الاثنين ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢١
بقلم جورج سلوم

المقاتل .. والنساء

أبحثُ عنكِ.... في عالمي الضيّق المدجّج بالرّجال… في مخيّلتي المزدحمة بالصور.. في مرمى مدفعي الرشاش.. في منظاري المقرّب خلف َ التلال… ثم أحتضن سلاحي وأُرخي العنان لأحلامي الجامحة تقودني إليكِ ....

وعندما رأيتكِ تتوسّدين ذراعي رسمتُ على شفتيَّ ابتسامهْ..

 (لا تمكثي طويلاً يا فتاتي… فقد خجلتُ من رفاقي المقاتلين... فأنا خجولٌ حتى في الحلم...)

غرفة الحراسة التي وضعوني بها حارّةٌ حارةْ … مصنوعة من الصفيح تحت قيظ الصيف..وتحيط بها براميلٌ محشوةٌ بالرّمل كمتاريس ضد رصاص القنص... وخلفي مربض المدفعية ..فوهتها قد تقذف الحمم.. حتى ولو كان الجوّ حارّاً.

العرقُ ينهمرُ مدراراً ثم يلتصقُ بجسدي كضيفٍ ثقيلِ الظل ّ...وحتى الذّبابُ هنا يتّصف بالوقاحة...ولا شيءَ سوى نشراتِ الأخبارْ يفوحُ من هذا المذياع...ملخّص الحديث أنّ العدو قريبٌ ولكنه يندحرْ.. والنصر قريب.. مسألة وقتْ… ويبقى علينا تصفية الفلول ..

(أما آن لهذه الحرب أن تنتهي ؟)

يأتي صديقي من الإجازة الاسبوعية.. يحدّثني عن خطيبته… تنتظره كل أسبوع.. يسيران في شوارع المدينة ..يأكلان الفلافل.. يحلُمان بالزواج والحب بعد انتهاء الحرب… وفي الحديقة يسترقُ قبلة ما ...يسترخي ..يخطفه الحلم… ويتركني وحيداً… انتظارْ.. مراقبة.. حذر.. توجّس.. واليد لا تفارق الزناد.. وعند الانطلاق للمعركة أراه ينظر إلى محبس الخطوبة فيستمدّ منه القوة والأمل.. وعندما يعود ظافراً يتصل بوالدته ثم محبوبته.. وكأنهنّ يقاتلن إلى جانبه..

 (حبيبتي...أنا لا أراكِ في الواقع..ولكني أحبّكِ ..قد تكونين صورة في المخيّلة .. .أو مستبطنة لمجلة ما....أنا أقاتل لأجلكِ لتنعُمي بالأمان ...ومستعدٌّ لأن أفني عمري في سبيلكِ ...وأن أذوبَ كحبّة عرقٍ سالت على صدركِ الشهيّ ثم تغلغلت بين نهديكِ بصعوبهْ...)

الجوّ حار ٌّ هنا.. أشعرُ بأنّ الأرضَ ستتأجّج ناراَ وأنّ الأشياءَ ستلتهبُ من حولي ... أما من سرابٍ يلوحُ في الأفق ..أما من واحةٍ أستريحُ فيها وألتقط أنفاسيَ اللاهثة.. أنا ما زلتُ أعلنُ الحبّ بكامل قوايَ العقلية وما زلتُ أصرخُ في هذه الصّحراء باحثاً عن تلكَ التي ستلتحفُ شغافَ قلبي .. ..وتحبّني كما أحبها ......

لقد تعلّقت بكلّ امرأةٍ واجهتُها في الماضي ..وكانت ليَ ألفُ قصةِ حبْ.. في المدرسة عشقتُ معلّمتي ..وفي الجامعة عشقتُ كلّ زميلاتي ... وفي الطريق عشقتْ ..وفي الباص وفي الفراش وفي الحلم.....!

مارستُ الحبّ مع كلّ النساءِ اللواتي رأيتهنّ ولم تسلم ْ من حبيَ الجارف سوى... أمّي..
(عندما تشتدّ الأزمات على الرجال يلجؤون للنساء.. فالمرأة هي استراحة المحارب الذي أنهكته معركة الحياة)..كلمات ٍ أذكرها ولا أدري أين قرأتها.. ويفسّر ذلك المؤلف كيف اخترع البحارة أسطورة حورية البحر.. التي تندفع من قلب الأمواج العاتية المنذرة بالموت ..تطلّ برأسها جميلة بل كاملة الجمال.. عارية من نصفها العلوي... نهداها فتنةٌ وحنان.. ونصفها السفلي سمكةٌ بحرية ...زعانفها القوية إنقاذٌ وحياة.

في الحروب القديمة... كانت النسوة تلحقنَ بالفرسان في الخطوط الخلفية.. تضمّدن الجراح.. وتحرّضن على الثبات والصّبر.. فإذا جُرح المقاتل وقع بين يدي محبوبته فتكون بلسماً للجراح ...وإذا مات فسيكون في حضنها تسقيه دموعاً وحناناً... وتشارك أمّه الثكلى النّدب والرّثاء.

أما اليوم ..فكم من الجثامين اختفتْ بفعل الأسلحة الحديثة ...وكم من الأمهات تمزّق قلبها فوق أشتاتِ جثمان شهيدٍ مضمّدٍ بعلم الوطن...

والمقاتل بعيد ٌعن أهله.. والحرب طويلة الأجل.. والعدو قد يأتيك من وكرٍ في الأرض.. أو من خلفِ الحدود.. أو من صاروخٍ عابرٍ للمحيطات..

عزاؤنا نحن المقاتلون هو الحب.. الذي يملأ جُعَبنا بالأمل كما يملؤها بالرصاص... فلو سقطتَ عن مهركَ في ساحة الوغى ..سيُعيدك صوت محبوبتك إلى ظهره أقوى وأقوى... وأنا لا امرأة تحدوني... لا حبيبة... ولا أم (طيّب الله ثراها ).

لذلك.. ما زلت أبحث عنكِ...

هاتفي الجوال هو ملاذي.. مواقع الدردشة.. تعارف وصداقات في العالم الافتراضي.. صورٌ وأفلام.. أشاهدها.. أثبتها.. أكبّرها وأعيش ضمنها.. لديّ كل نساء الدنيا.. ولديّ حوريات الجنة إن مت شهيدا..

لي صديقة وحيدة حقيقية... أراسلها أحياناً عبر الهاتف الجوال ولا تردّ.. ممرّضة تعرفتُ عليها في المشفى يوم أسعفوني جريحاً...قالت لي:

 (ابن عمي عسكريٌ في نفس قطعتك ...بلّغه سلامي)

فعلاً بحثتُ عنه ووجدته... نقلتُ له سلامَها لكنه امتعض وكأنه أحسّ بي منافساً ..قلت له:

 (أحمل إليك سلاماً من الأخت...)

أجاب بحدّة:

 (هي خطيبتي منذ سنوات ..لكن الوضع المادي لا يسمح لنا بالزواج )

كذبتُ عليه لأكسبَ ودّه:

 (سبقتك ..متزوجٌ أنا ... وعندي ولدان)

منذ ذلك اليوم ..تطوّرت صداقتنا وتوطدت.. وصرنا في نفس المجموعة المقاتلة.. جمعتنا وحدة السلاح ووحدة المصير ووحدة الحب ..يحكي لي عن ابنة عمه.. ويقول:

 (سنتزوج قريباً.. لقد وافقوا على إجراء عرسٍ جماعيّ ..تتكفل القيادة بتكاليفه وستغطيه وسائل الاعلام.. وسيعطونا مساعدات لتأمين السكن..أو قد نسكن في القرية عند أهلي...).. يتساءل:

 (لماذا لا تأخذ إجازة فتزور زوجتك وأطفالك ؟)

طبعاً لن أجيب.. فزوجتي ما زالت صورة أستحضرُها فتأتيني أنّى كنت.. وأطفالي يتراقصون حولها ويشدّون شعرها.. أشقياء كأبيهم... فأصيح بهم.. دعونا لوحدنا قليلا..

أزيز الرّصاص المتقطع ينبّهك من الحلم... فتتفقد سلاحك وقد تتأبّطه.. لكن لا تطلق النار حتى تأتيكَ الأوامر... أصوات القصف غير بعيدة لكننا غير معنيين بها.. فالحرب مفتوحة والجبهات كثيرة.. احلم ماشئت لكن لاتفقد جاهزيتك للدفاع ..

قال لي:

 (أصبح الوضع متوتراً... قد ننطلق غداً لمؤازرة كتيبةٍ مجاورة)

ابتسمتُ.. وقلت ساخراً:

 (نحن لها )

 (تعجبني شجاعتك يا أخي.. واندفاعك... كنت أظنّ أنّ المقاتل المتزوج أقلّ إقداماً... فلو استُشهد ترمّلت زوجته وتيتّم الأطفال.. لكنك على العكس من ذلك.)

 (أنا لا أخشى الموت.. فالقدر مكتوب... قريبي هرب من الخدمة العسكرية وهاجر... فمات غريقاً في البحر)
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلا...

 (لا أدري لماذا أستشعرُ الخوف من الغد )..قال ذلك بصوتٍ متهدج..

فقلت:

 (إنه الحبّ والاشتياق ..اتصل بها فتُعطيكَ جرعة من الأمل)

أجاب بحسرة... (لا يوجد اتصالات منذ البارحة)

جاءتنا الأوامر... واتخذنا مواقعنا الدّفاعية.. لعلع الرصاص وبدأت موسيقا الحرب... جاءتنا القذائف من الأعداء .. وأرسلنا لهم المزيد.. غبارٌ ودخان وكرّ وفرّ.. إقبالٌ وإدبار وتحوّل الليل إلى نهار... أصوات رفاقي قريبة وأصوات الأعداء مسموعة.. واختلط الحابل بالنابل ...

الموت قريب.. و الله قريب.. والكلّ ينادي ربَّه ... والتكبير من الطرفين!

 الله أكبر ...ماهذه الحرب؟!

عربية الوجهِ واليدِ واللسان... ولكن القذائف لدى الطرفين مهداةٌ من الفرنجة !..

في زحمة الموت.. وحين تصطدم سنابك الخيل.. وتلتقي الأسنّة ... وتتكسّر النصال على النصال ...تُستَحضر النساءإلى أتون المعركة... عيونهنّ المغموسة بالكحل تبتسم للظافرين... وقد تنزف دموعاً سوداء على المنكسرين ..ويرمي عنترة صاروخه ويصيح (لبيك يا عبلة)... ويزغرد المدفع الرشاش بين يدي ابن الملوّح وهو يحلم بوصال (ليلى)...ويدكّ صخرٌ جرحه وهو يتخيّل آهات أمه (الخنساء)...

ناهيك عن الحواري اللواتي ترفرفن فوق رؤوس (الشهداء)..

وأنا لا امرأة تحدوني ...لكن أصيح كغيري من خلف متراسي .. فلدي الكثير من النساء:

 (خذوها من يد سميرة... لبيك يا أميرة... وتتكاثر الأسماء ..)

وبعد أن تخفَّ حمأة الهجوم .. وترتدّ خيول الأعداء على أعقابها.. وتبرد فوهات البنادق.. ويلتقط المقاتلون أنفاسهم ... تعود جلسات السمر... فيهمس لي أحد المقاتلين مبتسماً:

 (سمعناك تنادي الكثيرات منهن ...والشرع لا يسمح لك بأكثر من أربعة)!

 (نعم ..لدي كل نساء الأرض ..)

يضحكون.. فتبدو أسنانهم الصدئة بفعل الدخان والغبار.. يتصلون بزوجاتهم وأطفالهم وحبيباتهم وأمهاتهم ....
وأعود أنا إلى بحثي عن حبيبتي... وأسمح لها أن تتوسّد ذراعي المعروك بعرق المعارك... أتأمل ابتسامتها فيزول عني القلق والخوف.. وتمسح الغبار والدخان عن جبيني.. وتقول:

 (أنا بانتظارك.. جاهزة للحب بقدر جاهزيتك للحرب... لكن بالله عليك.. أما آن لهذه الحرب أن تنتهي؟؟؟؟)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى