الاثنين ٣١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢
فيلم «سقوط السماء»
بقلم مهند عارف النابلسي

انطلاقة جديدة ممتعة للعميل السري

بدأت القصة بسرقة غامضة لديسك سري يحوي اسماء عملاء المخابرات البريطانية المندسين مع الجماعات الارهابية العالمية، وقد هدد السارق المجهول المحترف بكشف أسماء خمسة عملاء اسبوعيا ليتم اعدامهم فورا من قبل المجموعات الارهابية الدولية.

أبدع الممثل الاسباني خافير بارديم بدور الشرير الخارق سيلفا بكاريزما لافتة وخفة دم لافتة لا ترتبط عادة بسلوك المجرمين الخطرين، لقد انقلب على ماضيه شاعرا بالحقد والمرارة ومتحررا من قيوده، أما الممثلة المخضرمة البارعة جودي دينش فعادت باسمها الحركي " ام" كرئيسة لجهاز "ام16"، واعطت هنا للدور التقليدي نفسا فنتازيا مع مزيج من العاطفة والحزم، كما أضاف رئيس لجنة الأمن والاستخبارات الممثل رالف فينيس (بدور مالوري) توازنا دراميا ولعب ببراعة دور الوسيط المطلوب،كما لعبت الكيمياء الخاصة ما بين دانييل كريغ ودينش دورا ديناميكيا كقطبي الكهرباء لتحريك الأحداث بهذا النمط المتصاعد البالغ الجموح والجاذبية، وربما ساعد اختيار اسم "ام" لدينش كاشارة مجازية "للام" (القائدة الحازمة والعطوفة في آن) لبناء هذه العلاقة الخاصة ما بين رئيسة الجهاز والعميل السري الشهير، كما لعبت ناؤومي هاريس دور مساعدته السمراء الجذابة، حيث انها أصابته افتراضيا بالخطأ اثناء العراك فور القطار السريع، وأنقذت حياته مرة ثانية في ماكاو، وبالرغم من ذلك الا أن الكيمياء كانت مفتقدة تماما في تلك العلاقة، ودخل الممثل "بين ويشو" بدور المرجع التقني (كيو)، وبدا كمراهق متحمس وشغوف وملم بالحاسوب والانترنت وتكنولوجيا المعلومات، مكتفيا بتزويد بوند بمسدس مشفر وجهاز صغير لتحديد المواقع بدلا من الجهزة الاستخبارية العديدة السابقة، والأدوات القاتلة المبتكرة التي كانت تعطى له في الأفلام السابقة (كالقلم القاتل ).

لعبت الممثلة الفرنسية "بيرنيس ليم مارلوهي" دورا جديدا كفتاة بوند الجميلة سيفيرين، التي تقوده قصدا لمواجهة الشرير سيلفا،وذلك عكس الدور التقليدي (لفتيات جيمس بوند كدمية جنسية جميلة، وعكست ببراعة التوجس والقلق والخوف. تميز هذا الفيلم عن معظم افلام بوند الاخرى ببعده الانساني العميق، وتركيزه على مكامن الضعف الكامن في الشخصيات، كما أن دور الشرير لم يكن هنا سطحيا ونمطيا، وانما أداه بارديم ببرود وذكاء لافت (حيث بدا شكله غريبا بماكياج أشقر وحركات مثلية استعراضية)، ومن الواضح ان المخرج مانديس قد تأثر هنا بشريط الفارس الأسود لكريستوفر نولان، حيث نلاحظ اعادة مشهدية مبتكرة لسلوكيات الأبطال، وخاصة بطريقة اداء الشرير سيلفا واسلوبه الكاسح بمواجهة خصومه، آخذين بالاعتبار طريقة تقديم بارديم لدور سيلفا الذي يذكرنا أحيانا باسلوب الراحل هيث ليدجر في دوره الذي لا ينسى كجوكر (في الفارس الأسود) حيث "لا يقف شيء امام اندفاعه الشرير ومخططاته العبقربة"!

واذا ما تأملنا بصمات مينديس الابداعية في الاخراج وتحريك الممثلين، نجد قدرته الفذة متمثلة بتشكيل فريق متوازن حرفيا مع المام "ابداعي" غير مسبوق بأدق التفاصيل مما يجعله ينطبع في الذاكرة،أما المصور السينمائي روجر ديكنس فقد صور مشاهد بصرية تفوقت احيانا على مشاهد فيلم نولان الشهير (فارس الظلام)، وشكل مع مينديس جهدا كبيرا لتجديد انطلاقة هذه السلسلة بعد مرور خمسين عاما على انطلاق اول أفلامها، واثبتا ان دانييل كريغ هو من سيستمر بحمل شعلة بوند في المستقبل المنظور على الأقل، كما يبدو أنه تم هنا وضع مواصفات جديدة لهذه السلسلة في عصر حافل بالتحديات التقنية المتنوعة والسياسية والاحتقانات الدولية الجديدة، محافظا على نمطية الأفلام ومدخلا عنصرا انسانيا جديدا يتمثل بالحنين الجارف لمسقط الرأس، حيث تصور المشاهد الأخيرة في منطقة "سكاي هول" باسكتلندا وفي بيت طفولة بوند الريفي القديم وبوجود حارس البيت العجوز كينكيد (أدى الدور بشغف ألبرت فيني)، حيث استعرض طفولة بوند المريرة وحادث مقتل والده، وشاهدنا قبره المهجور، كما أن المشاهد الأخيرة كانت بلا شك حزينة وربما رومانسية بالرغم من قسوتها، حيث انتهت بمقتل سيلفا و"ام" متاثرة باصابتها الخطرة اثناء هجوم سيلفا وعصابته على الكنيسة القديمة المهجورة، وان كنت لم استوعب سبب غياب الاغنية الرائعة "سكايهول" هنا كخلفية موسيقية لهذه المشاهد الرائعة (ربما لتجنب تكرارها بعد أن استهل الفيلم بها) ! ومع ذلك بقيت الصورة النمطية البراقة للشخصيات باطارها الاستعراضي الحركي المعهود : كالبدلات الأنيقة والملابس الباذخة، والسيارات الحديثة الفائقة السرعة،والديكورات الفخمة والعرض الدعائي السمج المكرر لساعات اوميغا الفاخرة، ولكنه تجاوز هذه الأدوات الباهرة بمناظر عير مسبوقة لاسطنبول المدينة الساحرة التي تجمع الشرق والغرب معا : كساحة السلطان أحمد ومتحف أيا صوفيا الشهير ومدينة فتحية والسكة الحديدية فوق جسر فاردا قرب اضنة، ثم انتقل لشنغهاي في الصين فأتحفنا بمشاهد حركية لأعلى ناطحة سحاب ومشاهد في مضمار "أسكوت" الشهير، ولمطار شنغهاي الدولي " بودونغ"...وفي منطقة سكاي فول باسكتلندا تم بناء منزل كبير باستخدام الخشب الرقائقي والجص لتصوير الأحداث...وان حاول هنا كريغ ان يسرق شهرة شون كونري (الممثل الأصلي) باداء فريد استثنائي الا انه لم ينجح تماما باعتقادي، وان كان أدخل على الدور هنا عناصر جديدة كالابهار الزائد والجرأة الغير متوقعة والطرافة والفكاهة وصولا لهزل زائد، ولكن بارديم تجاوزه بتألق استثنائي واضافات مشهدية غير مسبوقة خلطت الشر الجامح بالطرافة والبرود والحكمة، وانصهرت كل هذه العناصر البشرية والأدوات والمواقع لتقدم شريطا رائعا لافتا، أثبت فيه سام منديس انه مخرج مغامرات من الطراز الأول وخاصة اثناء تقديمه لمطاردات وعراك يحبس النفاس فوق قطار سريع، بتصوير متزامن يدمج الحركة بالموقف محيرا المشاهد، ثم بتصويره لعراك قاتل في حظيرة عظايات ضخمة مفترسة (اسفل نادي قمار في ماكاو)، او باخراجه لقطات فريدة لمطاردة قاتلة فوق ناطحة سحاب في شنغهاي، وانتهاء بمعارك وتفجيرات ماحقة في لندن واسكتلندا،انتهت بتفجير مبنى "الام16" وهليوكبتر. أما المجاز الذي التقطته باعجاب فهو يكمن بمشاهد خروج سيلفا الشرير من مصعد وتوجهه لمقابلة بوند (المقيد اليدين)، راويا باسلوب استعراضي لافت طريقة مكافحة الجرذان التي تكائرت على الجزيرة، وتم صيدها وتجميعها وتركها معا بلا طعام لكي تقوم أخيرا بافتراس بعضها البعض، حتى بقي اثنان فقط قي اشارة مجازية له ولبوند كعميلا استخبارات منشقين وفاشلين، وتركهما يواجها مصيرهما بافتراس احدهما للآخر، وكعادتي الدارجة باسقاط مكونات الأفلام على واقعنا العربي البائس: أليس هذا تماما ما يجري في دول ما يسمى ربيعنا العربي، حيث نترك كجرذان تفترس بعضها البعض بضراوة بالغة، فيما يقهقه الأعداء بسعادة من غباءنا واجرامنا وتعاسة تفكيرنا!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى