الأربعاء ١٧ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم غزالة الزهراء

المتمردة 

سردت الأيام الحالكات قصتها بقلب راجف، ولسان يسيل أسفا، واستياء: هي ابنة الثامنة عشر ربيعا، متوهجة العواطف، ساحرة الشفتين، ذكية النظرات، متمردة إلى أبعد حد، لا يهمها سوى نداء قلبها الضعيف، أما العقل هذا الذي يسمونه عقلا ليس له مكانة مرموقة في قاموسها. 

تسلل(عماد) من بين الأشجار المتعانقة أغصانها حتى بلغ منزلها، هذا هو موعد لقائهما الساخن، يتصنع أمامها طهارة الحمل الوديع كيلا يسقط عنه قناع غدره، وكيلا يفتضح أمره دفعة واحدة،

يلتقي بها في الخفاء تحت جنح الظلام كالخفاش، كوباء الطاعون، أجهد نفسه ليسكب في أذنيها كلاما دافئا في دفء الموسيقى الحالمة، رقيقا في رقة مشاعر الحسناوات، حلوا كشهد العسل المصفى. 

ــ لنهرب معا من دنيا الجحيم.

ــ إلى أين؟

ــ الجنة السندسية في انتظارنا، ألا تعرفينها؟ ألم تسمعي بها؟ تهدل في فضاءاتها النقية العنادل السحرية، العجيبة، وتتوهج شمسها تطارح النهار غرامها من غير وجل ولا حياء، الجنة الخلابة منظرها في انتظارنا، سنحيا مع بعض، نتلاحم لنشكل قصة فيروزية خالدة، ونبتكر زورقا من ذهب نبحر على متنه نحو الأزل، ونترنم بأغنيات شيقة تدفع عنا جنون العذاب، وسطوة الموت. 

صمت هنيهة كأنه يفتش في كواليس ذاكرته عن كلام آخر يكون أرقى وأجمل، ثم أردف قائلا محاولا إخفاء خديعته بين جوانحه: سأكون لك زوجا فاضلا يعبد ثرى قدميك، ويكون قلبي لك بمثابة سنديانة تحتمين بظلها الوارف، وتكرعين من أنسها وبهائها، وسيرتل لك لساني الوفي أجمل أغاني الحياة المفعمة بالأحاسيس الصادقة، الطافحة بالبشر، والتفاؤل، والمسرات، سأكون وإياك في معبد الحياة نتذوق قطرات سعادتنا، وننتعش حتى الثمالة، ولا تدعي الشكوك تنخر خبايا تفكيرك، وتسمم بدنك لأن ما شيدناه بأحلامنا الوردية لا يمكن أن ينمو في غاب الهواجس، والأضاليل، والظنون الآثمة، تأكدي بأنني سأحميك من أظافر الزمن الغادر، ومن لوعة النكبات، ومن مخاوف الليالي الزنجية الحالكة، وافقي لأطير بك فوق الضباب سابحا بك في السماوات العلا، لا تترددي لأن التردد من سمات الجبناء، إذا باعدت المسافات بيننا سأتيه، وأعدم بدون شك.

هل تشعرين بالرضا يملأ جوانحك إن تلفظتني الحياة من جنات دفئك، ومن قلاع مشاعرك، وورود أحلامك؟ 
كانت الريح آنذاك تهب خفيفة، تلامس وجهيهما، وتداعب أوراق الأشجار بلطف وحنو، وتراقص أحلام(فريدة) فتتمايل مثملة سعادة وهناء.

ــ لا ترهقيني بصمتك المكثف هذا، لا ترديني خائب المسعى، مكسور الخاطر.

ــ ألا أخبر أهلي؟ ألا أودعهم بتلويحة من يدي؟

ــ أنت مجنونة من غير شك، أتظنين أن أهلك يوافقون على ارتباطك بي؟ أتظنين هذا؟ أنسيت أنك ما زلت تدرسين في سنة ثانية ثانوي؟

هتفت من غير صبر: معك حق، سأرحل معك، وأترك قريتي إلى الأبد، و......

قاطعها بخبث يفوح من فيه: وتكونين حمامتي الوديعة لروحي، ترفرفين ابتهاجا في أدغال أسراري، وترعين في مقلتي حتى المغيب.

ــ أنا أودعك كل ثقتي، أسلمك فؤادي الناصع البياض، ولن أتخلى عنك مهما تعقدت الظروف، واسودت الأيام، سأفرح لجوارك الحميم، وأكون لك الشحرورة المغردة التي تحيا بقربك على مدى الأزمان، وننسج معا بتآلفنا وانسجامنا حكاية مثيرة يتغنى بها العشاق والمحبون، ونكون رمزا للإقدام، والتحدي، والمواجهة.

في لهفة المنتصر قال: لنرحل الآن قبل أن يرسل الفجر خيوطه الأولى.

فجأة التهمهما وحش الظلام في جوفه، لن يبدو لهما أثر. 

انبلج الصبح، وارتفع صياح الديكة من كل جهة ممزقا دثار السكون الجاثم على كتفي القرية.

تناقلت القرية العذراء قصتها المشينة على ألسنة جارحة لا ترحم ضعف الضعفاء.

قيل: قطعت هول البحار مع شاب وسيم لتصير ثرية وناعمة البال، وقيل هربت لتحيا حياتها بكل دقائقها خوفا من انقراض الرجال، وقيل اختلاطها بالذكور في المدرسة جعلها تتمرد على أهلها، وعشيرتها وتدلف عالم النتانة والفساد. 
كثرت الأقاويل، وتضاربت في أوج عنفوانها، وصار الحديث عنها هو المحور الوحيد.

ها هي تعود مجددا تجر أذيال هزيمتها لتلتمس الصفح من والديها ولتعيش بينهما إلى الأبد.

تسمرت في مكانها كالوتد، أناس قريتها احتشدوا صغارا وكبارا، شابات وشبانا، شيوخا وعجائز، ماذا ينوون في سرائرهم هؤلاء؟ أترى بم سينفجرون أمامها؟ لن تنتظر منهم لقاء حارا يثلج قلبها المدمى الذي أثخنته الجراح، والكلوم البليغة. 

طافت بنظراتها الذابلة هنا وهناك، قرأت في عيونهم ألوان اللوم والعتاب، فهل تستكين لصمتها هذا، وتنزوي تحت ردائه الرث كطير مهيض الجناح؟ هل تنخرط في نحيب مر يضارع مرارة العلقم حتى تأخذهم الرأفة بها؟ هل تصرخ عاليا وتقول لهم: لقد عدت لأعيش بينكم، افعلوا بي ما بدا لكم، صبوا علي جم غضبكم، أضربوني إن شئتم، أنتم على حق، إنكم ساخطون علي أشد السخط لأنني اقترفت خطأ فادحا وبسببه مرغت رؤوسكم في وهاد اليأس، واللاأمل، فبم تحكمون علي؟ أرجو ألا يكون حكمكم قاسيا، وبشعا في بشاعة الظلم والاستبداد، أتوسل إليكم أن تكونوا منصفين في حكمكم حتى أنسلخ من هذه الدوامة الرهيبة التي تشابه الكوابيس المفزعة، إلى متى سأظل على هذه الحال وأنا أكابد جراحات الدهر، وأضطجع إلى النوم مضمخة بالأنين الفتاك، والتنهيدات المسعورة؟ ألا تأخذكم الشفقة بي؟ ألا تعطفون على واحدة مثلي جرفتها عواطفها المجنونة صوب الشؤم والخراب؟ أبسطوا علي جناح رحمتكم لأنكم ستخففون عني وطأة العذاب، والإثم.

لقد زين لي ذلك الفتى اللعوب سماء الحياة حتى تصورتها الينبوع الخالد، والجنة بحد ذاتها. 
سرعان ما انتبهت إلى نفسها أنها لا زالت صامتة لم تنبس ببنت شفة، وأنها لا زالت تتحسر على فعلتها الشنعاء التي لم تكن سوى مجلبة للعار والفضيحة.

مزق السكون الثقيل الجاثم على الصدور صوت أحد الرجال: أنظروا إلى هذه الفتاة الدنيئة التي عادت لتحيا بيننا، وفي قريتنا الوديعة، هل ترضوا عن قناعة ببقائها الدائم معنا؟ أيعقل هذا؟ لا نسمح لها بأن تدنس ديارنا، وتخالط نساءنا العفيفات، وأطفالنا النزهاء، وبناتنا الشريفات، لا نسمح بهذا مطلقا، إن أرضنا تجزع منها لو لامست بقدميها ترابنا، هذه هي الوباء الذي يسمم أجسادنا، وديارنا، وشياهنا، ونساءنا، لو عاشت بيننا حية ستنفث سمومها القاتلة فينا، ستدمرنا على أعتاب غلطتها الفادحة، فكيف نسمح لها بأن تقيم بيننا ناقلة إلينا عدواها ووباءها؟ أصرخوا في وجهها صرخة الفزع حتى ترتد على أعقابها، وتعود من حيث أتت، لا ندعها تدنسنا، وتحيل نهارنا المشرق إلى ليل مدلهم مخيف تتوزع في ثناياه الغربان الناعقة، والنسور الجارحة، أين توارى حياؤها؟ ألم تسمع بالعفة؟ ألم تسمع بالشرف؟
عادت مجددا لتفسد بناتنا، وتشوش أفكارهن، وتلطخ أحلامهن في مهدها، أيعقل أن تعيش هكذا وبدون عقاب يردعها؟ صدوها إلى الجهة الأخرى التي ألفتها، إلى جهة النتانة، والزنا، والفساد. 

نطق آخر وهو يشفي غليله فيها: لماذا عدت الآن؟ ما الذي دفعك للهروب ليلا، والتمرد على عشيرتك ودينك؟ أنظري إلى نفسك، وكيف ألحقت العار الوخيم بقريتك وأهلك؟

تدخل آخر مدويا كالرعد القاصف: لا نرضى للفساد أن يغمر قريتنا الحبيبة، ويقتل فينا نخوة الرجال، لترحل هذه اللئيمة عن ديارنا، وإلى أبد الآبدين.

انفجر الجميع دفعة واحدة: لترحل، لترحل. 

انبثق صوت الوالدة ملفوفا بغصات الألم والفجيعة: هي بحاجة ماسة لمساعدتكم، أعنوها على النهوض من صدمتها، حرام أن تؤلموا هذه الزهرة اليانعة، إنها ابنتي، فلذة كبدي، ألا تكمن في أفئدتكم رحمة؟ ألا تشعرون بعذاباتها، وإحباطاتها؟

وجثت على ركبتيها تستدر عطفهم، وتتوسل إليهم توسل الذليل المهان: ماذا تجنون لو طردتموها من قريتها، وحرمتموني من رؤيتها، ومؤانستها؟

زمجر آخر كأنه هدير عاصفة رعناء: سنطهر قريتنا من الخزي والعار. 

لطمت خديها بقوة، وصاحت ملتاعة كلبؤة على وشك فقدان شبلها الوحيد.

تبادل القوم النظرات الحيرى فيما بينهم، ثم طفقوا ينسحبون الواحد تلو الآخر.

ها هي تتهاوى على الأرض حين لمحت والدها قادما من بعيد وهو يحتضن بندقيته.
 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى