الثلاثاء ١٥ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم سعيد المغربي

بعد رحيل الجابري


مع رحيل الدكتور محمد عابد الجابري يعيش الفكر العربي والمثقون المغاربة والعرب لحظة حزن عميق على رجل، لا ينكر مساهمته العلمية و المنهجية في مساءلة و إغناء النقاش حول أزمة الوعي العربي مع تاريخه المشرق و واقعه المتردي و المحزن إلا جاحد. لقد ساهم الرجل بعصاميتة النادرة في خلخلة التراث مما إكتنفه من هيمنة للمألوفات التقليدية و المطلقات الإيديلوجية. وعليه فإن عمله الفلسفي و التربوي و التعليمي هو ما يجعلنا نقر بأن الدكتور محمد عابد الجابري إن ضمنا أو صراحة بأنه أبو الفلسفة الحديثة في المغرب.

 
إنه الأستاذ الأنف و المقدام، لايملي دروسه و لايستعمل الورقة في إلقاء دروسه. فكل الرسم المتصل بمقرره السنوي معد سلفا في ذاكرته القوية جدا. كما كانت للرجل حساسية جد مفرطة اتجاه الأخطاء النحوية لاسيما عندما يقرأ طالب ما نصا تراثيا. كما أن إنهمامه بمشكلات الفكر و الثقافة تجعله لاينتبه إلى طلبته إلا بالنسبة لمن وخزه بأحد الأسئلة المدروسة جيدا. و لعلي أتذكر أحد الطرائف مع الرجل الفريد في أخلاق العالية و ردود النقدية الحادة: أنه بعيد ممارسة حكومة التناوب الذي إختاره الملك الحسن الثاني رحمه الله نظمت كلية الأداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط ندوة حول الإنتقال الديمقراطي بدلالة الكثلة الوطنية الديمقراطية. فسألته بعد إنتهائه من المحاضرة: معلوم أستاذي الجليل أن الديمقراطية مفهوم يوناني، و قد تطور في الغرب الحديث. و أما الديمقراطية في العالم العربي فإنها تفتقر إلى البنيات الإجتماعية و الإقتصادية الحديثة فما رأيك في البنيات الإجتماعية التقليدية إذا ماكانت تسمح بتبييئ هذا المفهوم؟ 
و في معرض أجوبته عن الأسئلة قال لي إن مسألة الديمقراطية لاتختلف قيد أنملة عن الفرق بين الفرن التقليدي أو البولانجي العصري. لم أدرك الجواب جيدا في البداية ومع السنين تبين لي أنه يقصد بالديمقراطية المنطق المناهض للثورة الشعبوية , وبالتالي ليست الديمقراطية غير الوسيلة العقلانية للنضال اليومي من أجل شظف العيش في إطار دولة مؤسساتية لحفظ النوع البشري، سواء كان لها تاريخ طويل في الديمقراطية أو حديثة العهد بالإستقلال السياسي.
لقد كان الدكتور محمد عابد الجابري عظيما في دروسه وواضحا في مشروعه الفكري و الإيديلوجي. و قد كان الرجل يشكو من غياب قراءات نقدية و علمية لإغناء ما تم إنجازه بمحاورته أو الإشتغال على مفاهيمه أو مشروعه المتنوع.
و و الله لإنها فاجعة عظمى أن يرزء المغاربة في أحد التحف الفلسفية و الثقافية الكبرى في المغرب و العالم العربي. إنه الرجل الشجاع و المقدام الذي أعاد للمغرب ثقته في عصر الأندلس البديع روحيا و سياسيا. كما أعاد للمغرب هيبته الفلسفية و إستقلاله الفكري و الإيديلوجي عن المشرق. السؤال المحير هو هل يوجد بديل أو جيل جديد يحمل مشعل النقد و الفكر العصري في جدليته مع التراث العربي الإسلامي؟ لقد حقق الرجل حلم أو طموح مأسسة تدريس الفلسفة بالمغرب بالرغم من جيوب المقاومة المحافظة التي كانت تدرس أبناءها في الخارج و تدفع أبناء الشعب المغربي الأبي إلى مدارس التعليم التقليدي، الذي لا يستجيب إلى متطلبات المواطن و المواطنة الحديثة. كما ساهم الرجل في إغناء النقاش العمومي حول الفكر المغربي تاريخه و هويته و علاقته بالماضي و الحاضر المتجه نحو المستقبل، و لهذا أفتخر بأني كنت أحد طلبته في جامعة محمد الخامس بالرباط نهاية التسعينات من القرن الماضي. وكل ما أتذكره أن رسم لوحة رائعة عن خصوصية الفكر الفلسفي بالغرب الإسلامي، أي أنه رسم خريطة هوية مغربية تتصالح مع أثار الماضي المشرق لا سيما الفلسفة العقلانية الرشدية و إكراهات العقلانية الديكارتية الحديقة التي تجاوزها النقد الكانطي في رسم معالم الغرب المستعمر و المناقض لقيمه الحداثية الأولى. كما حرر الجابري بعصاميته الوعي المغربي و العربي من ربقة وثوقية المشاريع الإيديلوجية المشرقية مدافعا عن الحق المغربي الناشيء في التنظير الفلسفي و السياسي. إنه زمن الفلسفة المغربية وهي تناضل على جبهتين:
فهم مستجدات المعرفة العلمية و إستيعاب تطورية النظريات الفلسفية و التاريخية ومن جهة أخرى نقد التصورات و المفاهيم العربية التي ظهرت في المشرق العربي سواء في زمن الفكر النهضوي مع الأفغاني ومحمد عبد أو الفكر القومي العربي الثوري: إلياس مرقص أو البيطار أو ميشيل عفلق.

لقد كان الرجل مثل الفارس الشجاع الذي أوقف همهمات فرسان الشرق الأوائل بالكتابة العلمية الرصينة و الرؤية الإيديلوجية الواضحة المعالم. مفكر و أستاذ مناضل و قد سماه الدكتور محمد المصياحي في أحد الخلقات رجل المدينة العربية و قد جاب كل خيام ومنارات و معالم الفكرالعربي و الإسلامي: في الفقه، علم الكلام، الفلسفة الإسلامية و العلم العربيين. كما يمكن أن نضيف أنه إتجه إلى الإبستمولجيا النقدية مستلهما درس كانط في نقد العقل الخالص. فجاءت ثلاثيته في الفكر العربي الإسلامي متناغمة مع النقدية الكانطية: نقد العقل العربي، بنية العقل العربي , تكوين العقل العربي. و في الأخير تشكل أعمال الجابري أمانة في عنق الأساتذة و الزملاء لطرح السؤال حول راهن مستقبل الفلسفة بالمغرب. فما أحوجنا إلى مفكرين كبار و علماء و مثقفين تغتني بهم الأمة المغربية و هي تواجه تعنات الأعداء و كيدهم المنهجي ضد وحدتنا الترابية. أليس من حق الأجيال الصاعدة أن يكون لها مستقبل فكري و ثقافي يدخلها العالمية من بابها الواسع؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى