الخميس ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم سليمان عبدالعظيم

المعنى العميق للثقافة

لا يوجد مفهوم مراوغ مثل مفهوم الثقافة، ويرجع ذلك إلي أننا نحيا بالثقافة ولا نستشعر ذلك. وفي مجتمعاتنا العربية التي تتحرك يوميا من خلال ضغط السياسة تبدو الثقافة شاحبة وربما غير مرحب بها، رغم الممارسة اليومية لها التي يتم تنحيتها لحساب الخطاب السياسي المعلن وتوجهاته المختلفة.

ففي مجتمعات تتسم بالقمع والمصادرة تتحول ممارسات البشر العادية إلى نوع من التأطير السياسي والتحزب الفئوي والديني الضيق، وهو ما يخنق ممارساتهم الثقافية العميقة المتجذرة والعابرة العفوية، ويكسبها طابع الوحدات السياسية التي تعبر عنها، أكثر من الطابع الإنساني العام الذي تنتمي إليه بشكل عام.

فالثقافة أرحب من السياسة وأكثر إنسانية منها. وحينما يتم خنق الثقافة لصالح السياسة يستحيل البشر أنفسهم إلى ذوات متشابهة مقموعة وخاضعة. كما أن السياسة تختزل البعد الإنساني والاجتماعي للشعوب، وتجعلهم أقرب للقطعان في تشكيلاتها البيولوجية المختلفة، حيث يستحيل الإبداع إلى جمود، ويستحيل الرفض إلى قبول، ويستحيل النقد إلى مديح. وإذا كانت أفعال السياسة ترتبط بقرارات فإن الثقافة أبعد ما تكون عن الارتباط بقرارات رغم أهمية ذلك وضرورته في بعض الأحيان.

وفي ظل عمليات الشحن السياسية اليومية، وفي ظل تصاعد العنف والهجوم تُختزل المجتمعات العربية إلى تجربة سياسية ليس أمامها إلا الصواب والخطأ. وهو الأمر الذي يحيل كافة المجتمعات العربية إلى حالة اصطفاف مجنون يتخذ سمات وأشكال مختلفة دينية أو عرقية أو طائفية أو عمرية أو حتى جنسية. فالسياسة في العالم العربي، ربما بسبب عدم ممارستها بشكل صحيح متواصل ومتطور، تستحيل إلى نوع من الصراع والتحزب والقتل والتدمير. وربما لا توجد منطقة في العالم أجمع تفاعلت فيها شؤون السياسة وتجلياتها المختلفة بمثل هذا الشكل من العنف والرغبة في إزاحة الآخر بكافة الوسائل والأساليب.

وفي هذا السياق يتم تشويه الطابع الثقافي للمجتمعات العربية ووضعها ضمن أطر جديدة مغايرة لتوجهاتها الأصلية. واللافت للنظر هنا أن الكثير من المجتمعات العربية تحاول إيجاد أطر ثقافية جديدة تملأ الفراغ الذي أحدثته عبر ضغوطها السياسية والتحولات المختلفة التي نجمت عن مشروعاتها التنموية. لقد مارست هذه المجتمعات تشويها مزدوجا للثقافة من ناحية التأطير السياسي المتواصل والضاغط ومن ناحية العمل على إحلال ما تم تشويهه بأطر وتجليات جديدة قد تكون وافدة أو خليطا من المحلي والوافد. وعبر كل هذه المستويات من خلق أطر ثقافية جديدة ينسى البعض أن الثقافة رهن في المحل الأول بالطابع المجتمعي العام. وحتى في ظل وجود تعدد بشري فإن الثقافة في النهاية تكتسب سمات عامة ترتبط بقطاع كبير من البشر المتشابهين عبر جملة ممارساتهم التاريخية المختلفة. فلا توجد ثقافة بدون تاريخ، كما لا توجد ثقافة بدون بشر. فالبشر هم الذين يصنعون التاريخ، وبالتبعية يصنعون ثقافتهم.

يرتبط المعنى العميق للثقافة بكونها ليست كائن لحظي يتم إنتاجه حينما نريد وحينما نبغي، لكنها كائن تاريخي يحتاج لمن يتعهده بالرعاية والنمو والتطور. وهنا يبرز البشر الذين يدركون كيانهم وواقعهم وتاريخهم ومحيطهم الاجتماعي عبر جملة علاقاتهم التي تتأسس كل يوم، وعبر انسجامهم وصراعاتهم المختلفة. فالثقافة، رغم أنها تعبر عن أسلوب الحياة اليومي للبشر، ورؤيتهم للعالم، فإنها أيضا لا تعنى أسلوبا أو رؤية منسجمة له، فكما تنطوي على التجانس فإنها تنطوي أيضا على الصراع، وإلا كانت جامدة لا حراك فيها، تنتظر موتها في أقرب فرصة ممكنة، تفرضها عوائد التاريخ ومصائبه.

إن الثقافة ترتبط لا محالة بالواقع الفعلي الذي يواجهه البشر عبر كل لحظة من لحظات حياتهم. وإن كان البعض يتحدث عن البعد الكوني المعاصر، وعن التقاء المحلي بالوافد، فإن هذا لا يعني في النهاية خلق تشكيلة ثقافية هجين. بل إن التحدي الحقيقي الذي يواجه الكثير من المجتمعات العربية الآن يتمثل في كيفية الحفاظ على الطبيعة الثقافية لمجتمعاتها ضمن أطر مبدعة من التفاعل والتغيير والانسجام والصراع بدون أن يؤدي ذلك في النهاية إلى ضياع الثقافة المحلية للمجتمعات العربية. وحتى يحدث ذلك لابد أن تترك السياسة مساحة للثقافة تتحرك من خلالها بمرونة وانطلاق، كما يجب على السياسة أن تدرك أن تهميش الثقافة وضياعها أو استبدالها هو في التحليل الأخير ضياع للسياسة أيضا، بل ضياع للمجتمع ذاته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى