الاثنين ١١ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٠
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

المعلّم والمسعودة

رافَقَنا لعدّةِ أعوامٍ.. أبو شنب- كما اعتادَ الطلابُ أنْ يصفوهُ، مجرمٌ لا يرحمُ، عصبيٌّ لا يُغتَفَرُ عندهُ ذنبٌ، قاسٍ إلى أبعدِ الحدودِ، حتى بكاءُ طفلٍ يتألمُ لا يبعثُ في نفسهِ الرأفةَ، ولربما يقولُ في ذاتهِ: إنْ لمْ يجتهدْ فليذهبْ إلى الجحيمِ!!! مِسكينٌ عليٌّ.. ومسكينٌ أمينٌ.. ومسكينٌ إيادٌ.. ومسكينٌ عادلٌ. منْ أينَ يأتون بهذا الاجتهاد بعد أن تعوّدوا في سنواتٍ ستةٍ خلتْ، على التعامل باللين والسكينة والرحمة.. مساكين كلّ هؤلاء، مساكين.. لقد أشبعهم ضربًا وأنهك قواهم وسلخ جلود أيديهم.. كان كرشُهُ دافعًا إلى الأَمام.. لو تعاركنا معه فلن نستطيع زحزحته من مكانه؛ ضخم الجثة، جهوريٌ صوته.. مجلجلٌ، كثٌّ شنبه وكبيرٌ. مخيفٌ إذا غضب، عنيفٌ إذا ضرب. والويل ثم الويل لمن يقع بين يديه.

كان يعلّمنا الحساب.. والحق أنه كان معلّمًا للحساب. لطالما ظلّ يحذّرنا منه مَنْ سبقونا حتّى زرعوا في قلوبنا الرّعب. ولطالما رفعنا شكوانا إلى أولي الأمر منّا حتى لا تأكل من أيدينا "المسعودة".. وما أدراك ما المسعودة.. "المسعودة" هي عصاه التي يتوكأ عليها ويهشّ بها علينا وله فيها بنا مآرب أخرى. ولطالما حلمنا أن يبعث الله عزرائيل فيقبض روحه قبل أن نصل إليه وإلى "مسعودته".. لكنّ الزمن يجري بنا جري السّحاب قبل المطر. اقترب العام الدراسيّ على الانتهاء.. وأخذنا نعدّ العدّة ونعدّ الأيام لنطوي الصفحة الأولى في تاريخ حياتنا.. لنودّع المرحلة الابتدائية ومَنْ فيها لنرحل إلى مدرسة أخرى إلى حيث تنتظرنا فيها "المسعودة" ومن يحملها.. وكانت الامتحاناتُ، ثم أوتي كلّ منا شهادته بيمينه أو بيساره وصرنا نلتقي حين نجتمع قرب باب الحارة بالرواة والمحدّثين عن أبي شنبٍ وعن أخباره القديمة التي كانت تَرِدُنا قبل ذلك أولاً بأول.. فلانٌ الذي لم يُحضر كتابه وتذرّع بأنه نسيه على الطاولة بعد أن تناول طعام العشاء أمس مساءً، وأقسم يمينًا غليظًا أنه قام بجميع واجباته، دفع الجزية.. ثماني ضرباتٍ على كفيّه.. فلانٌ تأخّر في القدوم إلى المدرسة.. الغرامة، الوقوف في الزاوية طوال الدّرس رافعًا يديه ورجله اليمنى.. وآخر! لم يقم بواجباته، لم يعرف حل المسائل الحسابية لأن حلّها كان صعبًا للغاية.. وهذه المرّة الثالثة التي يكررها.. ست جلداتٍ على قفاه.

حين كنا نسمع كلّ هذا، صار يستصرخ الواحد فينا أباه لدرء الخطر القادم لكن دون جدوى فلم نجد بدًا في اللجوء إلا إلى ربّنا بالدعاء الخالص حتى يبعد عنّا شرّه وينقذنا من عذابه.

وانقضت عطلة الصيف فدخلنا المرحلة الإعداديّة فشمّرنا عن سواعدنا استعدادًا للمواظبة والدّراسة المكثّفة بغية تفادي الكارثة.. وحان الدّرس الخامس إذ طلع علينا رجلٌ في الأربعين من عمره له شنبٌ ضخمٌ وابتسامة عريضة ونظراتٌ توحي أنه عصبيّ المزاج، يحمل بيده "المسعودة" التي حدّثونا عنها، ها هو قد أصبح بين ظهرانينا. ألقى التحيّة وبُدئ الدرسُ..أيكم لا يحفظ جدول الضرب؟ لم يجرؤ أحد منّا على الاعتراف.. وأيّكم لا يعرف جمع الكسور بنوعيها، وطرحها؟ من فينا يجرؤ على قول الحقيقة؟ الصمتُ مطبقٌ علينا.. وأفلتَ الضعفاء فينا من العقاب. ولما جاء اليوم التالي تطلّب منّا حلّ بعض المسائل شفويًّا، فغشي على عيوننا غمامٌ من العجز، عُقِدَتْ الألسنُ ثُمَّ صمتَ الجمْعُ.. والرؤوس صارتْ مُنكّسةً كأن الطير عليها، حتى إذا بلغت القلوب الحناجر، زأر زئيرًا زلزل أركان الغرفة فارتعد مَنِ ارتعدَ ودبَّ الرعبُ في قلوبِ البعضِ، فيما قفز أحدهم من مكانه وكاد يُغمى عليه.. ومن صعوبة المسألة، بات من المؤكد أن العقاب سيطال الجميع.. كنتُ متخوّفًا كلّ التخوّف من أن أكون أوّل المبادرين وأوّل من يحمل راية الإجابة، وكنت متردّدًا كل التردّد من محاولة الظهور أمام جَمْعٍ لم أكن أعرف إلا البعض منهم. لكنَّني حين أحسستُ أن الكارثة ستحلّ بنا لا محالة، أدركتُ أن لا شيء ينقذني منها سوى المجازفة.. لم تكن مجازفةً سهلة، إذ إنه بعدما سَمِعَ إجابتي حملق في وجهي طويلاً وأخذ يتقدّم نحوي ببطء، وأخذت نبضاتُ قلبي تتسارع، وكاد نَفَسي ينقطعُ، حتى شعرتُ أنني الضحيّة الأولى من بين ضحاياه. حين اقتربَ مني ربَّتَ على كتفي الأيمن فاطمأنَّ قلبي وقالَ وهوَ يبتسمُ الابتسامةَ التي لا زالتْ مطبوعة في ذهني إلى الآن:

بطلٌ.. أحسنتَ الإجابة..

عوقب الجمع وبكى من بكى وشعرت حينها بفخر واعتزاز شديدين.. إلا أنه لم يهن عليّ أن أرى أترابي ينكّل بهم، فأخذتني الرأفة التي لم أستطع يومها أن أصرّح بها وكدتُ أشاطرهم البكاء إلا أنني لم أستطعْ..

كانت هذه المجازفة قد فتحت أمامي آفاقًا جديدةً، عرفت قواعد اللعبة، فتقدّمتُ وانطلقتُ وأحببتُ الرياضيات والقواعد حتى صرت أتفنن وأتفلسف في حلّ المسائل الرياضيّة..

هذا هو الرفيق أبو شنب الذي ظل عالقًا في أذهاننا ولولاه لما كان فينا الطبيب والمهندس والمحامي والدكتور في تخصصه والطيّار في مقصورة طائرته، مع أنه يحرّم علينا قيادة الطائرة، والتاجر الناجح في تجارته ورجال الأعمال..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى