الاثنين ٣ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم سليمان عبدالعظيم

بنية التواطؤ

يفرض المجتمع أنماطا معينة للعلاقات القائمة بين أفراده، ويشيع بينهم أساليب معينة للتواصل والمعاملات اليومية. وبقدر ما تسير الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بدرجة كبيرة من التقدم والتماسك البنيوي بقدر ما يتكامل معها الأفراد ويمارسون حياتهم وفقا للقوانين والأعراف المحددة سلفا. أما في حالة انتشار التخلف والتدهور التنموي فإن الأفراد يخلقون قواعدهم الخاصة بهم والتي توازي أو تتحايل على القوانين والأعراف الاجتماعية. وحتى يستطيع الأفراد القيام بمثل هذه السلوكيات المختلفة فإنهم يخلقون البنيات الجديدة الخاصة بهم والتي تساعدهم على مواجهة واقعهم المتدهور اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا. ومن بين هذه البنيات البالغة التأثير التي ينشئها الأفراد فيما بينهم بنية التواطؤ.

ورغم أن التواطؤ كلمة أقرب لحقل الممارسات السياسية فإنها تشتمل على أبعاد اجتماعية بالغة الخطورة تؤدي إلى المزيد من التدهور والانهيارات المجتمعية المتوقعة. كما أن بنية التواطؤ متنوعة تبدأ بالفرد الذي يتواطأ مع ذاته، مرورا بالوحدات الاجتماعية الصغرى مثل المدرسة والنادي، لتصل إلى الوحدات الكبرى مثل الأحزاب السياسية وأجهزة الدولة ومؤسساتها المختلفة. ويعني ذلك أن بنية التواطؤ حينما تشيع وتنتشر تشمل كافة أرجاء المجتمع، لتصبح هي المعيار الرئيس الذي يؤسس عليه الأفراد علاقاتهم وسلوكياتهم المختلفة.

والتواطؤ يعني الاشتراك في أية ممارسات أو سلوكيات أو أنشطة تنطوي على أضرار مجتمعية عديدة مع العلم المسبق بذلك والتظاهر بعكس ذلك. وهي بنية لا تعتمد على فرد بعينه لكنها في معظم الأحوال تعتمد على العديد من الأفراد المشاركين في شبكة التواطؤ. ويعني ذلك أن بنية التواطؤ تعتمد على المصالح الخاصة جدا، بغض النظر عما يصيب المؤسسة ككل من أضرار. كما أن بنية التواطؤ لا تصب مباشرة في جوانب سلبية مجتمعية، لكنها في بعض الأحيان تبدأ بجوانب إيجابية على المستوى النظري لكنها في الأغلب الأعم تنتهي بكوارث بالغة.

وربما توضح ظاهرة الجودة والاعتماد في التعليم العربي المعاصر ما نعنيه ببنية التواطؤ وكيفية تشكلها وتجذرها في الواقع الاجتماعي العربي المعاصر. فما يحدث الآن هو شكل واضح وجلي من أشكال التواطؤ، يمارسه كافة المشتركين في برامج وندوات ودورات الجودة والاعتماد التي أصبحت أقرب للموضة في كافة الجامعات العربية الآن. لقد ابتدأت هذه الموضة برغبة براقة تهدف إلى تطوير التعليم، وبشكل خاص التعليم الجامعي. وأنشأت العديد من اللجان، وتم تعيين العديد من الأساتذة المحترمين وغير المحترمين لعمليات التطوير التعليمية الجامعية. كل ذلك تم على وجه السرعة، حتى بدون القيام بعملية رصد مسبقة لواقع التعليم العربي، وحصر الإمكانيات الخاصة به. ورغم عدم قناعة الكثيرين من المشاركين في عمليات الجودة والاعتماد المختلفة إلا أنهم اشتركوا وترأسوا وبادروا وأطلقوا... الخ من الممارسات المختلفة التي قاموا بها. وهي عملية تؤسس لوضعية تواطؤ يشارك الكل فيها وهو يعلم تمام العلم أن الواقع التعليمي العربي بالغ التدهور من ناحية، وأن الإمكانيات الحالية للكثير من الجامعات العربية لا ترقي لأي تقييم أو جودة أو اعتماد.

ولا تقف بنية التواطؤ عند مجرد الاشتراك أو الممارسة لكنها تتعدي ذلك إلى الاقتناع الكامل بما نقوم به والإيمان المسبق به. هنا تنتقل بنية التواطؤ من مستوياتها الاجتماعية الواسعة إلى مستوياتها الفردية الضيقة والمؤثرة في الوقت نفسه، وهى مسألة تتفق مع تنشئة الأفراد مجتمعيا وتربيتهم النفسية والاجتماعية. فما يحدث أن الأفراد يشتركون فيما بينهم في ممارسات مختلفة تتعارض مع الواقع الاجتماعي المعيش، لكنهم لابد وأن يستندوا إلى غطاء نفسي واجتماعي قوي يمكنهم من مواصلة تواطئهم وممارساتهم التي قد لا يقتنع بها الكثير منهم. هنا يصل الفرد لمستوى التواطؤ مع ذاته حيث يقوم بإقناع نفسه بجدوى ما يقوم به ويشارك فيه. وتستند بنية التواطؤ إلى تفاعل حادث ومستمر بين التواطؤ مع الجماعة والتواطؤ مع الذات الفردية، فكل منهما يغذي الآخر ويساعده على الاستمرارية والتواصل والتكريس.

ومن اللافت للنظر هنا أن بنية التواطؤ تكتسب الكثير من المساحات في العالم العربي كل يوم، كما أنها لا ترتبط بمجال دون آخر. فعلى المستوي السياسي نجد الكثير من التواطؤ عبر الممارسات السياسية سواء الرسمية أو الحزبية، وعلى المستوى الاقتصادي حالة بالغة من التواطؤ بين ما تقوله الحكومة وبين ما يراه المواطن، في تمثيلية عبثية متواصلة ومتراكمة يقبلها الطرفان ويمارسونها كل يوم. وإذا كان التواطؤ يتميز بالوضوح في ممارساته السياسية والاقتصادية فإنه يتسم بالخفاء عند المستوى الاجتماعي. ورغم خطورة الممارسات السياسية والاقتصادية المؤسسة على التواطؤ بين الأطراف المشاركين، فإن التواطؤ على المستوي الاجتماعي يصبح أكثر خطورة لأنه يستحيل إلى نمط حياة يومي يقبله كافة الأفراد ويمارسونه ليل نهار. هنا يتواطأ المدرس مع تلميذه، والمستهلك مع البائع، والزوج مع أسرته في شبكة ممتدة وغير منتهية. ورغم أن التواطؤ يرتبط غالبا بطرفين أحدهما أضعف من الآخر إلا أن بنية التواطؤ تشمل أيضا أفراد على نفس مصفوفة القوة والمستوى الاجتماعي الواحد.

تعاني المجتمعات والمؤسسات العربية التي ينتشر فيها التواطؤ من نسب فساد عالية على كافة المستويات المختلفة. فالتواطؤ ضد المواجهة والمصارحة والشفافية، إنه مع الإخفاء والكذب والالتفاف، وهي صفات تقود لا محالة إلى شيوع الفساد والقبول به أو التواطؤ معه. من الضروري العمل على مواجهة بنية التواطؤ هذه من خلال المصارحة والمواجهة، وهو أمر يقود مرة أخرى إلى أهمية الديمقراطية وحرية التعبير السياسي التي تكشف عن المتواطئين وتدك بناهم الحصينة. وإلى أن تحدث الديمقراطية الحقيقية في عالمنا العربي سوف نعايش ونمارس بنيات التواطؤ بتأثيراتها السلبية المختلفة سواء على المستوى الفردي أو المستوى الاجتماعي. اللهم قنا شر التواطؤ وارحمنا من المتواطئين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى