الخميس ٣٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
من تراث العراق النقدي
بقلم كريم الوائلي

بدر شاكر السياب ناقداً قصصياً

مقالتان نادرتان للسياب

أسهم الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب « 1926م ـ 1964م » في نقد القصة القصيرة ، فلقد نشر مقالتين تناول فيهما بالنقد مجموعتين قصصيتين ، الأولى : «مهدي عيسى الصقر والمجرمون الطيبون » تعنى بنقد « المجرمون الطيبون » مجموعة مهدي عيسى الصقر القصصية ، وقد نشرت هذه المقالة في جريدة الشعب « العراقية» العددالاسبوعي 3869 / 29 حزيران / 1957 ، والثانية : « عبقرية لم تعرف حقها من التقدير » وهي تعنى بنقد « نشيد الأرض » مجموعة عبد الملك نوري القصصية ، وقد نشرت هذه المقالة في جريدة الشعب « العراقية » ، العدد الأسبوعي : 3876 / 6تموز / 1957 .

وهاتان المقالتان لهما أهميتهما التاريخية إذ تزيحان النقاب عن نصين يكشفان عن إسهامات الشاعر بدر شاكر السياب ، ولقد اطلعت على هاتين المقالتين في المكتبة الوطنية في بغداد ، في أثناء دراستي لنقد القصة القصيرة في العراق منذ زمن ليس بالقصير ، ويبدو أن الاطلاع عليهما يبدو صعبا على الكثيرين ـ في تلك الفترة ـ ، وتقديرا مني لأهميتهما التاريخية فلقد أدرجتهما في كتابي المخطوط «مصادر نقد القصة القصبرة والرواية في العراق ، وثائق وبيبلوغرافيا » ، وأرى اليوم أهمية نشرهما ليطلع عليهما الدارسون.

وتسهم هاتان المقالتان في الكشف عن طبيعة النقد الأدبي في العراق في خمسينات القرن العشرين ، وتشتملان على تصورات نقدية ، إذ تتعرضان لموقف السياب من الشخصية القصصية التي يرى فيها ضرورة التوازن بين عالمها الداخلي وملامحها الخارجية ، كما يؤكد طبيعة حوارها الذي ينبغي أن يعبر عن عالمها الداخلي من ناحية ، ومستواها الطبقي من ناحية أخرى ، ولذلك يرى أن القاص قد استخدم الحوار العامي للشخصيات القروية والحوار بلغة هي بين العامية والفصحى لشخصيات الطبقة الوسطى ، ولست في سياق مناقشة آراء السياب في شأن الحوار من حيث طبيعته الفنية أو واقعيته اللفظية فهذا أمر تناولته بالتفصيل في موطن آخر .

وعلى الرغم من أن بدر شاكر السياب كان ينقد قصصا فإنه كان ينهل بعض تصوراته من الشعر ونقد الشعر ، ولذلك فإنه يقتبس بعض أفكاره من ستيفن سبندر ، ويشير إلى قصيدة « الرجال الجوف » لـ ت . س . إليوت ، أو يتحدث عن ملامح هاملتية في الشخصيات القصصية .

المقالة الأولى :

نشرت في جريدة الشعب (العراقية )، العدد : 3869 / 29 حزيران / 1957 ـ العدد الاسبوعي .
مهدي عيسى الصقر والمجرمون الطيبون
بدر شاكر السياب

سوق الهرج في البصرة ... والشيخ هاشم الجواهري ، في مكتبته الصفراء يتحدث من خلال لحيته البيضاء عن البرزخ الذي تعيش فيه الأرواح قبل يوم الحساب وعن حوريات الجنة ولكن الشاب النحيف الجالس قبالته لا يستمع إليه . فأولى به أن يعرف كيف يعيش الأحياء في هذه الأرض .

وأبناء الريف يحملون معهم إلى المدينة زاد الشتاء المطل .. وزاد ليالي الشتاء ألف ليلة وليلة وقصة عنترة ، والمقداد والمياسة ، والشيخ الملتحي لا يتساهل في أسعار الكتب ... ومهدي عيسى الصقر ، يتطلع في وجوههم ويحلم بقصص يكتبها هو لهؤلاء وعن هؤلاء .

أبطال قصصه يبحثون عن الحب خلال بحثهم الدؤوب عن الخبز ... عن الحب الذي لا يكلف مالاً ولا وقتا ، عن حب يومي كالخبز اليومي . هذا « حنتوش » في ذلك الحي المظلم المزدحم بصرائف الطين ، المعروضة للبيع ليس في جيبه غير درهم . واستقبلته امرأة ذاوية بابتسامة لا روح فيها « أهلا بالشباب . تفضل » فيسأل « أول بيش ؟ » وحين تقول «درهمين » يحدق حنتوش فيها فلا يجد ما يغري سوى بياض بشرتها ويساومها وتساومه حتى تقول « سبعين أي ابن الحلال أكو واحدة تنطيك نفسها بأقل من سبعين فلس ؟ » وهذا « علي » الحلاق يشيع رأس الفتى ذي الشعر اللامع المصفف حتى يختفي في الزحام ، ثم يلتف إلى الصغير الذي كان ينظف بلاط الدكان مما تساقط عليه من شعر الزبون .

ويسأل « ليش تأخرت اليوم ؟ » فيرفع كاظم عينيه في شيء من الخوف ، ويجيب « أبوي ضرب أمي » ويثير هذا الجواب فضول الحلاق ، فلا يسأل عن العلاقة بين تأخر الصبي وبين ضرب أبيه لأمه ، وحين يعرف أن « هندال » ضرب زوجته لأنه كان سكران ... يسترسل في حلم طويل ، يتمنى فيه ويشتهي ، ويتذكر .. وتلح صورة أم كاظم عليه ، جسدها المكتنـز ، والخرق الصغير في ثوبها الرث يكشف عن لحم كالحليب ، شدت إليه عيونه . كان قد اضطر إلى استبقاء كاظم في الدكان إلى ما بعد الثامنة ليلا ... فجاءت أمه قلقة تسأل عنه والليلة ، الليلة سيستبقي الصغير إلى ما بعد الثامنة علّها تأتي ...

وحتى « عوفي » الذي يقبع هو وخرافه الخمسة في ظلمة الليل والضباب في انتظار « قطار الحمل » ... حتى « عوفي » يبحث عن الحب في أثناء انتظاره للقطار . جاء قطار الركاب ، ووقف في المحطة . وكانت العربة التي أمامه من عربات الدرجة الأولى ومن خلف زجاج النافذة تراءى لعوفي وجه فتاة فاتنة .. وعوفي يحدق فيها بشراهة . وصرخ القطار ، فتنبه عوفي وراح يشبع نظره من هذه الحسناء...

ومهدي عيسى الصقر مخلص لفنه لا يكتب إلا وهو ممتلئ أن أشخاص قصصه هم الذين يفرضون عليه أن يكتب كأنهم ينضجون من أعماقه فيوشك ان يختنق إن لم يكتب . وهو يعيش كل لحظة من حياته يقرأ ويلتقط ، ويختزن التجارب والملامح ، والأحاديث والعواطف .

كان منذ بضع سنوات يملك دكانا صغيرا يبيع الأقمشة فيه ويكتب القصص فيه أيضا . كان الزبون ، في نظره نموذجا بشريا قد يصبح بطلا لقصة ... وليس مشتريا لم يكن يصبر على مساومة الزبائن ، إلا الذين يخمن من مظاهرهم ، ان فيهم زادا يتزود منه القصاص فيه لا التاجر ، وخسر تجارته ولكنه ربح نماذج لقصص منها ما ظهر ومنها ما سيظهر ذات يوم .

يوازن في قصصه بين العالم الداخلي والعالم الخارجي فهو يجمع في قصصه القصيرة بين طريقتي دستوفسكي وتولستوي في كتابة الرواية ولكنه لا يهتم بوصف ملامح أبطاله الخارجية وانما يقصر اهتمامه على وصف حركاتهم ، والاطار الذي يتحركون فيه ولعل هذه حسنة من حسناته ، وليس عيوبه لأنه لا يترك المجال مفتوحا أمام القارئ ليختار الملامح التي يريدها لهذا البطل أو ذاك ، بعد أن عرف مهنته ومنـزلته الاجتماعية ، وأسلوبه في التحدث ..وبعد أن عرف انفعالاته وردود أفعال الآخرين إزاءه .

أكثر شخصياته من الفئة الريفية الفقيرة النازحة إلى مدن يراها هؤلاء القرويون مدنا بالقياس إلى الريف .. أو من عمال المدن

ويكتب عن تجاربه هو أحيانا ، فيكون البطل من الطبقة الوسطى ، من سكان المدينة وبما اجتذبته حياة اللهو فيها فترة من حياته ، ولكن الريفي كامن في أعماقه في النهاية ... وتنتصر الحياة الزوجية المستقرة ، بين بكاء الأطفال وضجيجهم الحلو هذه هي الحياة التي يعرفها القرويون ويؤثرونها أكثر مما يعرفها ويؤثرها أبناء المدينة .

والحوار في قصصه تبعا لهذا باللغة الدارجة إذا كان الأبطال من الفئة الأولى ، وبلغة هي بين العامية والفصحى ، إذا كانوا من الفئة الثانية ، ومهدي عيسى الصقر متمكن من السيطرة على الحوار ... فهو ينبض بدفء الحياة ولا تشعر فيه بتكلف ولا اصطناع ، فلنقرأ هذا المقطع من قصة الضباب :

« ويدس عوفي يده في جيب سترته الممزقة ويخرج بضعة دنانير هي ثمن الخراف الخمسة التي باعها في المدينة ويعد النقود للمرة العاشرة وتنظر إليه « نوفة » من طرف الكوخ وتحك بأظافرها الطويلة رأسها الاشعث ، ثم تسأله
ـ عوفي موش تريد تبيع الهايشة ؟
ـ ولج الهايشة نافعتنا نبيعها ونسكت ؟ شلون ؟
ـ اذا ما تبيعها يكتلها الغطار مثل ما كتل هايشة بيت زاير فرهود »

ولنقرأ بعد ذلك ، هذا المقطع من « بكاء الأطفال » انه يود لو قام القطار قبل موعده لتهدأ قليلا لكن ابنه لا يزال يبكي ، فالتفت إلى زوجته :
ـ اشغليه بحق السماء
ـ بماذا اشغله
ـ ضعيه على صدرك
ـ قلت لك ليس فيه لبن
ـ اعلم ذلك ، دعيه يمتص لعله يسكت .
ـ والى متى ؟
ـ إلى أن ينقطع نفسه ، أو ينقطع نفسي

لم يصدر مهدي عيسى الصقر سوى مجموعة واحدة من قصصه هي « مجرمون طيبون» التي طبعت عام 1954 . في هذه المجموعة تسع قصص كانت أحسنها « الطفل الكبير » و «الضباب » و « عواء الكلاب » و « هندال » و « بكاء الأطفال » و « الطفل الكبير» أحسن هذه القصص الخمس وفي هذه المجموعة قصتان فاشلتان هما « مجرمون طيبون » و « القطيع القلق » .

وندرك من التسلسل الزمني لقصص هذه المجموعة ومن القصص التي نشرها في مجلتي «الآداب » و « الأديب » بعد صدورها ، ان هذا القصاص النابغ يتطور بسرعة عجيبة .
ومهدي الصقر ، يعد من بين كتاب القصة القصيرة اليوم في العالم العربي كله .

ويعكف مهدي الصقر الآن على كتابة قصة طويلة « رواية » قضى أربع سنوات من حياته وهو يعيش مع أشخاصها وتدور حوادثها في « الفاو » في أقصى جنوب العراق ، حيث تتصارع بقايا الحياة القروية مع طلائع حياة المدينة ، التي تغزوها مع النفط وعماله .

المقالة الثانية :

نشرت في جريدة الشعب ( العراقية )، العدد : 3876 / 6تموز / 1957 ـ العدد الاسبوعي .
عبقرية لم تعرف حقها من التقدير

بدر شاكر السياب

يقول الناقد ، الشاعر ، الانكليزي « ستيفن سبندر » إن شعراء العصر الاليزابثي الذين كتبوا المسرحيات الشعرية وعلى رأسهم شكسبير ، ليكونوا من كتاب الرواية ، القصة الطويلة ، لو أنهم عاشوا في عصرنا هذا . ويقسم سبندر الرواية إلى قسمين شعرية و نثرية . ولا يقصد بالرواية الشعرية التي تكتب بكلام موزون ومقفى ، أو غير مقفى ، بل التي تكتب بأسلوب شعري ، وأن يكون أبطالها رموزا لفكرة من الأفكار ، وأشخاصا من لحم ودم في آن واحد ، وأن يكون جوها شعريا .

واذا كانت الروايات الشعرية التي ظهرت حتى الآن قلية العدد فان القصة القصيرة أخذت اليوم تقترب من القصيدة الشعرية بصورة ملموسة ، وشواهدها كثيرة .

ومن القصاصين ـ الشعراء ، وهم قلة في أدبنا العربي حتى الان ، عبد الملك نوري ، بل لا أغالي إذا قلت إنه خيرهم ، واغناهم فنا وشاعرية . فهم عبد الملك نوري الواقعية كما لم يفهمها الا القليلون من الأدباء ، شعراء وناثرين ، ومن الفنانين رسامين ونحاتين ، وتحول هذا الفهم عنده ، إلى عمل ، إلى قصص قصيرة ، كما لم يتحول الا عند قلة من هذه القلة، كل قصة من قصصه الناجحة ، وهي تكاد تكون ناجحة كلها ، جديرة بدراسة تخصص لها .

أقول الحق الصراح ، الذي لا يجامل ولا يجحد ، ان مجموعته القصصية الرائعة «نشيد الارض » سدت الفجوة الواسعة بين القصة القصيرة في الأدب العربي ومثيلاتها في الآداب الاوربية ، وألحقت ركبها المتأخر أجيالا ، بركب القصة القصيرة التي تخطت القرن العشرين بأعوام سبعة .

في قصص عبد الملك القصيرة أحسن ما في روايات دستويفسكي من ميزة : ان المسرح الذي تدور فيه اكثر « احداث » القصة هو نفس البطل ، أو ذهنه أو ضميره سمه ما شئت !! إنه العالم الداخلي . والأحداث التي نسميها كذلك مجازا هي حشد من الذكريات والتمنيات ، والأحلام ، والهواجس . وقليل من أحداث القصة فحسب يحدث في العالم الخارجي ذلك أن أبطال عبد الملك نوري أبطال منهزمون ... كان الواقع ، بكل تعقيداته ومنطقه الذي هو ليس منطقا ، أقوى منهم ، أقوى من امكانياتهم كأفراد ، فهربوا إلى « العالم الآخر » إلى نفوس يلوذون بها من الواقع الذي خيبهم .

أبطاله شخصيات « هاملتيه » يتكشف ضعفها أمام اعينها وأعين الناس حين تعمل ، وهي تدرك هذا في أكثر الاحيان ، ولذلك تنفر من العمل ... المضطرة إليه .

المونولوج الداخلي عند هذا القصاص العبقري عنصر أساس من عناصر القصة ومن عناصر الشعر فيها ، بل لعله عنصرها الأهم .

وينفرد عبد الملك بين كتاب القصة القصيرة في الأدب العربي جميعا بأنه يستخدم «الرمز » في قصصه ، وينجح في ذلك نجاحا يكاد لا يجاري .

أهناك شبه بين أبطال عبد الملك نوري وبين « الرجال الجوف » كما صورهم الشاعر الانكليزي ت . س . اليوت في قصيدته الرائعة عنهم ؟ ! لا أدري . ولكن «الظل» أو الستار الذي تحدث عنه « الرجال الجوف » مائل في كثير من قصصه :

بين الفكرة والواقع

بين الحاضر والعمل

يسقط الظل

والستار ، الظل ، أو الحجاب ، بين إرادة الشخصيات « الملكنورية » نسبة إلى عبد الملك نوري ـ وبين الواقع ، لا يسقط لان الملكوت ـ حسبما نقرأ في « الرجال الجوف » ولكنه يسقط لأنه لغير الله ، لله تعالى .

بين الفتاة في قصة « العاملة والجرذ والربيع » أو بالأحرى ، بين أحلام الفتاة وأمنياتها ، وبين الواقع ، يقوم سياج الحديقة الذي اتكأت عليه تصغي إلى الأنغام الموسيقية العذبة المنبعثة من ابهاء القصر ، وتحلم بعالم « سندرللا » وبين السكير الكهل في قصة «الجدار » وبين ابنه الشاب ، يقوم الجدار .

وبين الشاعر الحالم في « قصة غثيان » وبين جسد المرأة العارية ، يسقط ظل عينيين كأن ظل « سينارا » في قصيدة داوسن الرائعة « البارحة ، آه من ليلة البارحة ، فبين شفتي وشفتيه سقط ظلك ياسينارا » .

ولكن الشاعر في قصة عبد الملك اصيب بالغثيان وسقط الظل بينه وبين المرأة قبل أن يقبلها .

وفي بعض الأحيان ، يعجز أبطال عبد الملك نوري حتى عن تحقيق أمنيات بسيطة للغاية . فالديك النذر الذي تحمله المرأة الريفية في « قصة ريح الجنوب » إلى ضريح الشيخ محيي الدين ، يفر من يديها وهي في القطار .

قصة واحدة من قصص هذه المجموعة ، فيها شيء من الأمل ، فيها انتصار وقتي على الواقع ، هي « نشيد الارض » ... انه مجرد حلم ، لا يغير من الواقع شيئا . ولكنه انتصار على كل حال .

وبعد فهذه مقدمة قصيرة لدراسة واسعة لقصص هذا الكاتب العربي العبقري انوي تقديمها في فرصة سانحة .

وان لمما يخجلنا ، كنقاد للأدب ، أو متذوقين له ، أن تقوم بيننا عبقرية كعبقرية عبد الملك نوري، دون أن نوفيها حقها من التقدير .

مقالتان نادرتان للسياب

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى