الجمعة ٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بعد حادثة الاغتصاب الجماعي أمام دار للسينما
بقلم أحمد الخميسي

بلاغ ضد الشعب

ما الذي فعلوه بالمصريين لينحط بعضهم إلي هذا الدرك ؟ .

دق جرس التليفون أكثر من مرة ، مكالمة إثر أخرى ، كلها من أصدقاء يحدثونني عن وقائع تحرش جنسي ، جماعية وعلنية ، وفظة ، بنساء وفتيات في وسط القاهرة ، أمام سينما مترو ، و سينما ميامي ، وفي شارع عدلي . مجموعات ضخمة متكاتفة متحركة من الشبان انقضت مثل أسراب النحل على فتيات ، ومزقت ملابسهن ، ومدت إليهن عشرات الأيادي في حفل تحرش جماعي تتحسس كل ما يمكن في أجسامهن علنا في شوارع مذهولة وخائفة وصامتة غابت عنها الشرطة . في ختام إحدى المكالمات سألني صديقي بقلق مفهوم : " كيف يمكن لابنتي أن تسير آمنة بعد ذلك ؟ " ، وفكرت على الفور في ابنتي أنا أيضا ، ثم انتقلت إلي التفكير في بناتنا جميعا . والحق أننا منذ زمن طويل لم نسمع عن واقعة كتلك ، منذ حادثة اغتصاب فتاة العتبة عام 1992 ، ثم حادثة فتاة ميدان التحرير ، لكن الفاعل في هاتين المرتين كان شخصا واحدا ، وليس مجموعة تتحرك بوعي ومشاعر مشتركة . وقد أثارت قناة دريم القضية في برنامجها " العاشرة مساء " واتصلت بوزارة الداخلية التي أكدت أنها لم تتلق بلاغا واحدا عن ذلك التحرش الفظ ، وإن كان شهود العيان في وسط البلد قد أكدوا جميعا وقوع التحرش الجماعي الذي بلغ حد تحطيم شباك تذاكر إحدى دور العرض ، وهجوم نحو ألف شاب على واجهة محل ركضت إليه إحدى الفتيات واحتمت به . والسؤال الأسهل هنا هو : أين كانت الشرطة التي تظهر عرباتها ورجالها بالآلاف في مناسبات أخرى أمام نقابة الصحفيين والمحامين وغيرها ؟ أما السؤال الصعب فهو : كيف أصبح ذلك ممكنا ؟ أو على حد التعبير الشهير للدكتور جلال أمين : ما الذي حدث للمصريين ؟ وبعبارة أخرى : ما الذي فعلوه بالمصريين لينحط بعضهم إلي هذا الدرك ؟ .

في 28 أكتوبر الحالي نشرت جريدة الجمهورية عن تقرير لمنظمة الأغذية العالمية أن عشرين بالمئة من المصريين ( أي 14 مليون مواطن ) يقل دخل الفرد منهم يوميا عن دولار واحد . علاوة على 12 مليون عاطل . وفي ظل ذلك الفقر والبطالة ليس مستغربا أن تشير إحصائية للمجلس القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية في مصر إلي أن حالات الاغتصاب تبلغ أكثر من عشرين ألف حالة سنوياً ، أي أن هناك حالتين اغتصاب يوميا في مصر. وليس مستغربا ألا يميز التحرش الجنسي الجماعي وسط البلد بين محجبات وسافرات في إشارة واضحة إلي أن أزمة المجتمع ليس فيما ترتديه المرأة أو تخلعه . والمرأة المصرية التي تتعرض للضرب والتعرية – مرة على يد الحكومة كما حدث مع زميلة صحفية في مظاهرات 25 مايو 2005 – ومرة على يد الشعب كما حدث مؤخرا ، هي ذاتها المرأة التي تشير منظمة العفو الدولية إلي وضعها بقولها إن خمسة خمسة وثلاثين بالمئة من نساء مصر يتعرضن للضرب من قبل أزواجهن ، وأن أكثر من 69 % من الزوجات المصريات يتعرضن للضرب في حال رفضهن معاشرة الزوج . هذا على الرغم من أن نسبة النساء اللاتي يعلن أسرا في مصر تصل إلي 22 % !

والمؤكد أن كل ثقافات العالم تتضمن أشكالا مستترة و مختلفة من احتقار المرأة ، واعتبار أن المساس بكرامتها بشتى الطرق أمر لا يستحق التوقف عنده . وإهانة المرأة ظاهرة عامة في كل البلدان العربية ، بل وفي العالم أجمع . وتشير تقارير الأمم المتحدة غلي أن امرأة تتعرض للضرب كل ربع دقيقة في أمريكا ، هناك حيث تقع سبعمائة ألف حالة اغتصاب سنويا .

وبالرغم من شيوع ذلك الانحطاط الفكري وراء أقنعة عدة ، إلا أن حالات التحرش الجنسي الجماعي تستحق وقفة خاصة ، لندرتها ، ولصلتها بمفهوم العقل الجماعي وثقافته دوافعه والظروف التي يتكون فيها وتأثير مبدأ الاغتصاب الاقتصادي والسياسي والفردي والجماعي في ذلك العقل . وحادثة التحرش الجماعي الأخيرة تعني أن على المرأة التي كانت تخشى الحكومة داخل أقسام الشرطة وفي المظاهرات ، أن تخاف الآن من الشعب أملها الوحيد في الترقي والتطور ، وأن تقدم بلاغها ضد ذلك الشعب . ما الذي حدث للمصريين ؟ أو ما الذي فعلوه بالمصريين ؟ . لا شىء سوى أن وعي الناس أخذ يتجه للفتك بنفسه ، وبنسائه ، وبقيمه . وهي إشارة إلي أن الشعب يعيش بلبلة فكرية عميقة ، جعلته لا يرى خصما لنفسه سوى نفسه ، ولا يجد موضعا لتوجيه الضربة غير قلبه .

ما الذي فعلوه بالمصريين لينحط بعضهم إلي هذا الدرك ؟ .

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى