الأحد ٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٣
بقلم موسى إسماعيل الفقي

بكائيات مستباحة

 في الصباح أيقظ أولاده الخمسة، فركوا عيونهم، صلوا الصبح، أعدت الزوجة والبنت الطعامَ وموقدَ الحطب، في لباسهم الأبيض الناصع من صنع جدهم - التفوا حـول «الطبلية».. أكلوا. قذفوا بفضلاتهم من النافذة إلى الشارع. ماءت القطط.. عوت الكلاب.. وعلا صراخ أطفال.. هبت عاصفة غربية.. شربوا الشاي.... ضحكوا،.. رفع يديه إلى السماء. رفع الأولاد أيديهم، تمتم بهمهمات غير مفهومة.. وقال : آمين.. ردد الأولاد وراءه: آمين.. وانصرفوا لمزرعة التين والتفاح العتيقة..... وإلى جدار جده السابع يسند الأب ظهره راضياً مطمئناً، ويتكئ بكوعه على خزانة كتبٍ للجد الكبير ويغفو، بينما تمثال القرية وسط الساحة الكبيرة - وفوق قاعدته الرخامية الناعمة الصلبة اللامعة – يقف هادئاً جميلاً في وفرته البدنية، وعلى شفتيه ابتسامة جامدة..

.. عاد الأولاد، في الظهيرة اجتمعوا حول « الطبلية » أكلوا وألقوا بما تبقى.. والشارع يطأطأ رأسه ويجثو على ركبتيه.. ماءت القطط وعوت الكلاب وعلا الصراخ.. رفع يديه فرفعوا أيديهم، وتمتم : آمين - وحدق فيهم، فقالوا : آمين..وبدا لهم أن سقف الحجرة يردد : آمين.. تفرقوا للتين والتفاح.. وكان أصغرهم يفكر.. سأل أخاه الأكبر : ماذا يقول أبونا حين يتمتم،.. قال الأكبر: لا أعرف.. لا أحب أن أعرف

في المساء اجتمع الأب وأولاده. في لباسهم الأبيض الناصع.. أكلوا وألقوا. تسامروا، ورددوا : آمين.. وسقف الحجرة ردد معهم: آمين..

 وناموا على فرش من حرير، بيضاءَ ناصعةٍ كالثلج... ونام الحارس!

 أقبل الليل وهامت أشباحه... تفرك أعينها كائنات ليلية، وغمغماتٌ من الحفيف والهسيس والطنين والأزيز... وفي الحجرة دقات الساعة تتجول في أرحام الظلمة.. وهناك عوت كلاب وماءت قطط وزحفت ديدان وحيات وضفادع.. ماتت يرقات وحامت فراشات، وتجولت فئران.. والشارع يطأطأ ويجثو، فيسد الأبواب والنوافذ، ويملأ العيونَ والرئاتِ صمتٌ وقيح...

يتقدم الأب في السن.. يمرض الأب ولا يجيء الطبيب، يموت الأب... تتقدم الأم في السن.. تمرض الأم ولا يجيء الطبيب، وتموت الأم. من يحمي اليتامى؟، من يحمي تفاحة البنت من ذئبٍ؟؟، وتموء القطط.. وتعوي الكلاب..

 وعلا الصراخ وهبت عواصف.. فأغلقوا النوافذ.

في الصباح، جاء عمال البلدية، صعدوا على قاعدة التمثال، مسحوا التراب وأثر الدخان والعويل عن رأسه ووجهه السمين وبدلته الأنيقة، لكنهم تجاهلوا تلال القمامة والحيوانات والطيور النافقة حول قاعدته الرخامية الصلبة الناعمة اللامعة، وتجاهلوا أسراب الذباب والخفافيش التي عششت في قفاه، لكن ذلك لم يؤثر على ابتسامته وشموخه..

في المساء جلس اليتامى.. رفع أكبرهم يديه ولم يجد ما يقول سوى : آمين.. فرددوا: آمين.. فقال أصغرهم: علام نقول آمين؟.. سكت الأخ الأكبر.. فماءت القطط.. قالوا آمين.. عوت كلاب وذئابٌ.. آمين.. نعق ناعق : آمين.. تتلوث تفاحة البنت وتبكي غيمة ٌ دماً.. ولم يصحوا الجنود... ودقات الساعة كانت تئن في الحجرة، وكائنات ليلية عوت وماءت وأرغت وأزبدت: آمين...

 هبت عواصف شرقية وغربية، فألقت فوقهم نفايات وأوساخاً وأتربة وحشرات، وأوراقاً بيضاء وحمراء وصفراء.... أمطرت السماء وأرعد الجو فأغلقوا النوافذ، اشتدت الريح من كل حدب وصوب... يتكسر الورد وأشجار التفاح والتين، يغيب الحارس ولم يأت الجنود. تتحطم النوافذ.. يتصدع البنيان.... يتطاير المتاع الأبيض واللباس الأبيض.. الصحائف والدفاتر.. والعصافير تذبح بين الصدور... تغيب الأشياء في غياهب الغبار والدخان والصراخ والعويل، يغمر الماءُ والطين الشوارعَ والبيوت... يحتمي اليتامى بجدار الجد الثامن.. يتهاوى الجدار تحت شدة الرعد والبرق فيرفعون أيديهم من بين الأنقاض مرددين آمين.. تخبو نار الموقد... تتكسر الخزانة وتتبعثر كتب الجد الثامن والتاسع والخمسين..... تتناثر أوراقها العصية بفعل الرياح ولكنها الوحيدة التي لم تقل: آمين..

** بعد خراب القرية كان التمثال الكبير يقف شامخاً بالساحة الكبيرة ينظر من أعلى – مبتسماً - على ما تبقى من عويل وأنقاض حول قاعدته الرخامية الصلبة الناعمة اللامعة.. ومنذ ذلك الحين، والبشر والحجر والشجر وكل شيء يتمتم :آمين.. آمين..


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى