الخميس ٢٨ شباط (فبراير) ٢٠١٣
بقلم تامر عبد الحميد أنيس

المنكر وتهافت منطقه

قراءة في رواية (نساء المنكر) لسمر المقرن

العمل الأدبي كما يقدم طريقة في الأداء يقدم حالة أو رؤية يمكن أن تكون محل تقدير القارئ واقتناعه، كما يمكن أن تكون داعية نفوره واشمئزازه.

رواية نساء المنكر لسمر المقرن لا تبتعد كثيرا في جانب الرؤية عن منطوق عنوانها .. فهي بالفعل ترصد في صفحات قليلة صورًا لنساء ساقطات يعشن المنكر بعينه، لكنهن يعشن أيضًا في أكذوبة كبيرة تكاد تكون المحور الرئيس للرواية كلها ألا وهي أنهن مظلومات؛ المجتمع ظالم، الرجال ظالمون، القانون ظالم، العرف ظالم، كل شيء ظالم وعدواني تجاه أنوثتهن، وفي الواقع تجاه انحرافهن الأخلاقي والسلوكي والديني.

ثمة خيطان تلعب عليهما الكاتبة في تصوير هذا الظلم، أحدهما إبراز مقابح تعاملات رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع من تقبض عليهم، وتتخذ منه ذريعة للهجوم على نظام الشرع.

والآخر فكرة الحرية الجنسية، وحق المرأة في أن تعطي جسدها لمن تهوى وتعشق، وتصويره على أنه حق إنساني لا يسوغ التعدي عليه، وأنَّ حرمانها منه حيوانية وتجبُّر من قِبَل المجتمع الذكوري الذي يحكمها، وهذه الفكرة في الواقع بمنزلة المقدمة التي تؤدي إلى التسليم بالخيط الثاني، فأنت متى أثبتَّ حقا من الحقوق كان المنع من ممارسة هذا الحق ظلما بينا، ولذلك دعنا نبدأ باستجلاء مظاهر هذه الفكرة في الرواية.

الشخصية المحورية التي تروي الأحداث هي سارة، تلك المرأة المترفة التي نشأت في الرياض، وتعلمت في مدارس الشاطرية، وزارت مع أسرتها في صغرها مدنًا أوروبية كلندن شأن أسر الرياض الثرية، وهناك تفتحت عيناها على مناظر الغرام الجسدي في الهايدبارك، وتعلق قلبها بتلك المشاهد التي كانت تسترق النظر إليها وهي تطعم البط بقايا الخبز.

تتعلق سارة برئيف ذلك الرجل الذي كان خدنا لصاحبتها أسيل، تتعرفه عن طريق النت وتحادثه فترة قبل أن تسافر إليه في لندن حيث يعمل، مع أنها امرأة متزوجة وإن كانت تنتظر الطلاق.

وتقع في غرامه عند لقائه، ويصير معشوقها بل إنها تعبر عن حبها له بعبارات خادشة لمشاعر أهل الديانة إذ تقول: «عشت الصوفية مع رئيف كإله عبدته ليرضى، وقربته ليفسح لي في نعيمه، أصلي من أجله، وأدعوه ليصفح عن زلاتي، أسجد له، ومن رهبة الإله أبكي، فأستحضر كل خشوع العابدين المتذللين الطائعين. أشعر بأنَّه يراني في كل مكان وأنه معي أينما كنت، حتى عطوري أنتقي منها ما يعجبه، وكذلك صابوني وأدواتي ... » [ص33].

وربما عُدَّتْ هذه العبارات مجرد مجازات !! لكنها ذات دلالة إذا ما قرنت بفكرة عبادة غير الله تعالى، التي برزت في زيارة لها مع خِدْنِها للهايدبارك، حين تستوقفها امرأة عجوز سمراء تدعو لعبادة آلهة جديدة، حيث تقول سارة عنها: «كانت تنادي الناس لآلهة جديدة تستحق العبادة من وجهة نظرها، وكان الناس يمرون بها ويسمعون نداءها فترتسم على وجوههم علامات السخرية!

وبعد أن اقتربْتُ من السمراء المسنة أدركْتُ أن السخرية لم تكن لأنها تنادي بآلهة جديدة، وإنما لمناداتها بآلهة إناث، يااااه، أيَّ زمن أرادت تلك العجوز أن تعيده للمرأة، أي حقوق تبحث عنها» [ص22].

ولا يخفى إعجابها بهذه المرأة ورؤيتها ما تدعو إليه حقا من الحقوق، حتى قالت في نفسها: «تُرى هل يصل الهوس بي يوما أن أناديَ بعبادة المرأة» [ص22].

وهل المناداة بعبادة المرأة مجرد هوس!!

وما بي في هذا المقال أن أتعرض للبناء الفني، ولكن حسبي أن أشير إلى المفارقة بين عبادتها للرجل معشوقا وجموح خيالها مع الدعوة لعبادة المرأة، هي ذات دلالة مهمة على أنَّها في حقيقة الأمر لا تعبد إلا هواها، وهذا ما يفسر لنا ثورتها على كل شيء يقف أمام هواها.

فبعد أن تعيش مع رئيف بضعة أيام من الزنا الذي تسميه «الحب الذي مارسته مع رئيف» و«نشوة سرير الحب» [ص17] - تعود إلى الرياض، وهناك تشعر بالفقد الشديد والاشتياق الجامح له، ويبدأ هو في تجاهلها شيئا فشيئا، وهي تختلق له الأعذار، حتى إذا ما كادت تقطع فيه أملها إذا به يتصل بها من الرياض، ويخبرها بعودته، ويقدم لها عذرًا على انشغاله عنها تفرح به، وتطلب مقابلته في مطعم؛ ليَقْبِضَ عليهما رجال الهيئة ويودعوهما السجن.
وفي السجن تطَّلع على قصص نساء أخريات كان العشق المحرم والفاحشة سببا في حبسهن، وهي بطبيعة الحال تتعاطف معهن وترى أنَّهن مظلومات.

فهذه نورة تعترف بجريمتها بقولها عن زوجها: «نعم كنت أخونه، وبكل قواي العقلية سأخونه! لأنه رجل لا يستحق بكل بساطة إلا الخيانة» [ص48]، وليس عجيبًا أن ترى سارة – وهي زميلتها في الخيانة – في هذا الاعتراف مصالحةً مع النفس إذ تقول: «هكذا كانت تعترف أمامي وأمام السجينات، بعضهن يعتبرن كلام نورة وقاحة، أما أنا فأنظر إليه نظرة إكبار، إذ يكفي أنَّها متصالحة مع نفسها، وصراحتها تعكس واقعا، وليست كالأخريات اللواتي يتحدثن بعفة ومثالية ولسن في الواقع سوى عاهرات» [ص48].

ولا أدري ما مفهوم العفاف والعهر عندها!!

لا تكاد تقضي العجب من هذه حتى تطالعك أخرى تدعى خولة، تلك المرأة التي خادنت رجلا بعد طلاقها من زوجها وأبي أولادها، تقول بكل صفاقة للصحفية: «أول شي يا أَبْلَى أبيك تفهمين شي مهم، أنا صحيح مسجونة بقضية أخلاقية لكن وربي أنا ما أعرف ها السوالف، أنا حبيت شخص وهو حبني، وتواعدنا على الزواج، وجسمي هذا ما حد لمسه غير طليقي وحبيبي، وأنا إذا أعطيته لحبيبي فهذا حقي وحقه، حنا نحب بعض وبنتزوج» [ص59].

إنها تؤمن بحرية التصرف في جسدها، ولا ترى للشرع الإلهي سلطانًا عليها، فهي تقسم ببراءة شديدة أنَّها لم تعط جسمها إلا لطليقها وحبيبها، وأنَّ هذا حقها، كأنَّ الزنا بالتراضي ليس جريمة، ولا غرو أن سارة الراوية متعاطفة معها منذ البداية، لا تنازعها في هذا الحق، كيف وقد مارسته حتى مُنِعَتْ منه قهرًا وقسوةً؟!

وثالثة الأثافي امرأة قتلت زوجها فإذا بالأخت سارة تدافع عنها وترى أن هذا حقها، تقول عنها: «سميرة التي اشتهرت بلقب (فتاة عسير) تقطن الزنزانة منذ أكثر من ست سنوات؛ لجريمة قتل اقترفتها بحق الرجل الذي سلخ عنها آدميتها وألقى بها خارج دارة الإنسانية. يريد القاضي إعدامها، وأهل القتيل ينتظرون موتها، وما هي إلا امرأة قتلت رجلا صخَّر قلبها، ... سميرة لم ترتكب جرمًا ولم تقتل حتى وإن أطلقت عليه رصاص البندقية، ورفعته بذراعيها النحيلتين لتحرقه، فقد أحرق قلبها قبل أن تحرق جسده، وطعن أحشاءها قبل أن تفرغ رصاص البندقية في أمعائه، ويأبى الذكور إلا أن ينعتوها بالقاتلة، ولكن أي جريمة ارتكبتها أمام جرائم رجل اغتال فيها روح الأنثى» [ص 49].

ولعمري إنها لمحاولة غاية في السماجة لاستعطاف السامع تجاه تلك المرأة القاتلة، وما أغباها وهي تقول: ويأبى الذكور إلا أن ينعتوها بالقاتلة، وكأنَّ الوقائع صار لها تأويلان بحسب جنس المؤول!!!

هذا هو الخيط الأول الذي يريك المرأة في صورة مقهورة ممنوعة من ممارسه حقها في أن تعطي جسدها لمن تشاء أو أن تقتل زوجها متى شاءت .. مسكينة تلك المرأة، رقت قلوب القرَّاء لها وصاروا مهيّئين الآن لأن يتلقوا صور المنع من تلك الحقوق والتجريم لها والعقوبة عليها والنفور منها على أنَّها عدوان وظلم وقهر، وأن ينفروا من كل ممارسة من شأنها أن تقف عائقا أمام ذلك المعبود الجديد؛ الهوى.

وهنا يبرز طرف الخيط الثاني، حيث تتفنن الراوية في تبشيع صورة رجال هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وتبدأ معالم قبح الصورة في طريقة تجنيد عمال المطاعم والضغط عليهم للإبلاغ عمن يشكون في سلوكهم، فهذا مدير تسويق في أحد فنادق الرياض يشرح للبطلة هذه المأساة بلهجته الأردنية: «هاظول يا ستي إذا مر شهر ما إجاهم بلاغ منا بيجوا عندنا بالفندق، وبيمسكوا كم واحد من الموظفين وبيرموهم بجنطة الجيمس، ويبقوهم عندهم كم ليلة لحد ما يأدبوهم، والرجَّال من هظول جاي يعيش ويجمع لو قرشين ما بدو دوشة راس، طول ما هوا بيبلغ طول ما بيكون عايش مرتاح» [ص 39].

إنها صورة القمع والتهديد بلقمة العيش، التي تعطي شعورا للمتلقي بأنَّ صاحبها ليس رقيق الديانة فحسب، بل أيضًا قليل الحظ من معاني الإنسانية.

ثم تأتي اللقطة الثانية مضيفة بُعدَ الجلافة والوحشية في التعامل مع المشتبه فيهم، تلك التي تظهر في طريقة القبض على سارة ورئيف في المطعم، حيث نرى سحب الحاجز الساتر لهما ورميه على الأرض، وانقضاض أربعة ملتحين على رئيف، وتكتيفَه وسحبَه، حتى حملوه ورموه في السيارة كأنه خروف، وجَرَّ سارة من عباءتها، وصفعَها على وجهها حين صرخت حتى كادت تفقد البصر، ثم ضربَها في السيارة حتى فقدت الوعي، ونسمع عبارات مثل: «قدامي لا أسحبك» «قم يا علماني» و«قدامي يا الداشرة»، [أي المنحرفة المتفرغة للباطل]، وصراخ رجل الهيئة.

وثالثة اللقطات ما تعاينه البطلة من معاملة رجال الهيئة لها في مقرهم ويكفي أن نسمع عبارات من مثل «استري نفسك الله يلعنك ويلعن أمثالك يا حريم السوء»، ونرى طريقة الضرب الوحشية لها حيث يضربها أحدهم بقدمه في بطنها، تقول: «وهكذا انهالت عليَّ الضربات واحدة تلو الأخرى في المكان نفسه، حتى أسقطتني ضرباته على أرض الكرامة المهدرة، فتشربها جسدي بأكمله، ورأسي الذي تطن به أصوات المقهورين قبلي وبعدي في هذه الغرفة، وكذلك حواسي جميعها تشربت رائحة الظلم».

الظلم وإهدار الكرامة هو لب الرسالة.

ولذلك لا يكفي في إيصالها مجرد العنف اللفظي والبدني، بل لا بد أن تتطور إلى طريقة التحقق من التهم، أو بالأحرى تلفيق التهم، حين يطلب منها أحد رجال الهيئة أن توقع على اعترافات بسلسلة جرائم لم ترتكبها، وحين ترفض تجابه بصفعة قوية، ثم يأتي آخر بعصاه الخشبية العريضة الرأس الدقيقة الساق، يضربها على رأسها حتى تسيل دماؤها وتفقد الوعي.

إنه مشهد مأساوي يدفع أي إنسان للتعاطف مع البطلة ويردد معها قولها: «ما يحصل في هذه الساعة هو جريمة كبرى، ليست بحقي فحسب، بل هي جريمة بحق الإنسانية، وبحق وطني، وبحق الدين الإسلامي الذي يتصرفون باسمه، ويريدون توظيفه في إهانة البشر وسحق كرامتهم».

وحينئذ يجد القارئ نفسه منساقا لرفض هذا النظام وربما لكل نظام ينتسب إلى الشريعة، لأنه ينتج أمثال هؤلاء القساة الظلمة الذين يدوسون كرامة الإنسان لمجرد أنه أراد أن يحيا بحرية، ويتصرف دون قيود، ولعله يجد لوصف البطلة للعلمانية بأنها «الفكرة السامية التي أحلت العدل بعد بطش الكنيسة في أوروبا» [ص54]، محَلًّا في نفسه ناسيا بذلك جريمتها التي تستوجب العقاب.
***
لعلي قلت من قبل إن الكاتبة هي التي لعبت بهذين الخيطين، وهذا صحيح لكن على أن يضاف إليه أمر ثالث وهو التهافت الذي أرادت الكاتبة أن يكون في منطق بطلتها، فليس لأحد أن يجزم بأنَّه منطقها هي، إذ قد يكون هذا التهافت مع عنوان الرواية ذريعة لقلب المقصد البادي، فالأدب ألاعيب فنية، يذهب بك إلى أقصى اليسار حتى إذا كدت تقطع بمكانك إذا به يريك أنه ما عرض إلا المرآة وأنت في أقصى اليمين.

هل أرادت الكاتبة أن تطرح رؤيتها متسترة بكلام سارة، حيث بناءُ السرد بالضمير الأول يجعل كلَّ ما فيه منسوبًا ابتداءً إلى صاحبه لا إلى الكاتب؟

أو أرادت أن تطرح رؤيةَ غيرِها مبرزةً إياها في منطق متهافت للمدقق، متخذةً من هذا التهافت، ومن العنوان (نساء المنكر) وسيلة فنية لإيصال رؤيتها الخاصة؟ وهي وسيلة معتبرة على ما فيها من خفاء على بعض القراء.
لكن ما حاجتنا إلى إجابة هذا السؤال؟ ألا يكفينا أن نتمسك بتعاليم ديننا، التي تنبذ المنكر ونساء المنكر؟!!
***

قراءة في رواية (نساء المنكر) لسمر المقرن

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى