الأربعاء ٣٠ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم زياد الجيوسي

تأملات خالد خريس

(نبض) اسم جميل يحمل في داخله معاني كثيرة، فهو يختصر الحياة وسريان الدم والروح ودقات القلب بثلاثة حروف، تشعرنا أن وراءها مفاهيم كثيرة. أثناء تواجدي في عمّان تناهى إلى مسامعي عن معرض للفنان خالد خريس في صالة العرض التي تحمل اسم (نبض)، فلم أتمالك نفسي عن سؤال السيدة سعاد عيساوي مديرة مركز رؤى، الذي لا يمكن أن أزور عمّان ولا أزوره، عن صالة العرض وكيفية الوصول إليها، فأفادتني عن عنوان (نبض)، مضيفة كلمات طيبة عن الفنان والمركز الذي يضم لوحاته في جنباته.

سمعت عن الفنان خالد خريس كثيراً في السابق، ورأيت لوحات له عبر الصحافة والشبكة العنكبوتية، لكن لم يتح لي حضور أي معرض خاص له، فكانت زيارة معرضه (تأملات) فرصة كبيرة لي أثناء زيارتي عمّان، فرصة شكرت الله بعد ثلاث ساعات من التجوال في المعرض أني لم أضيعها، رغم انشغالي بلقاء الأصدقاء والأسرة والإعداد لحفل توقيع كتابي (أطياف متمردة).

(تأملات) كان أربعة وثلاثون لوحة حملتني في عالم غريب، كان الوقت مبكراً حين وصلت صالة العرض، مما أتاح لي التجوال وحدي بهدوء، أتأمل اللوحات لوحة إثر أخرى، وأسجل بعض الملاحظات، لأجد نفسي في نهاية الجولة أعود من جديد، فلوحات الفنان حملت سحراً غريباً شدني بقوة للتحليق في داخلها وفي فضائها، فليس كل لوحة تشكيلية يمكنها أن تمسك بكلتا يديّ وتشدني إلى داخلها، فأشعر بنوع من حالة انعدام الوزن، وأحلق في داخل اللوحة بحالة من الصمت الذي يجعلني أعيش لحظات من الذهول وكأنها لحظات تصوف، فليس غريباً أن يحمل المعرض اسم (تأملات)، فهو يدفع المرء للتأمل، ويحمله في عالم التأملات بين الروحية والمادية.

منذ اللوحة الأولى يشد المعرض المتفرج، فاللوحات التي حملت أرقاماً ولم تحمل أسماءً، تجعل المرء يعيش حالة تأملية نادرة يعيشها من خلال الفنان وإبداعه، ولا يتسع المجال للحديث عن كل لوحة من لوحات المعرض، فكل منها حكاية متصلة باللوحة التي تليها، ومجموع الحكايات تمثل رواية مفتوحة النهايات، وفي كل لوحة نجد صلة متصلة باللوحة التي تليها، بحيث شعرت أني أمام لوحة كبيرة واحدة متعددة الأشكال والأفكار، ففي اللوحة التي حملت الرقم (1) كان اللون الأزرق ببرودته المعتادة يطغى على اللوحة مع تدرجاته اللونية، متمازجاً مع اللون الأبيض الذي يعطي انطباع الطهارة فوراً، وفي منتصف اللوحة رموز من خلال شكل يوحي برجل وأنثى، يقفان بتأمل، بينما في يسار اللوحة وفي وسط إبداع تلويني كأنه ضباب، نجد رمزية واضحة، وكأنها تمثل شخصين متقابلين، بينما في أسفل اللوحة يتكون شكل أبيض يوحي أنه بيضة، فكأن اللوحة تعطينا أن الحياة تبدأ من بيضة لينتقل الإنسان إلى مرحلة التزاوج في المنتصف أو المواجهة في يسار اللوحة، واللون الأزرق إلى اتساع الكون بين البحر والسماء.

بينما ينتقل في اللوحة رقم (2) إلى زيادة حدة اللون الأزرق، وكأنه ينقلنا من صفحة إلى صفحة بين اللوحتين، بحيث تكون اللوحة الثانية استكمال للأولى في الفكرة، فنجد في منتصف اللوحة مشهداً وكأنه تجريد لشخوص ومباني وشجر، ويتداخل اللون البرتقالي في اللونين الأزرق والأبيض بنسبة قليلة، فتمنح اللوحة القليل من الدفء، وكأنه ينقلنا من فكرة الشخصين في اللوحة الأولى، إلى فكرة تكون المجتمع في اللوحة الثانية، لينقلنا مباشرة إلى اللوحة رقم (3) التي كانت مستطيلة الشكل مقارنة مع أن أول لوحتين اعتمدتا الشكل المربع.

وفي هذه اللوحة اعتمد الفنان اللون الأبيض كقاعدة في ألوان اللوحة، تدرج به إلى مشتقات الأبيض وتدرجاته اللونية بهدوء وسلاسة، مازجاً إياها ببعض من اللون البرتقالي الذي أضاف بعضاً من حرارة للهدوء السائد، وفي منتصف اللوحة نجد مربعاً أبيض، تحيط زواياه نقاط سوداء، وتتناثر باللوحة رمزية الشخوص إضافة إلى أشباه الدوائر والتي يلمس المشاهد أنها تتكرر في اللوحات، والمربع الأبيض مع النقاط السوداء التي تلامس زواياه تثير في نفس المشاهد الكثير من التساؤلات، فهي أشبه بالقلب في الجسد، نقاء القلب وبعض من نثار أسود يشوه النقاء، وهذه اللوحات الثلاث شكلت مجموعة متصلة من ضمن لوحات المعرض.

المجموعة الثانية تمثلت باللوحات التي حملت الأرقام (4و5و6)، وفيها كانت التغير الهادئ في الأسلوب والفكرة، ففي اللوحة رقم (4) نجد لوحة تشعل الدفء في الروح مباشرة من اللحظة الأولى للمشاهدة، فهناك تدرج متميز باستخدام اللون، وفي أعلى منتصف اللوحة ومن خلال تداخل الألوان نجد كلمة (حب) على شكل هندسي وفوقها مباشرة سبعة أشكال وكأنها غيمات، اعتمدت تدرج اللون بين الأبيض والأزرق والبرتقالي، إضافة إلى شكل القلب المتداخل وكأنه قلبان، باللون البرتقالي الحار في أعلى يسار أسفل اللوحة، فكان مشهد القلب مع اللون يشير إلى حالة ولادة جديدة، بينما في الجهة المقابلة كان هناك رمز اعتمد الخط المنكسر بثلاث ألوان، وفي اللوحة بشكل عام اعتمد الفنان الشكل الشاقولي المدبب من أسفل والمنفرج من أعلى، بإشارة رمزية إلى حالة التأمل التي تصل إلى درجة التحليق، فأوحت هذه الأشكال وترتيبها وكأننا أمام النصف العلوي من جسد بشري، لا يمكن أن يحلق في الفضاءات السبعة بدون الحب والسكينة والتصالح مع الذات.

ليواصل الفنان مسيرته باللوحتين التاليتين، بإسقاط العديد من الرموز والتحليق والتأمل، من خلال اللون الأزرق بتدرجاته في اللوحة (5) والتي توحي بشكل عام بالضياع في وسط الضباب، بينما ينتقل إلى اللون الأزرق الداكن في اللوحة (6) التي هي أشبه بغمامة يسودها صراع في داخلها، بينما اعتمد خلفية اللوحة باللون البرتقالي بتدرجاته، فلم يكن حاراً بمقدار ما أثار تمازجه مع الأزرق شعور الخوف.

كما أسلفت في بداية حديثي، لا تتسع مساحة البوح عندي للحديث عن كل لوحة بشكل مستقل، فكل لوحة تمثل كما أسلفت حكاية، تاركاً المجال لمن يريد التحليق أن يبحث عن اللوحات والتحليق في فضائها، مكتفياً بالإشارة إلى أن كل عدة لوحات في المعرض مثلت مجموعة متصلة، ومجموع اللوحات روت لنا حكاية رحلة الفنان خالد خريس (التأملية في الكون والطبيعة والنفس)، يسير بنا بها بدون أن نمل أو نكل، حتى نصل إلى المجموعة التي تختم المعرض، وأكتفي بالإشارة فيها إلى اللوحة الأخيرة رقم (34) التي تعود بنا إلى البدايات.

لنبدأ رحلة التأمل من جديد، فكان المعرض كما تحدث الفنان (تأملات هو حصاد سنوات من الزهد والترفع، هو تأمل في الظاهر والباطن، بعيداً عن التفاصيل المملة)، وبالنسبة إليّ كانت رحلة في فضاء صفاء الذهن، والتحليق الروحي في عالم الجمال، تركت الرحلة أثرها في روحي.

عدت إلى رام الله وانطباعات (تأملات) في الروح، و(نبض) كأنه من نبضات القلب، آملاً أن يتاح لي حضور معارض أخرى للفنان تتيح لي التحليق من جديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى