السبت ١٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم سامي العامري

الهبوط في ساحة المَرْجة!

وليْ في رياض الشامِ تذكارُ مَدمعٍ
وصَحْبٍ كما الأطيافِ في غفلةٍ غابوا
فآهٍ على روحي العليلةِ وادياً
أتحنيهِ أنسامٌ وتَلويهِ أعشابُ!؟

****
سقطتْ تفاحةٌ على رأس نيوتن فاكتشفَ قانون الجاذبية الذي يُعَدُّ مِن أهم ركائز العلوم الحديثة، تُرى كم من أطنان الطابوق والحجر سقطتْ على رؤوسنا في هذه الدنيا ولم نكتشف قانوناً إلاّ اللهُمَّ قانون الرجم والتكفير .....!!!؟
علَّقَ ضاحكاً بائعُ الدخان الذي ابتاع منه المغترِب علبة سيجائر محلية الصنع: كلامك هذا لذيذٌ بل له نكهة المُدام الخَنْدَريس!

وأضاف: ويقولون: إنك لا تعبر النهر مرتين.

ولكنهم لم يفكروا فيما إذا كنّا نجيد العَوم أصلاً!

ومع ذلك ففي الماضي شبه القريب لم يترك الملعون جمال باشا السفاح عالِماً أو مفكراً حرّاً إلاَ وشنقه وتحديداً في ساحة المَرجة هذه! ولكن هذا السفاح مَهما قيل عنه يظل أجنبياً...
فردَّ المغترِب: هذه أحاديث لا بد لك أن تبثَّها أحياناً حتى ولو لأشباح الطرقات كي تستريح قليلاً رغم معرفتك بأن أيسر ما تجلبه لك هذه الأحاديثُ من أمراض هو تقصُّف الشَّعر ووقوفُهُ! ولكن يا حبيبي وطنك العربي هذا من أقصاه الى أقصاه ظل يبارك هذه التقنية ويزيد عليها!

فدكتاتورنا السابق مثلاً ومن أجل المزيد من تطوير طرقِ التعذيب كان قد اشترى أحدثَ فَرّامات اللَّحم البشريِّ وتحديداً من المانيا الشرقية سابقاً!

وكم من العقول والكفاءات الكبيرة وُضِعت لحومُ أجسادها المفرومة في أكياسٍ فصارت طعاماً للأسماك!

كانت الموسيقى العربية مختلطةً مع الأذان! ومع أصوات الباعة المتجولين وعرباتهم
وجلساتٍ عائلية تحت أشجار الصفصاف ووشوشاتِ عشاقٍ قريبة مع أنها بعيدة!
كل هذه كانت تشكِّلُ منمنمةً بألوانٍ فَرِحةٍ استفزت ماضياً جَموحاً يهبُّ من الدم بقوة ثم لا يلبث أن يتحول الى زوارق ورقية تتهادى فيه:

بالشام أهلي وبغدادُ الهوى وأنا
بالرقمتين وبالفسطاط إخواني
وما أظن النوى ترضى الذي صنعت
حتى تشافهَ بي أقصى خراسانِ (1)

****

قال المغترِب بعد أن تلا هذين البيتين:
لا تزدني أسىً على أسىً، سألتَني قبل قليل لِمَ أنا هنا وهل عندي أقرباء، أصحاب، أصدقاء فأجيب: أتيتُ الى هنا لزيارة هذا البلد العجيب الذي أشتقت اليه ولأرى صديقاً قديماً وصل قبل شهرين الى هنا من وطني واتصلتُ به عند وصولي فقط لأفاجئه وسيأتي اليَّ في العاشرة مساءً حيث وصفتُ له مكاني هنا وقد فكرتُ أنه لا بدَّ أن أمضي هذا الساعات في شوارع المدينة وساحاتها وأسواقها وأتشرَّبَها قبل وصول صديقي فقد كنتُ هنا في العام 1985 وعشتُ لمدة شهرٍ وكان لي هنا معارف وأحباء نادرون لكن مضغَتْهم الآفاقُ خيرَ مضغةٍ! ثم إني لستُ سائحاً.

قال البائع: يسلم ذوقك، ولكن هل ستمكث طويلاً هنا أم تعود أدراجك على عجل؟
وماذا عن مرابع طفولتك، عن وطنك خاصة وهو غير بعيد؟
سرحَ المغترب، برقتْ في روحه كلمات:
ذكرى لديَّ لصيقةُ القمرِ
أنا ما مشيتُ فكيفَ كيفَ ستقتفي أَثَري؟!

وفواكهي حمراءُ
يا لَمشاعلِ الشَّجَرِ!
هذا كتابي في يميني
والمدامعُ في شمالي
كلُّها رَهْنُ الخلافِ
ورهنُ قلبي وهو يسعى
للهطولِ على الضفافِ
بحيثُ فيها تنبضُ الأمواجُ كالوَتَرِ

*****
ثم قال لمحدثهِ: ليتني أستطيع العيش في وطني، أتمنى من أعماق جروحي ولكنه لا يريد أن يكون ذلك الوطن الذي ننشد، فالفن زندقة والمرأة إذا أظهرت شَعرها فسيغتصبها رجل الشارع المتوحش فوراً لذا فهم يَفتون بخنقها داخل قائمة من المحرَّمات حرصاً وغيرةً عليها!
أما إرغامها على الزواج ممن لا تريد فهو ليس اغتصاباً!

و ، و ، و.....

أنا آتٍ من بلاد البرد والرفاهية وحقوق الإنسان، إنها ليست بلادي طبعاً ولكنَّ ناسها رائعون معي وقوانينهم تحترمني وتكفل حقوقي وكأنني أنقذتُ بلادهم يوماً ما من طاعونٍ ألمَّ بها!

جلس بائع الدخان الذي كان طوال الوقت واقفاً وبعد أن ارتشفَ جرعةً وأعاد الزجاجة الى جيبه اليمين والقدح الصغيرَ الى جيبه الشمال

قال: أما أنا فالفقر وظروف عديدة أخرى كانت تمنعني من رؤية العالم فلم يحصل لي أن شاهدتُ وطناً عدا وطني وكل ما أعرفه عن بلدان الدنيا يبقى روايات من أناس سافروا فعادوا يروون مشاهداتهم , نعم , ومن بين ما سمعتُ أن الناس في البلد الذي تقيم فيه ليسوا مثل ناسنا فهم يختلفون عنهم في أنَّ كل فرد عندكم له رأسان وثلاث أذرع وأنهم لا ينامون إلاّ ساعة كل سنة.

ردَّ المغترِب: بل وكل رَجُلٍ له سماءٌ خاصة به

أمّا نساؤهم فهن لا ينجبن ولكن إذا شدَّهنَّ الحنينُ الى هَدهَدةِ طفلٍ فيكفي أن تصفق إحداهنَّ بكفَّيها حتى يتحول بيتها الى مَنْجَم أطفال!

إسمع دعنا نَكفَّ عن الهذيان: زِدْني عنك.

لَمْ تخبرني عن سر هذه الزجاجة التي في جيب سترتك.

ردَّ البائع: هذه نعناعياتٌ تُعتبر من خصوصياتي ومع ذلك وحتى لا يذهب بك الظن بعيداً أقول لك: أنا لا أشتريها ولكن هناك حانة قريبة تصلها شحنات العرق ليلاً وأنا أقوم بنقلها وصفِّها وترتيبها على الرفوف فأحصل مقابلَ ذلك على قنينة زائداً بعض المخللات!
وإلا فكيف أحتمل الوقوف لساعات طويلة في الليل وأحتمل البرد من دون شحنات! خاصة وتعاملي في الليل يكون أحياناً مع الأجانب الذين لا يجادلون كثيراً في الأسعار!
قال المغترب: أستطيع أن أفهمك.

ثم انتبهَ فجأة الى صوتٍ ينادي عليه باسمهِ ، بدا الصوت مألوفاً فاستأذن المغترِب عابراً الدرب الى بوابة السوق الرئيسية، تبدد الصوت تلاشى
قال لنفسه: لا شكَّ أنه هلوسة

ومع هذا انحدرَ داخلاً قلب السوق، أراد شراء الكثير، الكثير من الأشياء، والهدايا وكأنه سيعود غداً!

إلاّ أن الصوت الذي سمعه قبل هذا لم يكن هلوسة فقد كان صوت صديقه الذي أراد بالمقابل أن يفاجئه بمجيئه هو الآخر في وقت مبكر!

وبَعد طولِ عناق وتعبيرات الإشتياق أشارت يدُ صديقه الى مقهىً على الجهة الأخرى , تناولا شاياً , تبادلا عبارات متقطعة حائرة ثم نهضا ليضيعا في الأزقة القريبة للمدينة وبعدها قال المغترب لصديقه: تعال معي الى الساحة , هناك ما سحرني فيها.

سارا عائدَين والمغترب يحدث صديقه عن أفكاره وأحاسيسه وهو في الطائرة
ومن بين ما قال: ربما لا جديد فمازال يشغلني سؤال الدنيا , لم أستطع هضم المزيد فلم يكن المكان ملائماً للقراءة , طويتُ الكتاب الذي كان في يدي على جملةٍ بقيَ صداها يتردد في خاطري , جملة من رجل كبير جمعَ بين العقلية الغربية القلقة وبين روحانية شرقية تقوم أساساً على التذوق الصوفي: (( إنََّ حكمة الطبيعة لا تتفق مع موقوتية الحياة على الأرض لذا لا بد من وجود شكلٍ ما للحياة بعد الموت. )) ( 2 )

وحدثه عن لحظة هبوطِ الطائرة في المطار وهذه الساعات التي أمضاها هنا وعن بائع الدخان وحزنهِ وخفة ظلهِ الى أن وصلا...

كان بائع الدخان قد غادر المكان والليل راح يوغل أكثر فجلسا على نفس المصطبة يدخنان غير مبالييَن بلسعات البرد القليلة ,

قال الصديق بحميمية: عرَّفَني أحدهم على هذا المكان فصرتُ أمرُّ من هنا كل إسبوع فأشتري طعاماً وبعض الكتب والمجلات

رغم أني أقرأ قليلاً!

وأضاف: وأيضاً لا أستطيع الكتابة ربما بسبب الإنقلاب الكبير في حياتي فأحتاج الى فترة لكي أتكيف مع جودي الجديد هنا علماً أني لم يحصل لي أن انقطعتُ عن الكتابة لمدة إسبوع بكامله في الوطن ولديَّ العديد من المخطوطات ولكن كما هو حال صديقك مع العرق في الحانة فإني أصفُّ هذه المخطوطات على الرفوف وأنظر اليها وأضحك!

كنتُ بريئاً إذْ لم أكن أتخيل أنَّ عليَّ الوقوف في طابور من الكُتّاب يبدأ من هنا ولا ينتهي حتى جزائر الواق واق وكنتُ أرى هؤلاء الكتَّاب الواقفين في الطابور يرتدون زِياً موحداً فارتديته , لأني ظننتُ أنه من شروط النجاح ,

كان الكتّاب والشعراء ونقادهم على درجة من الكثرة والتشابه بحيث أن زوجتي عندما راحت تفتِّشُ عني لتأخري اضطرتْ للسير جنب الطابور لمدة اسبوعين وهي تتفحص في الوجوه الى أن عثرتْ عليَّ على بُعد ثلاثين متراً من باب المؤسسة الثقافية , والعرقُ يتصبب من جسمي ومن ظلي المكتوي بالشمس

فراحت تعنِّفُني وهي تسمع صراخاً آتياً من وسط الزحام تارة وتوسلاتٍ تارةً وسباباً وأحاديث عن أنَّ أحد الكتّاب سرقَ مِحفظة زميلٍ له!
وأمور أخرى غيرها.

قالت لي زوجتي: يا رجل أما كان بإمكانك البحثُ عن لقمة من مصدر آخر يحفظ لنا ماء الوجه؟

فاعتزلتُ الناس كحال العديدين ورثيتُ لهذا الوسط المشوه وأخيراً لم يعد الوضع يطاق ,
أأمل أن أعثر على بصيص حياةٍ فأدعو زوجتي اليَّ.

قال المغترب: وطنك الكبير هذا من المشرق الى المغرب قد يتنوع ويختلف في كثير من التفاصيل إلاّّّ في هذه النقطة ( الثقافة ) فهو متشابه حد تناسخ الأرواح!

فعن أيّ ضمير أدبي تتكلم!

ومِن أطرفِ ما تلاحظ فيها أنَّ هناك اتفاقاً سرياً وهو أنَّ على الشاعر أو الأديب أن يمدح النقّاد أولاً كشرطٍ لكي يتناولوا كتاباته!

أو أن يخلق نقّاداً من العدم ويصنع لهم تأريخاً ويُطيل في تمجيده ليبادروا بمدحه بكل طيبِ خاطر!

قال صديقه: كانت حياتنا , أنا وأنت , بائسة ومحرومة ومهمشة ورغم ذلك أغنيناها بلقاءاتنا فباتت حارَّة وطريفة وذات معنى , أتذكَّرُ أول بيت لك أنشدتني إياه مطلع الثمانينيات:

أللحنُ كي ينسابَ في الألبابِ
لا بدّ للأوتار من زريابِ!

****
هل ما زلتَ تتذكره!؟

كلا! , قال المغترب , صدِّقني نسيته مِن بين الكثير الذي نسيتُ , آخ... شكراً لك على هذا الوفاء والجمال.

عاد بائع الدخان راكضاً كأنه عرف أنهما تكلما عنه قبل قليل: مئة أهلاً وسهلاً , لمحتُك من بعيد ففكرتُ: لا بد أن تكون الصديق المرتقَب.

فردَّ عليه الصديق وقد تكشَّف الفجر: أهلا , وسهلاً , صباح الخير , عرفتُ عنك الكثير قبل مجيئك لذا فأنا حين أمر من هنا في المرة القادمة سأفتش عنك وسأكون زبونك بل وستكون ضيفي ولكن دعني أرتاح أولاً!

قال المغترب لصديقه: وأنا أيضاً أود الآن أن أكون ضيفك! لدي حديث طويل معك , دعنا نذهب الى البيت لنستريح أولاً , أريد النوم عدة ساعات.

وهما ينهضان للعودة ارتجل المغترب كلاماً دافئاً بسيطاً:

قلبي مع السواقي وهي تستظل بذاكرة النخيل.

فزادَ صديقه: قلبي مع سنبلة تستضيء الريحُ بعرانيسِها!

سألتقي بكما , صاح بائع الدخان بارتباك قليل , وأضاف: هذا يفرحني وينسيني همومي فأنا كذلك أمضيت ثلاث ساعات واقفاً أمام الهوتيل الذي تريانه أمامنا ولم أبع إلاّ علبة دخان واحدة فلا بد أن أذهب الآن فستزدحم السوق وتمتليء دروبها بالمتبضعين والباعة بعد قليل.

فعلَّق المغترِب بدهشةٍ: ولكن السوق ممتلئة الآن
ألا تسمع الضجيج وترى ازدحام الناس؟
أجاب بائع الدخان ضاحكاً وهو يبتعد:
ألمْ أقل لك؟ وهذا مثال آخر على فوائد النعناع!

****
الهوامش

(*) نص من كتاب قصصي نثري شعري قادم بعنوان: النهرُ الأول قبل الميلاد.
(1) أبو تمام
(2) الشاعر الألماني غوته


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى