السبت ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم بيانكا ماضية

المرأة في مرآة الروح

يحلو لي دائما كلما قرأت ديوانا جديدا أن أبحر في أعماق الشاعر تارة بين أمواج أفراحه وأخرى بين أمواج أتراحه، ولا يفوتني أن أغوص بين مفرداته، علني أعثر على عروس بحاره وهي المرأة في شعره، وهذا ليس فضولا وإنما لأتوج هذه العروس بكلمات نابضة كالشعر.

ولذا فإني حينما قرأت وكتبت سابقا عن ديوان «ذاكرة بلا أبواب» للشاعر محمد خليفة العطية شعرت أن حزن الشاعر ليس حزن اليأس والقنوط وإنما يتطلع الى الأمل والسلام والأمن. ولما قرأت هذه الأبيات في قصيدة العودة:

أتيتك أبحث عن مستقر

وأنفض عني غبار السفر

أتيتك تحت ظلال الفؤاد

وحر الشعور وبرد النظر

ودفئك أجمل ما في الظلال

وطلعك أجمل ما في الثمر

وقلبك أرحب ما في الوجود

وحبك أروع ما في القدر

.. حين قرأت أدركت من هذه الأبيات، وكل قصائد الديوان أن المرأة عند الشاعر ليست المرأة - الحُسْن وإنما هي الإلهام والوطن. وحين انتهيت من قراءة الديوان شعرت وكأنني لم أقف حقا على شخصية الشاعر بكل أبعادها حتى قرأت ديوانه (مرآة الروح) والذي لم أكن قد قرأته، رغم أنه الديوان الأول، والحق أن هذا الديوان (مرآة الروح) للشاعر محمد خليفة العطية مرآة مصقولة واضحة صادقة بكل ما ينعكس عليها من وجدان. فرغم اختلاف أغراض القصائد في الديوانين بعض الشيء إلا ان الوجدان واحد والصدق واحد والحب واحد.

فعلى «مرآة الروح» تتجلى شخصية الشاعر بين النزعة الرومانسية والاستجابة الواقعية، كما أشار إلى هذا من قبل الناقد الدكتور محمد عبدالرحيم كافود، «فمرآة الروح» مثالية لأن النزعة الروحية في أعمال الشاعر تتجلى في الحب بأجمل الفضائل فيه وهي الوفاء وتقدير المحبوبة وإدراك المعنى الحقيقي للحب.

ولذا نراه يصرح بذلك في قصيدة (وفاء) وهي أولى قصائد الديوان فيقول:

فقدسية العشق حفظ الوفاء

وإلا فكل الهوى مزدرى

فألقى مراسيك في يم صدري

لأن الموانىء لن تقدرا

ولذا كانت روح الشاعر تتشوق لروح المرأة الوفية التي تتواءم مع فكره وتقاسمه روحه وهي التي تتغلب اشواق روحها وحلمها مثله على نداءات الجسد.

.. وكلما طوفت بروحي وفكري حول «مرآة الروح» للشاعر وجدت أن معظم قصائده نجوى لروحه وقلبه ولملهمته التي تتوسد خياله وتستبد بقلبه وفعله فلن يرضى بسواها ولو خلت دنياه من قلب يواسيه غيرها.

.. فالمرأة في «مرآة الروح» حالة شعرية، روح هائمة، وهج ملهم، فالشاعر في قصيدة «نور» يحسها نورا، ويقدس فيها طقوس خياله:

أحسك نوراً بسمعي يضيء

ويطلق في الصدر صوت الحنين

فيجذبني صوتك المستكين

أقدس فيه طقوس الخيال

ويشعل في العين شوق النظرْ

بقلب تناغم مثل الوترْ

إلى عالم يستثير الفكرْ

إذا ما تجلت بحس الصورْ

ويظل الشاعر يناجي محبوبته نهارا وحتى تسقط آخر نجمة من سقف الليل علها تهبط من فضائها وتحط على أوراقه مجاهرةً بحديثها فيمتع عينيه وقلبه بمرآها، متوسلا إليها ألا تغيب، فيقول في نفس القصيدة:

وإن كنت غيبا بعلمي فمنه

حديثك الف حبيب ظهر

تحدث عنك بهمس رقيق

وأنبأ بالحسن حتى جهر

ألفتك سمعاً وقلباً يرق

به الشوق والعين كم تنتظر

فلا تمنحيني بعيد الوصال

عذاب الصدود فهذا مضر

.. وكما تظل أهداب النوارس عالقة بالشواطىء.. يظل أمل الشاعر أن يحط عند مينائها فيستمر في رحلة نجواه لملهمته في قصيدة (رحلة المشاعر الوحيدة).

ذابت خطاي على عذابات الطريق

سعياً إليك وملء أنفاس خطى

وموانىء في الدرب ظِلُّ ملالة

وكذلك الآمال في القلب السحيق

واليأس طرف بين أجفاني غريق

ياللضليل ويالأعباء الطريق

ولما يأس الشاعر من الدوران في هذا الفراغ الهائل بعيداً عن خيمة محبوبته فضض الدمع عينه فناجى ملهمته في نفس القصيدة:

يا ساكن المنأى البعيد ألا ترى

دمعاً يشع صبابة منه العيوق

لا شيء في عيني سواك أضمه

صدري الفضاء وطيره الأمل الطليق

ويظل الشاعر يناجي ملهمته التي في فضاءات خياله فقط فتستزيده المناجاة شعرا يقطر حبا.. وهل هناك غير الحب ما يعلم الإنسان كيف يناجي روحه ونفسه ويندمج مع غيره.. ولحظة ان شعر باليأس تراءت شكوكه في قصيدة «بكيت على السعادة» فيقول:

بكيت على السعادة بيد أني

واطرق باب معتكفي واشكو

فأغفو بين سكرتها واصحو

خلت دنياي من قلب يواسي

أقول لفقدها لا تذكريني

لنفس قسوة الدنيا وهوني

ببث الهم حتى يحتويني

فبات البؤس خلاً يزدريني

.. وما يلبث الشاعر ان يهدأ حتى تتفجر ينابيع الأمل مرة أخرى فيعود بلهفة الى ملهمته يناجيها بحرقة في قصيدة (حرقة من الأعماق):

لولا الذي عانيت منك لما سعى

قلبي إليك بلهفة الأشواق

ولكنتُ أقربُ ما أكون إلى الردى

حيث الحياة تموت في أعماقي

أنت الحياة وأنت بسمة بائس

رقت جوارحه من الإشفاق

ماذا عساني أن أقول لما مضى

فمرارتي تغلي من الإحراق

ثم ينهي حواره بمناجاة روح الشعر..

حسبي خيالاً لا ينم بواقع

أرجوه دوما لحظة الأطراق

قد عشت بي روحاً يموت به الهوى

حتى بليت وروح حبك باقي

... إذا كانت المرآة تعكس على البصر ما يضيء عليها من الشعاع فتضاعف سطوعه «فمرآة الروح» عند الشاعر محمد خليفة العطية تعكس شعره على الوجدان فيزيد الوجدان إحساسا بوجوده.

ولذا نجده يشارك كثيرين من الوجدانيين العرب في رؤيتهم ورموزهم الكلية لبعض المعاني النفسية التي سيطرت عليهم كالغربة ورموزها والحب ورموزه. وقد كان الليل أحد الرموز المشتركة بينه وبين هؤلاء الشعراء باعتباره قرينا للغربة والوحشة كما كان عند كثير من الشعراء القدماء وإن كان أخذ شكلا جديدا.. فمن قصيدته «رحلة المشاعر الوحيدة» يقول:

ليلى يلملمني على جسدي وفي

فوسادتي فكر يطول وحيرة

عيني نعاس كم يمزقه الشروق

نامت مكبلة على جفن مفيق

.. وفي قصيدة (مرآة زمنية)

ليل الخريف وزفرة السأم

ليل هزيل واهن القدم

وهواجس سكرى ومدفأة

إيحاءُ ذاكرة بلا نغم

في غربة ظمأى إلى الألم

محمومة الأنفاس كالسقم

ولا شك ان الرمزية واضحة في هذه القصيدة وبعض من قصائد الديوان مثل قصيدة (الغريب العائد) ولكنها ليست رمزية منغلقة لأننا إذا تمعنا في قصائده لا نتوقف أمام غموض فني مرهق بل أمام غموض ميسور في ترجمة مراميه وخوافيه.

ففي قصيدة «الغريب العائد» يقول:

ذاك الفنار سفينة الأحلام يومض من بعيد

من قبة الليل العتيق كنجمة الصبح الوليد

عيني تسابقني اليه كموجة البحر المريد

أتراه يسمع زفرة المجداف في صوتي الوئيد

أتراه يبصرني أقل بقية الشوق التليد

أتراه لم ينس الوداع بشاطىء الحب الطريد

وإلى آخر القصيدة فإننا لا نرى صعوبة في استعاب الرؤية الشعرية للشاعر حيث يرمز للوطن وأمله وحلمه في العودة.
.. وكذلك قد تتسع مرآة الروح لغرض آخر من أغراض الشعر وهو «الحكمة».

ففي قصيدة «شباب عربي في المرقص» تبدو الحكمة ظاهرة جلية مفهومة العبارة في كثير من أبيات القصيدة منها وإن كانت تقريرية:

إن الذين تلونت أخلاقهم

إن الكرامة لا يمجد شأنها

باتوا بقلب تالف الوجدان

غير النجيب المخلص المتفاني

... وفي قصيدة «ثقة لا أنانية»:

كم واهم قد ظن في تيه الهوى

ما المرء إلا في تماسك رأيه

رأيا فبات بظنه مصلوبا

إن شق في درب الحياة دروبا

.. وفي قصيدة «وهم السلام»:

ما أدنى النفس إذ لا تصطفيك هوى

وأضيع القلب إن لم يهده الهادي

«مرآة الروح» للشاعر محمد خليفة العطية يمثل صورة صادقة لحياة الشاعر الذي ينشد المثالية في كل شيء، في الحياة، في الحب، في الشعر من وفاء وصدق وكرامة. فمرآة الروح هي التوافق بين خلائقه وشعره وتلك آية الشاعرية.

ومن خلال «مرآة الروح» تبدو شخصية الشاعر، فهو رقيق الاحساس ومخلص لملهمته، حريص على الاحتفاظ بها، مع تميز أصيل في التعبير عن مشاعره فضلا عن الحفاظ على إيقاعات شعرنا العربي العريق وثوابته.

أقول أخيرا إن محمد خليفة العطية يمتلك ناصية اللغة باقتدار، وهو صادق في تجربته، ولقد جعل من المرأة الروح والإلهام والقصيدة والوطن ربابة عزف ونزف، تشعل قوافيه وتطرز شعره بحرير الكلمات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى