الأحد ٢٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم وضاح المقطري

المكان متورطٌ بالنسيان

عن التفاصيل الأخيرة لانتزاع اعتراف من المدينة بحزنك

أكاد أجزم أن المكان لا يبالي عادةً بأي ضحايا يسقطون فيه، أو تُتنهك أحلامهم على قارعة تفاصيله،.. وإذا كان المكان مدينة فهو حتماً لا يدع فيه أثراً لك أو لأحلامك مهما خطتها أوقاتك واشتهاءاتك، ومهما كان زمن عبورك فيه، لكنه حتماً يظلُّ في ذاكرتك خصباً وفتياً ومتدفقاً بامتداد نهر الزمن، وحال قدومك إليه بعد غياب طال أو قصر؛ تكتشف كم كانت الهوة بين ذاكرتيكما واسعة وعميقة ومخيفة.

ربما يمكنك استعادة المكان في صورة تحدق فيها بحثاً عن تفاصيلك اللاهثة خلف أحلامٍ لا تتحقق غالباً، لكن هناك مساحة كافية لحياة لا علاقة لها بما تحاول استعادته، وحينها لا معنى لتذكرك إلا كون ذاكرتك ما تزال حية فحسب.

ما الصورة في تاريخ الأمكنة والوجوه..؟

هي بألف كلمة كما يقال في الصين، ربما لأنها تقول ما لا يقال، أو لأنها تضع المشاهد أمام ذاكرة لا تخطئ أو يغيب عنها شيءٌ مما وقع في حبائلها، تاركة له حرية القول، واستخلاص التعابير منها بنفسه، ولها أيضاً حكايتها المنسوجة من خيوط الحنين التي تمتد في الماضي لنيل ما أمكنها من مروءة الوفاء، هي عنوان ما نحاول الهروب إليه من قيظ الحاضر، والخوف من الآتي، أو هي سياج النجوى يصون حدائق الفرحة المنتقاة التي لا نحملها معنا عبر الزمن.

ما الذي يفعله المصور أكثر من أنه يضع اللحظة خارج نهر الزمن، فيحررها منه، ويحررنا من تعب التوسل بالذاكرة التي تنسى أو تضيف..؟ وما الذي تفعله الصورة أكثر من احتفاظها بما نشتهي أحياناً ..؟

محزنٌ جداً أن يتحوّل المكان إلى ذاكرة يتخذها المرء اسماً لأحزانه ومبرراً لألمه، ويستعيده في صورة تحكي له بعض أشياء ماضيه بمشاعر يحضر الأسى فيها دائماً، إما لأن الذاكرة تستعيد الألم، أو لأنها تستعيد بهجة لا تعود، لكن الصورة التي يستعاد المكان من خلالها تتوقف عند لحظة لا تسير مع الزمن في أي اتجاه، وإنما تبقى جواره مطلة على التغيرات التي تصيب الأشياء والبشر، وتصيبها هي في الآن نفسه، ولكن أعماقها تظل شاخصة بجمود نحو سيل العابرين أمامها مؤكدة حتمية انتصارها لزمن قد يطول ويطول.

* * * *

لا شيء يتذكرني الآن وأنا أبعثر خطواتي في الأزقة والشوارع مستعيداً تفاصيل قصتيّ حب أولاهما فشلت منذ البداية، والأخرى تركتها يوماً معلقة بين احتمالين أحلاهما حزين باتساع الغياب، ونائمة على مفترق الأمل المتعب، والنسيان المريع، وإذا كنت استطعت تذكر كل شيء، وأعدته في خيالي ألف مرة، وفصلته على هواي كثيراً، فإن الأسى كان بحجم الوحشة الفائضة، لا شيء يتذكرني، ولا يمكنني إعادة شيءٍ إلى مكان حدوثه كي أستعيد اللحظة بكل ما فيها من مشاعر مربكة.

ها أنذا أستعيد التفاصيل وحيداً، ولا شيء يشبهني سوى الحسرة التي حضرت معي في هذه الرحلة الخائفة، ومنذ ولوجي في الطريق نحو هذه المدينة الساحلية بدأت الذاكرة تؤتي حزنها، وحين دخولي إلى شارعها الأكبر تساقط العرق حتى لامس الأرض كعادته حين يقترب جسدي من البحر.

لا يتغير في الحديدة شيء سوى أن بؤس الوجوه والأجساد يتسع بلا حدود، وفي المقابل تظل المدينة محافظة على هويتها المميزة، هي كما هي مشلوحة على البحر الذي لا يرى بؤسها كون بشراً ليسوا منها جاءوا ليضعوا أبنيتهم وبواخرهم أمامها فصارت محجوبة عنه لا تحضره سوى في لقاءات العشاق الخائفين من لصوص الآداب أمامه، وصار غائباً عنها سوى في نكهته التي تتسلل إليها برغم سياج القصور.

عودتي إليها تشبه وقفة على الأطلال، ظلت مغلقة بذكريات أستعيدها وحدي مكرهاً، وفي الآن نفسه مفتوحة على رغبتي الخائبة في عدم الحنين إليها مستقبلاً طالما وقصة الحب الأخيرة فيها لا تتجدد سوى بأن القبلة الوحيدة فيها ما زالت ترنُّ بلا انتهاء.

المكان انتزع مني بهجتين فيما مضى، والآن يقترف فيَّ أسئلة شتى ستظل معلقة في فراغ المسافات جوار الأسى، وعلى وجوه المتعبين بلا نهاية.

يبقى الكثير، وتبقى الذاكرة طافحة ولا شيء يلمها، ولكن أسماء الأماكن مصرة على النسيان. حتماً كان يليق بنجيب محفوظ أن يضع أزقة القاهرة في كتب تسافر عبر العالم لتسكن خيال الملايين، وجديراً كان بأورهان باموك أن ينسج من قلب اسطنبول مساحات من الكلمات التي أورقت في مشاعرنا ونحن أبعد ما نكون، ولكن من للحديدة كي يضعها في ذاكرة وطن يحترف سرقة أحلام البسطاء.؟ وهل لي أن أنتزع ذاكرتي من تفاصيل مدينة ساحلية بسيطة وحزينة ومرعبة لأكون جديراً بما خسرته فيها..؟

عن التفاصيل الأخيرة لانتزاع اعتراف من المدينة بحزنك

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى