الأحد ١٢ آذار (مارس) ٢٠٢٣
بقلم أماني ريحان ميرود

المنطق العربيّ

بالأمس قلتُ في نفسي سأرتدي أفضل ثيابي وأتجمّل لهذا الحدث السّعيد. لكنّي غيّرت رأيي اليوم، أو بالأحرى غيّرته قبل أن يحين الموعد بساعات قليلة. ورأيت أنّه من واجبي نُصح زوجي بأن يلبس ثيابه الجديدة التي اقتنيْتُها لأجل حدث سارّ. أمّا أنا فارتديتُ أوّل ثياب وقعت عليها عيني عندما فتحت خزانتي الملآنة بالثّياب السّوداء، فالأسود لوني المُفضّل الذي يتماشى مع نفسيّتي في غالب الأوقات. لحسن الحظّ وقعت عيني على بلوزة زرقاء أمّا السّروال والمعطف والحقيبة والحذاء فكانوا سودا عكس يومي الأبيض. البلوزة الزّرقاء ألهمتني كي أختار لاِبني ثيابا زرقاء مع أنّ والده كان يُفضّل لونا آخر. لا يهمّ أيّ لون يرتدي، اِخترتُ اللّون الأزرق علّه يدفع عنه "الألم الأزرق" أو "الوجيعة الزّرقاء" التي تنتظره أو هكذا خُيّل لي في بادئ الأمر.
حان وقت الذّهاب، تلكّأتُ كثيرا قبل أن أمتطي السّيّارة، لكن لا خيار أمامي. أغمضت عينيّ كي لا أرى أنّنا نقترب من وِجْهتِنا وعندما فتحتهما شعرت أنّ الطّريق تلتهم السّيّارة، كأنّنا نسير فوق لسان المصحّة التي ستغلق فاها ما أن ندخل.

أتهرّب من التّفكير، أشْغلُ فكري بفراغ عميق، أشلُّ حركة خلايا مُخّي، ألجم لساني كي لا يتفوّه بكلمة تُشتّتُني، أحبس أنفاسي حتّى تنتهي هذه اللّحظات أو بالأحرى هذه السّاعات. أُحاول عبثا الاستنجاد بحدسي، فهو في إجازة مُنذ أيّام.

ها قد وصلنا، وها نحن في قاعة الِانتظار ذات المقاعد السّوداء، والأبواب والحيطان الرّماديّة المتفاوتة الدّرجات. كان يجلس أمامنا رجل ممتلئ جعلني أتذكّر أن بطني خاوية، فمن كثرة القلق والحيرة حول ما ينتظرنا نسيت الأكل. واِمرأة تتنطّطُ في زوايا القاعة متطلّعة إلى كلّ الوجوه تُسارع بفحصها قبل مجيء الطّبيب، تَحسبُها إذا ما نظرتَ إليها "البروفيسور" المسؤول عن المصحّة. وما أن سَمعَتْ حديثنا حتّى أقحمت نفسها في حوارنا:
ـ لقد أخطأتم الطّابق وربّما المبنى فلا وجود لطبيب بهذا الاِسم ها هُنا.

لا أذكرُ ماذا أجبتها ولكن أعتقد أنّ نظراتي كانت كفيلة بالإجابة والرّدّ على تطفّلها المُبالغ فيه.

لم أكن أعرف أن الأمهات يعتريهنّ إحساس غريب يوم ختان أطفالهنّ، فمهما حاولن رسم البسمة على شفاههنّ خانتهنّ قلوبهنّ الخائفة. أعلم أنّ الألم سيجتاحني قبل أن يضع الطبيب قُفّازاته المطّاطيّة وحتّى قبل أن يلتفت إلينا.

فجأة تقدّم نحونا رجُل مُبالغٌ في تنظيم هندامه، تحسبُهُ إذا ما رأيتَهَ أحدُ الآباء القادمين لختان أطفالهم، ثمّ قدّم نفسه فإذا به الطّبيب الذي نبحث عنه، وأخبرنا أنّ مساعده سيأتي ليصطحبنا إلى غُرفة الختان بعد عشر دقائق. كانت أطول عشر دقائق في حياتي بل أحسستُها أطول من العشريّة السّوداء في الجزائر. حان الوقت لدُخول غُرفة الختان، لا أذكر لا لون الجدران ولا طاولة العمليّات التي وضعتُ عليها اِبني لكثافة الضّباب وحجبه الألوان عنّي، أقصد لكثافة الدّموع المُتحجّرة في عيني وحجبها الألوان والتفاصيل الدّقيقة عنّي. نظر المُساعد لوجهي قائلا يبدو أنه طفلكما الأوّل، وهمّ بِنزع ثيابه اعتقادا منه أنَّ يداي قد شُلّتا وتسمّرتُ مكاني فَلاَ أقوى على الحركة. فصحت فجأة وخرجت عن صمتي الذي كان يملأ الغرفة:

ـ ماذا تفعل؟! لماذا تنزع ثيابه؟!
فأجاب: لختانهِ.
فأوضح زوجي "لسنا هنا لأجله".

فنظر المساعد للطّبيب في دهشة، ولم يستطع أن يمنع نفسه عن الضّحك وغصّت كلماته في قهقهته فلم نفهم شيئا ممّا قاله. فأشرتُ لزوجي بأن خُذ اِبنك بين ذراعيك لأضع مكانه من جئنا لأجله. كست ملامح الجِدِّ وجه المساعد من جديد. وضعتُ حقيبتي على طاولة العمليّات وقُلتُ "للمنطق العربيّ":

ـ هيّا اُخرج ولا تستحي فقد حان موعد خِتانكَ.

وما أن أنهيت كلامي حتى فتحت المرأة المُتطفّلةُ التي تركناها خلفنا في قاعة الانتظار الباب قائلة:

ـ أَلَمْ أقُلْ لكم بأنّكم أخطأتم المبنى؟!!


مشاركة منتدى

  • جميل جدا لقد شدني الأسلوب بشكل انسيابي ...
    وجلست مع نفسي افكر هل تكفي عملية الختان للمنطق العربي ياترى؟؟

    نحن امام كتلة معقدة من المنطق تماما ككتلة خيطان شائكة تريد حلها عن بعضها وتوضيح البداية والنهاية والمسيرة لكل خيط لكن كلما امسكت من خيط لترى مساره تشابكت باقي الخيوط مع بعضها بقوة وزاد التعقيد والاشتباك ...
    ربما نحن بحاجة لعملية ختان وتغيير هرمونات وتغيير جنس ربما قد نجد بعض التغيير !
    كل التوفيق عزيزتي اماني قلمك جميل و حساس مثل روحك تماما!

    مع حبي ...
    هنادي...

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى