الأربعاء ٧ آب (أغسطس) ٢٠١٩
في عددها الثاني – صيف 2019

«براءات» تشتبك مع ملفِّ الشِّعر والعولمة

بطبعتين واحدة عربية وأخرى فلسطينية، صدر اليوم عن منشورات المتوسط - إيطاليا؛ العدد الجديد من مجلة "براءات" - صيف 2019، وقد جاء العدد الثاني مُتعدِّداً ومتنوعاً من حيثُ المواد والمختارات الشعرية التي وزِّعت على أبواب المجلة في اشتباكٍ متشعِّب ابداعي وفكري مع ملفِّ "الشِّعر والعولمة".

13 مادَّة بين الدراسات عن الشعر والاشتغالات الصحفية من مقالاتٍ وترجمات، كما يُميَّز العدد ملفٌّ مُطوَّل عن الكتابة الجديدة في السودان بعنوان: غناء العزلة ضدَّ العزلة. وكذا نقاشٍ مفتوح حول ملفِّ "الشِّعر والعولمة" من دمشق في جلسة خاصة ببراءات، أدارتها الشاعرة وسكرتيرة التحرير مناهل السهوي بين خمسة شعراء وشاعرات، ليتحدّثوا عن الشِّعْر والعولمة وسورية، وليكتُب قبلها صبحي حديدي عن عولمة القصيدة في الشكل والموضوع: من الصوت والصفحة إلى الشاشة والرَّقم. وبترجمة المصطفى صباني سنقرأ للكاتب الفرنسي المارتينيكي الكبير باتريك شامْوازو مادة عن العولمة والعالمية بفرضية أنَّ العالم بكامله هو مُشكَّل من احتمالات لا متناهية. عن لغة موليير أيضاً ينقل لنا سعيد بن الهاني مقالة عن الشعر الفرنسي والعولمة، وكيف يكون الصوت الإنساني علامةً فارقة. ليُترجم أمارجي للشاعرة والناقدة والكاتبة المسرحية الإيطالية ماريّا غراتسيا كالانْدرونهْ مادة بعنوان: مجهولو الهوَّية؟ أم عالميو الانتماء؟ ويختار عبده وازن الكتابة عن ديوان لوركا الكابوسي "شاعر في نيويورك"، المدينة التي صدمت الشعراء بعولمتها المبكرة. لكن رائد وحش يعود بنا إلى الكهف مرَّة أخرى معتبراً كلّ صفحة إلكترونية كهفاً، وكلّ صاحب صفحة سجيناً هناك. بينما يقارب لونيس بن علي الشعر في زمن عولمة الحروب، من وُجهة نظر الفلسطينيّ الذي يُقتل مرّتَيْن. يكتب محمد ناصر الدِّين: الشعر بديلاً عن عولمة الكراهية، في الوقت الذي تتمّ فيه هندسة العالم اليوم أو عولمته كي لا يُسمَع صوت الشِّعْر. وعن غسان علم الدِّين تكتب وفاء الشعراني، واصفةً الشاعر الذي رحل مؤخراً بشاعر جماليات القلق والحداثة الخطرة، في حين يكتب أنطوان جوكي عن التلاحم الشعري والذهني في شعر مينا لوي الرُّؤيوي مع مختارات من أشعارها بوصفها واحدة من التجارب الفريدة من نوعها في الشِّعْر الأنغلوسكسوني. قبل أن يقتفي عيسى مخلوف أثر القصيدة في الباب الأخير.

كما وتتذكَّر مجلة براءات، من خلال صورة العدد، الشاعر العراقي الكبير الذي غادرنا هذه السنة فوزي كريم، وهو ينظر من نافذة قطار على وشك الرحيل. التقط الصورة في مدينة بولونيا المترجم والشاعر گاصد محمد.

عددٌ بانورامي جمع في 216 صفحة من القطع الكبير، مواد تنوَّعت على اختلاف الأسماء والأجيال والحساسيات الأدبية والفكرية، تماهت معها لوحات أنجزها خصيصاً للمجلة رائد وحش، لترسم ما يُشبه خارطة مفصَّلة للشعر وعلاقته الشائكة مع العولمة، مع تخصيص مساحةٍ للتقرب أكثر من الشعرية العربية في نسيجها التاريخي، وبعدها الجغرافي كأماكن وأزمنة راهنة سنجدُ إليها الطريق في كلِّ عددٍ من براءات.

في افتتاحيته للعدد الثاني من براءات، في الباب المسمى (طسم)، والتي حملت عنوان: "شعر وعولمة - السّمُّ في قلب الكلمة"، يكتب رئيس تحرير المجلة أحمد عبد الحسين: أكثر من أيّ وقت مضى، يقف العالمُ اليومَ بكاملِ عدّتهِ ضدَّ الشِّعْرِ، ضدَّ كلّ كلام جوهريّ عميق. "ليس للشِّعْر ثمنٌ"، كانتْ هذه الجملة أَنْفَسَ مقتنيات الشِّعْر الدّالّة على غرابته وفرادته، لكنها الآن تكاد تعني أنْ "لا قيمة للشِّعْر" .. ليصل إلى التساؤل التالي: أَلزامٌ على الشِّعْر أن يدفع ثمن وجوده في هذا العصر المعولم؟ أم عليه الأخذ بنصيحة دولوز "إنْ لم تردْ أن تُسلَّعَ، فكُنْ صاعقة، الصاعقة لا تُسلَّع".

في باب (يتبعهم الغاوون)، المخصص للدراسات، يكتب صبحي حديدي عن مدى ما بلغتْهُ الشِّعْرِيَّة العربية المعاصرة في ميدان استغلال أيقونة العولمة الكبرى، أي الشاشة الرَّقْمِيَّة وما تفرزه في سيرورات القراءة من مستويات إدراك وتفاعل وتنشيط حواسّيّ، وكيف لهذه الصلة أن تتّخذ تعبيرات مضامينية، سياسية وإيديولوجية وثقافية، وليست شكلية وطباعية فقط؛ لعلّ في طليعتها استكشاف العلاقة مع الآخر.

أما رائد وحش، الذي رسم لوحة الغلاف ولوحات العدد، فيكتب عن عودتنا إلى الكهف، في محاولة للمقارنة، ومقاربة أمثولة الكهف، بأسئلة من قبيل: هل منطق الإنسان "الأوّل" في رسم الحيوانات، ولاحقاً الرموز، في أعماق الكهوف، هو ذاته منطق الإنسان "الأخير" في وضع الوجوه الملوّنة الصفراء والملصقات على السوشيال ميديا؟

في حين يكتب لونيس بن علي عن الشعر في زمن عولمة الحروب، مستشهداً بأمثلة شعرية عن الفلسطينيّ الذي يُقتل مرَّتين في الوطن المحتل، في الوطن مسلوب الحرية، والمنفى ومناطق اللحوء، وما بينهما من احتمالات الحياة والموت والكتابة. وفي هذا السياق تصير الحروب جزءاً من يوميات الشاعر العربي، وتُصدِّر للعالم شعراء، طحنتْهم الأنظمة الاستبدادية، فليس أمامهم إلاّ الاختيار بين طاعون الاستبداد وكوليرا الحروب بالوكالة.

المصطفى صباني يترجم لنا في العدد الثاني من براءات، مقالةً مطولة لـ باتريك شامْوازو الذي يؤكد: إن الكاتب هو شخص يسير بشكل متفرّد صوب ما يتعذّر بلوغه، أي نحو ذلك الذي يُسمّى بـ "الأدب". وفي ظلّ هذا الاقتراح، يمكن أن نفترض بأن الشاعر يقتفي آثاراً، يتبصّر فيها المخفي الذي يقوده نحو الشِّعْر، وأن الرّوائيّ يبتكر لنفسه أثراً يقوده نحو تشكيل فكرة عن الرواية. إن الذي يُسهِم في خَلْق عمل فنِّيٍّ، هو هذا المسار الذي لن يبلغ أبداً هدفه.

عن كتاب "شاعر في نيويورك" يكتب عبده وازن: مستعيداً ما كان يردده لوركا عن تجربة نيويورك التي اعتبرها من"’أكثر التجارب فائدة" في حياته. ليتساءل وازن: ترى ما سرّ هذه العلاقة بين شاعر أندلسي غريب ومدينة حديثة وقاسية؟ ما سرّ هذه العلاقة السّلبيّة التي جمعت بينهما؟ ما سرّ هذا الحُبّ الذي هو الوجه الآخر للكراهية وهذا الإعجاب الذي هو الوجه الآخر للرفض؟

ليترجم أمارجي عن الإيطالية مادَّة هامّة لـ ماريَّا غراتسيا كالانْدرونِهْ، وهي تبحث في أرضٍ عصية، لتقول: إنَّ على الشُّعراء الذين يرغبون في النُّهوض بدورٍ اجتماعيٍّ بسيطٍ، وفي تقديم مساهمتهم الخاصَّة في بناء مجتمعٍ مطمئنٍّ وصالحٍ للعيش فيه، أن يصقلوا شِعْرَهم إلى درجة الوضوح التَّامِّ، لكي يخاطبوا أكبر عددٍ ممكنٍ من النَّاس، ولكنْ، من دون انحطاطٍ في الجودة الشِّعْرِيَّة. إنَّها سلسلةُ تلالٍ زلقةٍ للغاية.

يظل باب (يتبعهم الغاوون) مفتوحاً لنعود مرَّة أخرى إلى لغة موليير، التي يترجم عنها سعيد بن الهاني مقالة بحثية لـ بول لويس بوير حول الشعر الفرنسي والعولمة يستهلها بـ: الشِّعْر وبالأحرى الكتابة الشِّعْرِيَّة هي واحدة من السُّبُل المؤدّية للرّوحانيّة. ومن ثمّ، فإنّها يجب وعليها أن تكون، متاحة للجميع. ليتساءل: كيف يمكن، إذنْ، أن نفسّر الغموض السِّحْرِيّ والنّزعة الصّوفيّة وهذه الأبحاث كلها عن أشكال جديدة في عدد كبير من الكتابات الشِّعْرِيَّة المعاصرة؟

ويغلق هذا الباب من المجلة، محمد ناصر الدين بمقالةٍ يترك فيها أبواباً أخرى مواربة للتساؤل عن واقعٍ مؤلم حيثُ: تتمّ هندسة العالم اليوم أو "عولمته" كي لا يُسمَع الشِّعْر، وليتمّ تحويله إلى حيادية لطيفة، ولكنْ، جبانة، أو إلى تشويش لا يضرّ ولا ينفع، أو إلى هامشية، لا يمكنها أن تُنقذ الحياة من قبحها، في زمن يبدو فيه الشِّعْر حتّى في الأوساط الأدبية أشبه بالولد الدميم الذي ينبغي إخفاؤه في الغرفة الخلفية.

وفي الوقت الذي غاب فيه باب (يأفكون) وهو الباب المعني بعمل الريبورتاجات الصحفية حول موضوع العدد، أفردت المجلة في باب (يهيمون) المخصص عادةً لنشر النصوص الشعرية العربية؛ مساحةً لملف الكتابة الجديدة في السودان، حيث يفتتح حسام هلالي الملف الذي أعدَّه في هذا الباب، بالاعتراف أن العمل على جمع أنطولوجيا أو ملف لشعراء يضمهم وعاء ثقافي أو جغرافي معين هو مهمة محفوفة بالكثير من التحديات والمخاطر. ليواصل: وعلى ما نحمله فوق هواجسنا من واجب الانتصار على الألم بالكلمة، أو حتى مجرد الاعتراف بالهزيمة أمامه - بها أيضاً - ينفرد هنا "نفّاج" من الضوء يحفر في الأسوار المحيطة براهن الإنسان السوداني.

كما سنقرأ في ذات الملف مادة توثيقية لـ محفوظ بشرى، يضعنا من خلالها في قلب راهن الكتابة الجديدة في السودان، حين يقول: إنني أتحدّث هنا عن شعراء، تتراوح أعمارهم اليوم بين الثلاثين والأربعين في أغلبهم، هم كثيرون حقَّاً، ويصعب إحصاؤهم، يتباينون تباين مذاقات الماء، لكنني أحاول اقتفاء التّيّار الرئيس، الأوّل، الذي فتح المجرى على اتّساعه سريعاً، فَسَرَت وتسري فيه الكتابة المَعنيّة حتّى اليوم.

إلى الباب الذي تُسلِّط فيه المجلة الضوء على تجارب شعراء غير عرب يتم اختيارهم حسب ارتباط نصوصهم بملف العدد، وهو باب (في كل واد) ويكتب فيه لهذا العدد أنطوان جوكي مادة عن مينا لوي وتأثيرها الشعري في عدد كبير من شعراء عصرها الرواد: وهي التي حافظت طوال حياتها على تلك الوضعية التي يتلازم فيها الشِّعْر والكينونة، ويتطابقان، وكتبت قصائد عثرت عبقرية اللغة فيها، منذ البداية، على صوتها، وتمكّنت بالنظرة الباردة والساخرة التي ألقتْها على عالمنا من تفجير قناعاتنا السّطحيّة، وتمزيق أوهامنا، ومواجهتنا بأعمق مخاوفنا، قبل أن تختار العزلة خلال العقود الثلاثة الأخيرة من حياتها.

كما تكتب وفاء شعراني عن التجربة الشعرية للشاعر الراحل مؤخراً غسان علم الدين، لتؤكد أنَّ: مَوْضَعَة الصورة الشِّعْرِيَّة في كونها صدىً للواقع أو تجلّياً للمطلق يحدُّ من قدراتها الخفية وسِحْرِها على التّجدّد داخل حقيقة ما؛ فالجوهري في حداثة غسان عَلَم الدِّيْن؛ هو الغرابة السِّحْرِيَّة أو سِحْر الغرابة في مواجهة القلق والتَّوَهَان؛ والضغط على موقع الإنسان في نظام علاقته بالزمن والتاريخ.

من الأبواب التي تفتحها مناهل السهوي في دمشق، لهذا العدد، باب (لغو) الخاص بجلسات السمر التي تنظمها المجلة لمجموعة من الشعراء ليناقشوا ملف العدد، وقد جمعت جلسة براءات هذه المرة خمسة شعراء وشاعرات، حول موضوع "الشعر والعولمة". ليبدو اللقاء شبيهاً بجلسةِ اعترافاتٍ من جهة واحتجاجٍ من جهة أخرى، ولتتساءل مع مناهل: احتجاجٍ على ماذا؟ يمكننا أن نحتجّ على الحياة ذاتها، ويمكننا أيضاً الاعتراض على انقطاع الوقود! جمعت الكؤوس الممتلئة أحياناً والفارغة أحياناً أخرى الكثير من الجدالات والكثير من النقاط التي بدت بديهية للجميع، مؤمنين في براءات أن الحديث الحُرّ والعفوي الذي لا تسبقه الأسئلة أو زمنٌ للتفكير ولصياغة العبارات في أفضل صورها، هي طريقٌ آخر لفَهْم الشِّعْر وصانعيه.

عددٌ يحتاج لكي يكتمل إلى باب أخير يسمى (ختم) كي نقتفي مع عيسى مخلوف أثر القصيدة، ومنها نتكشف أن بعض المجالات الإبداعية التي كانت أساسيّة في الثقافة الإنسانيّة عبر العصور، وفي مقدّمها الشِّعْر والفلسفة، قد أصبحت في موقع الهامش، لأنّها غير قابلة للتسليع، ولا يمكن إخضاعها لمنطق العرض والطلب. يقول الشاعر بول كلوديل: "بعطرها لا بأشواكها تدافع الوردة عن نفسها"، لكنْ، هل باستطاعة الوردة فعلاً أن تدافع عن نفسها، وأن تشي بعطرها، بل أن تتفتّح، والغيوم السود تحجب عنها أشعّة الشمس؟

إصدار: صيف 2019
عدد الصفحات: 216
القطع الكبير


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى