أو كاتبا أو كان مصورا فوتوغرافيا، بحر شاسع من الخيال والانفعالات والتجارب والاحاسيس المختلفة. وتعاملة وتفاعلة مع الحياة والواقع يختلف عن غيره من الناس العاديين الذين ليسو من اهل الابداع.

فحافز التعبير وطبيعة الاستجابة لديه تكون أقوى وأعمق وأكثر حدة.

الفنان التشكيلي حين يرسم لوحة من الواقع، المصور حين يحبس لحظة من الحياة
الشاعر حين يعبر عن مكنونات نفسه، الكاتب حين يرصد مشهدا من واقع الحياة
جميعهم يضفي إحساسة الخاص ومشاعره وانفعالاته، لمسته الخاصة تجعل من الشي العادي أمرا يصل الى ان يكون خارقا وخلاقا.

إنه ما يسمى الجاذبية الفنية، الجاذبية التي تجعلنا نذهب لمعرض تشكيلي لمشاهدة لوحة رسمت بيد فنان وعلقت على جدار المعرض مع كونها متوفرة في الطبيعة بكثرة، الجاذبية التي تدهشنا بها صورة فوتوغرافية التقتطها عدسة مصور مبدع، والجاذبية التي تجعلنا نقتني القصص والروايات ونقرأ الشعر مأسورين بسحر الكلمات متماهين معها، إنها لمسة الفنان الخاصة وعينه الفاحصة التي جعلت من تلك الاشياء شيئا مختلفا واعطتها بعدا حسيا وعاطفيا وجماليا.

جميعنا نرى المشاهد ذاتها ونعيش أحداث الواقع اليومي نفسها، لكن رؤية الفنان والمبدع مختلفة فهو يراها بزوايا اخرى وابعاد خفيت عنا وظهرت له.

عين المبدع ترى ظاهر المشهد وما بطن منه...
حدسه يلتقط الإشارات الخفية وما خفي بين السطور..
حقيقته التي تراها كل العيون وسره الخفي الذي تراه عدسة المصور وريشة الفنان وقلم الكاتب، ترصدها محفزاتهم الداخلية وطريقة استجابتهم لرسائلها التي غابت عن ذهن الآخرين.

هذه الرسائل هي المحفز الذي يحرك عقل الفنان وفكره ليعبر ويبدع فيخرج العمل الفني من بين يديه مجسدا الواقع كأجمل مايكون وبرؤيته الخاصة وتفاصيلها المدهشة..
القصة لدى الكاتب...
اللوحة لدى التشكيلي..
الصورة لدى المصور الفوتوغرافي
والقصيدة لدى الشاعر

جميعها تمد روابط وتبني الجسور بين عقل المبدع وروحه وعقل المتلقي وروحه، فاتحة له نوافذ وزوايا جديدة لم يشاهدها عن الأشياء والحياة والانسان نفسه.

هذه الدهشة التي صنعتها أنامل المبدعين وهذه الفتنة الفنية الساحرة جعلتني احمل كل تساؤلاتي واتوجه بها إلى مبدعين في مجالات مختلفة وإن كانت قريبة الشبه من بعضها. فنانة تشكيلية، مصور فوتوغرافي محترف وكاتب ألمعي وفذ. وطرحت عليهم اسئلتي

المحفـــز

إن الحافز الانفعالي لدى المبدع هو الذي يخلق لديه الشعور المختلف عن الانسان العادي تجاه موقف أو مشهد أو صورة ويخلق عنده ايضا ردة فعل إيجابية تكون باعثا ومحفزا لخلق عمل إبداعي جديد.

كيف تتلقى عدسة المصور وريشة الفنان وقلم الكاتب تلك الاحاسيس الخفية التي لا يراها سواه وكيف يترجمها واقعا.؟ وما الذي يحفزه

قلق.. تساؤل ورغبة

حول المحفّز يرى الكاتب عبدالواحد اليحيائي أن القلق والتساؤلات، والرغبة المتسامية في الوصول إلى الأكمل والأجمل هي المحفّزات الأساسية للمبدع،. مؤكدًا أن المبدع مختلف عن غيره من الناس بهذا القلق، وهذه القدرة على بسط التساؤلات والانشغال بالتفكير في إجابات ترضي تساؤلاته، وبالرغبة في الوصول إلى الكامل الجميل كما يؤمن به.. فإن كان القلق والتساؤل والسعي باتجاه الجمال شعلة، فإن الموهبة الخاصة، والتعلم الذاتي، والتجريب والبحث، والممارسة، والغوص في النفس الإنسانية وما حولها ومن حولها بحثًا عن المختلف والجديد والقابل للتجديد والتطوير واستشعار المسؤولية تجاه الذات وتجاه الآخر هو ما يخلق العمل المبدع بمعناه الحقيقي، أي الإبداع الخالق الباعث على قلق أكبر وتساؤلات أعمق وخطوة أخرى باتجاه الجميل الكامل.

فالقلق سمة المبدع الكبرى، وعلى ضوء هذا القلق والتوتر الناشئ عنه يحرك البواعث والنزعات الإنسانية وتحركه هي أيضًا، والإبداع في النهاية قضية مشتركة بين كل الأطراف؛ المرسل والمتلقي وأداة الإرسال. والمبدع باحث عن الجمال في كل شيء، وأنا لم أصل بعد إلى الكمال الذي أرتجيه، فعملي معرض للنقد الذي يزداد به جمالاً وإبداعًا.

حساسية فنية

غير أن القاص صلاح القرشي يعلّق التحفيز فقط على قدرة هذا المبدع على صياغة ما يعتمل في داخله بطريقة قد لا يجيدها الآخرون.. مبينًا ذلك بقوله: لا استطيع أن أدعي أن المبدع كائن خرافي يمتلك قدرات لا يمتلكها الآخرون، ويبدو لي أن المسألة تتعلق فقط بقدرة هذا المبدع على صياغة ما يعتمل في داخله بطريقة قد لا يجيد الآخرون القيام بها، وبالتالي فإنهم يعجبون بما يكتبه المبدع عندما يجدونه متناغمًا مع مشاعرهم وهمومهم، كما لا أعتقد أن لدى المبدع شعورًا مختلفًا عن شعور الإنسان العادي، فالانفعال تجاه المحفزّات موجود لدى الجميع باختلافات بين فرد وآخر طبعا، فالذي يختلف فيما يخص المبدع هو تلك القدرة العجيبة على إعادة إنتاج ذلك المحفز بطريقة فنية، لنقل إذًا أن ردة الفعل هي ما يختلف وليس التأثر نفسه..

هنالك أيضا ما يمكن تسميته بالحساسية الفنية لدى المبدع. وفيما يتعلق بجانب السرد فإن قدرة القاص أو الروائي على التقاط اللحظة أو المشهد الذي قد يبدو للآخر عاديًّا، أو بسيطًا، أو غير مهم، ومن ثمّ إعادة إنتاجه بطريقة فنية تختلف علاقتها بالواقع قليلاً أو كثيرًا.

فالقلق هو رفيق الإبداع في نظري، ربما يرافق المبدع دائمًا هاجس الخوف من عدم القدرة على الإتيان بالجديد والمختلف، وهذا الخوف مزعج جدًّا ومربك؛ خصوصًا عندما تطول فترة الصمت أو الانتظار، فدائمًا ما يشعر الكاتب بحاجة متواصلة للوصول إلى فكرة جديدة إلى موضوع جديد وهذا يعني قلقًا متواصلاً ومتعبًا.
موقف غير مؤجل

فيما ترى المصورة الفوتوغرافية شادن المرشد أن عين المصور وإحساسه هما العنصران الأساسيان لالتقاط ما قد لا يراه الآخرون.وتضيف: فمن الطبيعي جدًّا أن نكون في جلسة نحتسي القهوة، وتمتد يدي بلا شعور للكاميرا، لألتقط موقفًا لا يحتمل التأجيل، ولو كنت متحدثة في تلك اللحظة، فكوني أتحدث لا يعني أنني في عالم آخر أجمل. أيضًا السمة التي قد تكون مأخوذة عني «السرحان» لحظة الأحاديث العامة. حقيقة، هو ليس سرحانًا، قدر ما هو التقاط لحكاية، أو كلمة أحيانًا.. أبتدئ منها بالاشتغال على فكرةٍ ما.وتضيف شادن: أنا قلقة بطبعي، وربما تشغلني وتقلقني فكرةٍ حد الإعياء في أحيانٍ كثيرة، فالكثير من الأفكار تواجهني شخصيًا صعوبات في تنفيذها، ولا يكون في مقدوري حينها سوى تنفيذها بقلم رصاص مرسومة في دفتري الصغير. هناك أفكار تتطلب «موديلز» بمواصفات معينة، ناهيكِ عن أن توفر «موديلز» في الأحوال العادية شبه معدوم – بالنسبة لي-، بالتأكيد أن للنظرة التي لا تزال قاصرة في مجتمعنا –للأسف الشديد- تجاه هذا الفن تأثير عميق وإن أنكروا ذلك، أشعر به مترسبٌ في باطنهم دون أن يشعروا. أيضًا هناك أفكار أخرى تتطلب احتياجات صعبة التوفر بطريقة أو بأخرى.. حقيقة لا أحب أن أحرق أفكاري، فأنا حين أصرّح بفكرةٍ ما..»تطيح من عيني» بشكل أو بآخر.. أستمتع بالعمل بعيدًا عن الأضواء قدر استطاعتي.. أعي جيدًا أن أعمالي هي «شادن» كما هي تمامًا دون أي تزييف، لذا فالكثير من أعمالي لا يراها أحد، وبعض هذه الأعمال قد أعرضه بعد أن أكون تخطيت تأثير العمل، وقد يكون ذلك بعد سنتين أو أكثر، فلك أن تري كم الأشغال الشاقة التي أحتفظ بها في رأسي هذه المدة.

شغف بالطبيعة

المصور الفوتوغرافي سعد العفالق يجد (محفّزه) في الطبيعة بجمالها كشفًا عن أسرارها حيث يقول: وراء أعمالي الفوتوغرافية يكمن شغف حقيقي بالطبيعة العذراء، وبأعماق البحار، حيث أشعر برابط قوي مع الكائنات البحرية ومع الطبيعة، بالتالي أتعامل معها بحميمية أكبر تتيح لي نظرة أقرب، ووقت أطول للتأمل. والنتيجة في النهاية تكون بالتأكيد أكثر حميمية تدعو لاحتضان الطبيعة سواء كانت برية أو بحرية. وعمومًا النفس تمر بمراحل سبات طويلة متبوعة بيقظة، هذه اليقظة تتمثل في عودة قوية بمجموعة فنية تفوق سابقاتها روعة.

رؤية مختلفة

أما الفنانة التشكيلية فاطمة المحسن فيتحدد الحافز الانفعالي لديها بالرؤية المختلفة التي تمكنها من تلقي المؤثرات المحيطة بها بطريقة مغايرة لما حولها. وما يحفزها في ذلك قناعة تامة بأن لديها شيء مختلف تقوله، ووحدها القادرة على التعبير عنه. مؤكدة أن المبدع يجب أن يعتني بالمعنى، فيما ستعتني المفردات بنفسها.وتضيف قائلة: هناك علاقة طردية بين نجاح المبدع، وقلقه. والشخصية المبدعة في حالة بحث دائم للحفاظ على تفرّدها واستقلالية تجربتها، وبصمتها الكتابية المميزة. ولابد أن يستمر المبدع بالكتابة ليصقل موهبته، فالموهبة نصف الإبداع، ونصفه الآخر هو المران الكتابي.

المحك المفرّق

ويعود اليحيائي متحدثًا عن كيفية استدعاء المبدع لأدواته بقوله: المبدع لا يستدعي أدواته؛ فموهبته في ذاته، وأدواته منه، فالفكرة المختلفة محفز بحد ذاتها، والانزعاج قد يكون محكًّا مفرقاً بين المبدع النشيط وذاك الأقل نشاطا، النشيط يحولها إلى إبداع مختلف، أما بالنسبة للأقل نشاطاً فقد تكون هي الأخرى فرصة ضائعة مع الفارق، أنه ضياع لا يطال المبدع وحده؛ بل يطال الناس أجمعين. من الشاعر نفثة، ومن الرسام خبطة بالريشة، ومن القاص موقف، ومن الموسيقي نغم.. شيء يحيك في صدرك وتود أن يطلع عليه الناس، والإبداع الجميل من شأنه أن يخلق آلية الوصول إلى الناس.

القبض على الفكرة

ويرى القاص القرشي أن الأدوات تكون حاضرة بمجرد القبض على الفكرة أو الموضوع فيما يخص السرد.. ماضيًا في قوله: عندما يبدأ السارد في تدوين ولو رؤوس أقلام، أو خطوط أولية لموضوع ما أو فكرة؛ فإنه يكون قد دخل معمعة الكتابة، ولا يحتاج آنذاك سوى للوقت والجَلَد، وإعادة الكتابة مرات عديدة حتى يصل إلى شيء من الرضا عمّا خرج به في النهاية. على أن المتعة التي يجدها الكاتب أثناء الكتابة موازية أو مساوية لذلك القلق الذي لا يفارقه قبل الشروع في الكتابة، أو بالأصح قبل القبض على ماهية ما يريد كتابته.

نظرة فريدة

التأمل هو أحد أهم أدوات المبدع كما يقول المصور سعد العفالق، ويعد هو الملهم الأول للفنان. فهو يحصل على الإلهام مما يراه، ومما يحسه في شتى مجالات حياته. فالسر الإبداعي بالنسبة لمصور الطبيعة يكمن في تكوين علاقة قوية مع الطبيعة الأم ليتأمل هيبتها وجمالها وعظمتها ويشعر بها ليقترب أكثر، ويتفحص ما لا يراه غيره، فتكون له نظرة فريدة لا مثيل لها.

تصوير فلسفي

وتؤكد المصورة الفوتوغرافية شادن المرشد على أن الأدوات وطريقة التعاطي معها تختلف من مصور لآخر، مضيفة بقولها: أميل للتصوير الفلسفي والحياة الصامتة، فإن المسارعة في تنفيذ الفكرة، إن كانت مكتملة، ساعة تحين؛ يجعل العمل ناجحًا بدرجة أكبر مما لو أهملته. فتأجيل الفكرة بالنسبة لي يعني موتها. وما أكثرها..أما وإن كانت الفكرة غير مكتملة، فيستحيل أن أستعجل بتنفيذها، قد تأخذ الفكرة شهورًا طويلة، فوق نار هادئة، حتى تخرج كما أريد لها. تلك الأحاسيس المزعجة، قاتلة بدرجة كبيرة، بالنسبة لي. فهي تنام وتصحو معي أشهر عديدة.

تدوين فوري

وتتعامل الفنانة التشكيلية فاطمة المحسن مع دفق الأحاسيس بتدوين أصل للحكاية، وكتابة أفكار هي بمثابة مفاتيح لما سيتشكّل لاحقًا فكرة أو قصة أو لوحة فنية، حتى لا تفلت الفكرة منها، وتشرح ذلك بقولها: أعمد إلى تدوين أصل للحكاية، بوصف موجز للشخصيات، ومفردات قابلة للتبرعم كحوارات. وأعود لها حين تحين لحظة ولادة القصة. وأعتمد على منهجية محددة للكتابة، لكن متى ما شعرت أنّ القصة تمر في ذهني كشريط متسلسل من الأحداث المترابطة، ابدأ في الكتابة فورًا، ولا أنجح أبدًا حين أحاول افتعال تلك اللحظة.

تفاوت القدرات

وحول دور الإلهام في حياتهم الإبداعية أكد المبدعون أهميته، حيث يقول الكاتب اليحيائي: كل كائن حي يلهم ويستلهم، لكن ميزة الفنان أنه يضيف رؤيته الخاصة إلى ما يستلهمه ممن ومما حوله؛ فيتحول إلى شيء آخر مختلف، فالمبدعون يتفاوتون بحسب ما يملكون من قدرة وموهبة على الرقي بما استلهموه، كما يختلف أولئك الذين يتلقون منهم الإلهام في قدرتهم على تذوق هذا الإبداع القادم

استغلال لحظات التدفق

ويؤكد القرشي على ضرورة القبض على الموضوع في بداية شروعه في الكتابة، حيث يقول: ربما تكون مسألة الإلهام أقرب للشاعر منها للقاص أو الروائي، هكذا كانت صورة الشاعر الذي تشكل له ملهمته وقود الإبداع، أو ربما هكذا هي الصورة النمطية للشاعر في أذهان الكثير، لكن فيما يتعلق بالسرد فالمبدع بحاجة كما قلت سابقًا إلى مسألة واحدة مهمة في البداية وهي القبض على الموضوع، فبعد ذلك يمر الكاتب بمراحل تدفق لا أعرف هل لها علاقة بالإلهام أم لا، ففي أحيان يمكن أن أكتب لعدة ساعات متواصلة بلا كلل، وفي أحيان لا أستطيع الكتابة لبعض دقائق رغم حضور الموضوع، وعلى الكاتب في هذه الحالة أن يستغل لحظات التدفق تلك أو لحظات الإلهام لو أردتم تسميتها بهذا الاسم خير استغلال.

سطوة الإلهام

ولا يختلف الأمر لدى المصور الفوتوغرافي سعد العفالق حيث يؤكد على أن الإلهام هو شرط أساسي؛ فالفنان لا يخرج بعمل قوي إلا بعد رؤيته في مخيلته ليقول وجدت ما أبحث عنه، فعلى سبيل المثال الطبيعة موجودة تنتظر من يقدمها في إطار جميل، ويمكن لأي أحد أن يعود إليها ويصورها؛ لكن العمل الناجح لا يخرج إلا من إلهام، حيث يتأمل الفنان الطبيعة، ويكتشف زوايا جديدة يستعد لها، ويلتقطها في الوقت المناسب من اليوم ليخرج بتحفة رائعة لا مثيل لها.

مزيج صعب

أما بالنسبة للمصورة شادن فالأمر كما تقول مختلف لديها إذ تعتبر الإلهام عنصرًا مكمًلاً لا شرطًا أساسيًّا في أي عمل إبداعي، وتشير إلى أن حالة الإلهام بحد ذاتها مزيج يصعب الحديث عنه. حيث أن المعطيات والظروف تختلف من شخص لآخر، ولا يمكننا توحيدها تحت سقفٍ واحد. تلك الحالة، تزورني مرحلة ما قبل النوم، لذلك أنا قلقة، وهناك مساحات شاسعة لا يمكن الحديث عنها.

خطوة أولى

الإلهام في حياة الفنانة فاطمة هو الخطوة الأولى للكتابة، وتؤكد على أنه ليس أمرًا سماويًّا شديد التعقيد، وموغل في الروحية؛ بل هو أبسط من ذلك كثيرًا، وقد يومض من خلال كلمة عابرة، أو صوت خفيض، أو شخص مشحون بانفعال ما. وأحيانًا استجديه عبر القراءة المنتقاة عندما يشحّ وجوده في تفاصيل أيامي

عزلة مرفوضة

وفي محور العزلة التي يفرضها بعض المبدعين على أنفسهم إلى الحد الذي يفقدهم الصلة بالعالم بغية اكتشاف ما بدواخلهم ونبش المخبوء وبعث مواردهم الروحية يقول اليحيائي: الذين اعتزلوا العالم ليبدعوا لم يكونوا هم الأجمل في تاريخ الإبداع الإنساني، من شاركوا وحاوروا ووافقوا وعارضوا ورضوا وغضبوا كانوا هم الأجمل، وأيضًا كانوا هم الأكثر مساهمة في الرقي بفكر الإنسان وثقافته وفي كل ميدان.

ضد الأبراج العاجية

ويوافقه الرأي القاص القرشي قائلا: القاص لا يجد مادته إلا من خلال الغوص في مجتمعه والتواصل مع كل فئات هذا المجتمع. ولا أعتقد أن الأبراج العاجية يمكن لها إنتاج إبداع حقيقي وصادق؛ لكن في مقابل هذا يحتاج الكاتب لحظة الكتابة إلى شيء من الهدوء والسكينة؛ بعيدًا عن المنغصّات اليومية التي ستحد كثيرًا من تدفق الكتابة وانطلاقها، وأيضًا لابد من التأكيد أن الانغماس في الحياة الاجتماعية لا يلغي أيضًا حاجة الكاتب إلى الكثير من تنظيم وقته بحيث يعطي مجالاً مهمًّا للقراءة التي تمثّل دائما وقود الكتابة.

عزلة لذيذة

غير أن المصور الفوتوغرافي العفالق يخضع الأمر للجزئية ويصف العزلة باللذيذة بقوله: بالفعل.. أغلب أهل الإبداع يفرضون على أنفسهم عزلة لذيذة؛ لكنها ليست عزلة كاملة، بل هي جزئية تسمح للمرء بالتركيز على استخراج ما في مكنونه دون الاضطرار للتعامل مع ما قد يشتت تركيزه، ويبقى الفنان على هذه الحالة في عزلته حتى يشتاق للناس، فيخرج عليهم ليخالطهم ويعيش حياته الاجتماعية بشكل طبيعي حيث يستقي أفكاره وإبداعه لتتراكم حتى يعود لعزلته من جديد.

عزلة متقطّعة

وتتفق معه في الرأي المصورة الفوتوغرافية شادن حين تصنّف نفسها من الفئة التي تحبذ العزلة قائلة: قد أكون إحدى أولئك الذين يلجئون للعزلة بين الفينة والأخرى، فأنا معروفة بذلك في الوسط القريب، وشخصيًّا ألجأ لها دون تحديد زمان حين أشعر برأسي مثقلة بأفكار أعجز عن تنفيذها، فعزلتي لن تكون في مكان غير صومعتي بالطبع، المكان الذي شهد تنفيذ أغلب أعمالي.

طقس صوري

فيما ترى الفنانة التشكيلية فاطمة أن العزلة طويلة الأمد هي محاولة للابتعاد عن المشهد الحياتي المؤثّر، مؤكدة أن القاصّ لا يحتاج لعزلة طويلة الأمد كالروائي. فالحدث القصصي قد يحتاج لوقت حتى يختمر في الذهن، وتتشكل بنيته الدرامية، لكن نضجه سريع. والعزلة الطويلة الأمد هي محاولة للابتعاد عن المشهد الحياتي المؤثر للتأمل واستعادة بريق الأشياء، وقد تكون طقسًا صوريًّا لتفريغ شحنات الكتابة، لكنها ليست بذرة الكتابة، فالبذرة الفعلية نمت حين ومضت الفكرة بتأثير من الناس والحياة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى