الجمعة ١٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم محمد عزام

تأصيل المناهج النقدية (السيميائية نموذجاً)

لعل الدعوة إلى التأصيل يمكن أن تسير في اتجاهين: نظري يستعيد التراث ليبحث فيه عن سمات هذه المناهج، وتطبيقي يبين هذه المناهج لتلائم واقعنا الأدبي وهويتنا الخاصة. وانطلاقاً من هذه الدعوة الكريمة فإنني سأبحث في هذه المقالة عن السمات النقدية للمناهج الجديدة في تراثنا النقدي، مقتصراً على (المنهج السيميائي) -الآن- ومضيفاً الاتجاه الثاني في التأصيل وهو المقاربات النقدية العربية التي تصدت لتطبيق هذا المنهج السيميائي على النصوص الأدبية العربية.

1- السمات السيميائية في تراثنا النقدي:

خلافاً لعقدة النصّ العربي تجاه الغربي أو شعوره بالدونية، وانطلاقاً من أن الحضارة الغربية ليست حضارة الغربي وحده وإنما هي حضارة (عالمية) أسهمت في صنعها كل الأمم والشعوب بالإضافة إلى أن مفهوم (الغرب) نفسه قد تغيّر فأصبح يعني الدول المتقدمة حضارياً، وهي دول الشمال والغرب وحتى الشرق (اليابان)، ومن هنا فإن الحضارة أصبحت عالمية، ولم تعد قاصرة على بلاد دون أخرى: فثورة الاتصالات جعلت العالم قرية كبيرة تصل فيها الأخبار والأحداث والمعلومات من أكبر دولة إلى أصغر قرية منسية.

من هذه المقدمة التي تحاول اكتناه التراث على ضوء مستجدات العصر يمكن القول إن الألسنية العربية من أول العلوم التي أنضجتها الحضارة العربية، واستفادت منها الألسنية الغربية في ثورتها المعاصرة، حتى إن شومسكي، الألسني الأمريكي، قال -على ذمة الألسني العربي مازن الوعر-: بأنه اطلع على الألسنية العربية، واستفاد منها في نظرياته الألسنية. وبما أن (السيمياء) هي أحد فروع الألسنية على حد قول رولان بارت، أو هي أصل الألسنية على حد قول دي سوسير، فإننا سنحاول وضع تعريف موجز لها:

1-تعريف السيمياء:
إن مصطلح (السيمانتيك) مشتق من الأصل اليوناني (سيميو) الذي يعني العلامة ويرجع مصطلح (السيميولوجيا) إلى الألسني السويسري دي سوسير (1857-1913) الذي كان أول من استعمل كلمة (سيمياء) لأول مرة في فرنسا. أما مصطلح (السيميوطيقا) فيرجع إلى الفيلسوف البراغماتي الأمريكي شارل ساندرز بيرس (1839-1914) الذي استعار المصطلح من التسمية التي أطلقها جون لوك على علم خاص بالعلامات ينبثق عن المنطق. وقد كان الاثنان: سوسير، وبيرس، أول مَن أسس لهذا العلم في الألسنية الغربية.

وأما في اللغة العربية فإن مصطلح (السيمياء) مصطلح عربي قديم، يقابل العلامات وقد فسّر الراغب الأصفهان (502هـ) الآية الكريمة وَمِنْه شَجر فِيه تَسيمون بأن السيمياء هي العلامة. وهكذا يمكن القول إن (السيمياء) هي علم يبحث في اللغات والإشارات والتعليمات، وأن تعريفها في العربية هو نفس تعريفها في اللغات الأوروبية، باعتبارها مأخوذة من (السمة) و(الوسم) والسيمياء وكلها يعني العلامة والدلالة.

2-جهود اللغويين في البحث الدلالي (السيميائي):
قد لا يكون مصطلح (السيمياء) كثير الاستعمال في الدراسات الألسنية والنقدية، ولكن مرادفه (الدلالة) هو الشائع ولهذا فإن للغويين العرب القدامى جهوداً دلالية (سيميائية) واضحة: فالأعمال اللغوية المبكرة عندهم تُعدّ من مباحث (علم الدلالة)، من مثل تسجيل (معاني الغريب) في القرآن، و(مجاز) القرآن. وقد ذكر ابن خلدون مصطلح الدلالة صراحة فقال: "يتعين النظر في دلالة الألفاظ..."(المقدمة-ط دار الشعب ص419)، وقال الشريف الجرجاني (-816هـ): "إن الدلالة هي كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر.."(التعريفات-ط القاهرة 1938 ص215) كما تمثلت اهتمامات اللغويين العرب في محاولة ابن فارس الرائدة في معجمه (مقاييس اللغة) الذي ربط فيه بين المعاني الجزئية للمادة والمعنى العام الذي يجمعها وفي محاولة الزمخشري في معجمه (أساس البلاغة) حيث فرّق بين المعاني الحقيقية والمعاني الجزئية وفي محاولة ابن جنّي في كتابه (الخصائص) الذي ربط فيه التقلبات الممكنة للمادة بمعنى واحد. ومن المعلوم أن موضوع اهتمام الدلالة هو (المشترك اللفظي) الذي يدل اللفظ الواحد فيه على أكثر من معنى، و(المترادف) الذي يدل أكثر من لفظ على معنى واحد، و(المشترك) و(المترادف) هما من باب تعدد المعنى كما نصّ على ذلك الألسني الشهير أولمان. وقد ظهرت تآليف كثيرة في اللغة العربية، عند القدماء، عالجت ظاهرة المشترك اللفظي، من مثل (الأشباه والنظائر) للبلخي (-150هـ)، و(الوجوه والنظائر) للأزدي (-170هـ)، و(إصلاح الوجوه والنظائر) للدامغاني (ق 5هـ)، و(المشترك) يعني عندهم الوجوه التي تستعمل فيها اللغة في عدة معان: فاللسان مثلاً يعني عندهم: اللغة، والدعاء، والعضو المعروف، والثناء.

وأما (المترادف) فهو عندهم (النظائر) أو ما اختلف لفظه واتحد معناه من مثل: (الولي) فهو على عشرة أوجه: الولد، والصاحب، والقريب، والرب، والمولى… وقد عالج (الترادف) كل من سيبويه، وابن جنّي، والفخر الرازي، والرماني، وابن فارس... ومن أمثلته: أعطيته، ووصلته، ورفدته، وحبوته...

3-جهود النقاد في النقد الدلالي (السيميائي):
لعل النقد الدلالي (السيميائي) العربي القديم نشأ على جهود اللغويين العرب الذي كانوا قد تتبعوا تطور دلالات الألفاظ من عصر إلى عصر، من مثل ابن فارس الذي حلل في كتابه (الصاحبي في فقه اللغة) مجموعة من الألفاظ من مثل: (الكفر) الذي كان يعني الغطاء والستر، فأصبح يعني -بعد الإسلام- شيئاً آخر هو مخالفة الدين. وكذلك (التيمم) الذي كان يعني الطلب والقصد، فأصبح يعني شيئاً آخر. وقد استفاد شراح الشعر العقديم ونقاده من جهود اللغويين هذه، فعملوا على إدخالها في نقدهم، كما فعل ابن الخاس مثلاً في شرحه لبيت طرفة:

وبرك هجود قد أثارت مخافتي....
فقال إن القصد هنا من (البرك): الإبل الباركة، أي التي صدورها على الأرض ثم تطورت دلالة اللفظة فأصبحت تعني: الخير المقيم. وفي قول عمر بن كلثوم:
أخذن على بعولتهن عهدا
إن (البعولة) هنا هي: الأزواج، وأحدها: بعل: وأصل البعل في اللغة ما علا وارتفع.. ومنه قيل للسيد بعلاً.
وفي العهود القديمة كان البعل أحد أسماء الآلهة ثم أطلقت النقطة على الأرض المروية بماء المطر، كدليل على الاتصال بينها وبين الإله (البعل) ثم أصبحت تعني: السيد، فالمهيمن، فالزوج..

كذلك شرح ابن جنّي، وابن الأنباري قصائد من الشعر القديم، شرحاً دلالياً (سيميائياً) فتابعوا تطور دلالات الألفاظ في الشعر من عصر إلى آخر.. هذا اتجاه أول في النقد السيميائي المعاصر، ولعل رولان بارت هو أول مَن أسس له في النقد المعاصر. وهناك تيار ثانٍ يتجه نحو مقاربة الظواهر في الحياة الاجتماعية. هذه الظواهر التي تمكّنت في الأذهان حتى غدت ثوابت لا يمكن زعزعتها، وقد أسس له أيضاً رولان بارت في كتبه: (أساطير) 1957، و(عناصر السيميولوجيا)1964، و(نظام الموضة) 1967، وقد اهتم فيها بسيمياء الدلالة، وقال إن الإشارة هي شكل صريح للتواصل، أي إن الإشارة تنقل رسالة إخبارية محددة، وأن الهدف الأوحد لشارات المرور مثلاً أو علامة الصيدلية هو التواصل، وما الدراسة السيميائية وفق هذا المنظور سوى تحليل لطرق التواصل.

وقد اعتبر بارت نظام اللباس وأنظمة الطبخ وما سواها ذات دلالات اجتماعية معينة. ودرسها على هذا الأساس واقترح مشروعاً سيميائياً يتلخص في دراسة هذه (اللغات) باعتبارها ذات أنظمة وأنساق معينة وفي نقدنا القديم التيار الغربي الحديث نفسه، فقد أبرز الجاحظ في بيانه الانطباعات السيميائية في الحياة الاجتماعية، وجعلها في خمسة أنواع من الإشارة:

1-النصبة: وهي الإشارة الصامتة والمعبرة عن مكنونها بمظهرها الخارجي، وهي "الحال الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير اليد". يقول الجاحظ: "سل الأرض فقل: من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك، فإذا لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً" (البيان والتبيين 1/81).

2-الإشارة: وهي بواسطة الجوارح يعبّر بها عن مكنون نفسه، من مثل تحريك اليد أو الرأس سلباً أو إيجاباً للدلالة على نعم أو لا.

3- العقد: وهو ضرب من الحساب يتم بأصابع اليدين، دون اللفظ والخط.

4-الخط: وهو الكتابة بالقلم أو بغيره كالإزميل في المرقوم، والكي على الجلد، فكل هذه صور ودلالات.

5-اللفظ: وهو الكلام المنطوق بوصفه إشارة ودلالة.

كما أوضح ابن قتيبة (-276هـ) في كتابه (العلم والبيان) الوسائل غير اللفظية التي تمكن من تبليغ المقاصد، من مثل الاستدلال بالعين (بوصفها تظهر ما في القلب)، وبالإشارة (باليد أو بملامح الوجه)، وبالنصبة (بالهيئة والوضعية).

ثم تطورت السيمياء العربية إلى درجة أصبح فيها لكل حالة سماتها: فحالة المحب مثلاً تعرف لديهم بسمات معلومة من مثل: نحول الجسم، ودموع العين، ولجلجة اللسان.. وقد جمع ابن قيم الجوزية هذا كله في كتابه (روضة المحبين ونزهة المشتاقين) جعل أحد أبوابه (علامة المحبة وشواهدها) قال فيه إن المحب يدمن النظر إلى محبوبه، أو يفضي منه مهابة، ويكثر من ذكر اسمه، ويأتمر بأمره..


2- المقاربات السيميائية في نقدنا المعاصر:

1-جهود الألسنيين في البحث الدلالي (السيميائي) الحديث:
بدأت الجهود اللغوية في نقدنا الحديث منذ مطلع عصر النهضة، ولكنها آتت أكلها في منتصف القرن العشرين، عندما تطعمت بالدراسات الألسنية الغربية. يتجلّى ذلك في جهود إبراهيم أنيس، وتمام حسان، (على سبيل المثال لا الحصر)، فقد وضع إبراهيم أنيس كتابه (دلالة الألفاظ) عام 1948 عالج فيه الدلالة الصوتية، والصرفية، والنحوية، والمعجمية، وتطور الدلالة. كما وضع تمام حسان كتابه (مناهج البحث في اللغة) عام 1955 تحدث فيه عن المنهج الصوتي، والصرفي، والنحوي، والمعجمي، والدلالي، وتحدث عن النظريتين: الديناميكية، والستاتيكية في البحث الدلالي. ثم تابع موضوعه في كتابه الثاني (اللغة العربية: معناها ومبناها) 1977، فتحدث عن النظام الصوتي، والصرفي، والنحوي، والمعجمي، والدلالي. وبحث فكرة (المقام) أو المعنى الاجتماعي الذي يظهره السياق. ثم وضع أحمد مختار عمر كتابه (علم الدلالة) 1982 عرف فيه بعلم الدلالة عند العرب والغربيين، ثم عدد أنواع المعنى، وفصّل القول في مناهج دراسة المعنى.

2-جهود النقاد في النقد السيميائي المعاصر:
لا نقول إن هناك انقطاعاً لنقدنا الدلالي (السيميائي) العربي القديم عن نقدنا السيميائي المعاصر، فقد وضع أحد النقاد العرب المعاصرين (فايز الداية) كتابه (علم الدلالة العربي) 1985 درس فيه هذا العلم، وأجرى تطبيقاً نقدياً على بعض القصائد وفق هذا المنهج النقدي. ولكننا نقول أيضاً إن نقادنا المحدثين قد انشغلوا أيضاً بقضية التحديث، ففتحوا نوافذهم لرياح ثقافات الأمم، وتفاعلوا مع المستجدات الثقافية في حقول العلم، والأدب، والفن، والنقد...إلخ فتطورت أساليب البحث العلمي، وتعددت مناهج النقد الأدبي، فمن رومانسية إلى نقد تاريخي، واجتماعي، ونفسي، وألسني، وأسلوبي، وبنيوي، وسيميائي...إلخ. وهذه المثاقفة لا تغض من قيمة نقدنا المعاصر، بل تثريه، بما تفتح له من آفاق عالمية بشرط تمثله، وهضمه، وتوطينه، لإكسابه ملامح خصوصيتنا وهويتنا.

ومن هذا المنطلق فقد أسهم نقادنا المعاصرون في تأسيس هذا المنهج السيميائي في النقد الأدبي، فوضع محمد مفتاح ثلاثة كتب تطبيقية في هذا المنهج النقدي هي: (في سيمياء الشعر القديم) 1982، و(تحليل الخطاب الشعري) 1985، و(دينامية النص) 1987، وقد خصصها جميعاً لتحليل الشعر وحده. وقد وضعت كتابي (النقد والدلالة: نحو تحليل سيميائي للأدب) 1996 عرفت فيه بهذا المنهج النقدي، في تراثنا، وفي النقد الغربي، وأجريت تحليلاً سيميائياً لقصيدة عربية. هذا في الاتجاه النقدي السيميائي الألسني. وأما في التحليل السيميائي للحياة الاجتماعية، فقد وضع عبد الكبير الخطيبي كتابه (الاسم العربي الجريح) 1980 حلل فيه حقولاً أربعة هي: الأمثال، والوشم، والخط، والجماع. كما حللت في كتابي (النقد والدلالة) مظاهر عن الحياة الاجتماعية سيميائياً.

وعلى هذا فإنه يمكن القول إن في تراثنا ما لو استنبطناه لأظهر لنا غنى هذا التراث، وإن مثاقفتنا حاجة ضرورية للتحديث، وإنه ينبغي أن نفتح نوافذنا لرياح ثقافات جميع الأمم، بشرط ألا تقتلعنا من جذورنا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى