الثلاثاء ٥ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم سراته البشير

تجليات الواقع في القصيدة الجاهلية

البناء الشعري نموذجا

تخضع كل قصيدة شعرية لبناء معين يضمن لها تماسكها. هذا البناء يخضع في أغلب الأحيان للمستوى الدلالي، الذي نستطيع بواسطته تقسيم القصيدة إلى وحدات شعرية مختلفة المضمون، متآلفة الإيقاع والوزن، إلا أن اختلاف المضمون والدلالة لا يعني استقلالية كل وحدة، بل إن هذه الوحدات متماسكة ومنسجمة فيما بينها على مستوى البنية العميقة للدلالة والرؤية الشعريتين.
ولعل بناء القصيدة الشعرية الجاهلية قد اتخذ شكلين متباينين: بناء فخم، تمتاز فيه القصيدة بالطول، وتضم عدة وحدات أولاها وحدة الطلل أو النسيب، ثم وحدة ذكر رحيل الأحبة، ثم وحدة وصف الفرس أو الناقة، فوحدة المدح أو الهجاء ‎أو الفخر، وأخيرا وحدة الموعظة أو الحكمة... إلى غير ذلك من الوحدات التي تدخل ضمن هذا البناء كوحدة الليل ووصف الذئب أو الوادي...

أما البناء الثاني الذي نجده في القصيدة الجاهلية، فهو ذلك البناء العادي والبسيط الذي يتناول فيه الشاعر - وبطريقة مباشرة - موضوعه الرئيس الذي يعبر من خلاله عن أحاسيسه ومشاعره اتجاه الحياة والكون. إنـه نمط بسيط في شكله لا في جوهره ومحتواه. إن بساطته ليست سذاجة، بل شكلا من أشكال تصنيف وتنضيد القصيدة الشعرية.

وإذا كان هذا البناء النمطي البسيط شائعا في القصيدة الشعرية الجاهلية، فهو أقل شهرة من نظيره الفخم الذي عرفت به المعلقات والقصائد المشهورة التي اهتم بها النقاد العرب القدامى والمحدثون.

إن البناء البسيط للعمل الشعري يشكل تجليا من تجليات حضور الواقع بشكل مكثف بعيدا عن كل فنية. إنه تعبير عفوي مباشر عن أفكار الشاعر وأحاسيسه وعواطفه؛ هذه الأفكار وهذه العواطف غالبا ما تمتاز بالتأزم الشديد، والرغبة في الكشف عن المجهول واستشراف آفاق المستقبل، وتحقيق ما هو أفضل.

إن بناء القصيدة الشعرية على نمط بسيط، هو إلغاء لكل العراقيل والحواجز الشكلية التي تعترض ذلك السيل المتدفق العارم من الأفكار والعواطف التي تؤرق بال الشاعر، وتختلج في نفسه وذاته، في عقله ووجدانه.

إن البناء الشعري البسيط هو الطريقة المثلى للتعبير بسرعة عن الموضوع الرئيس، دون حاجة للمرور بمراحل الطلل والناقة، إما لاعتقاد الشاعر أن هذه المراحل مجرد مقدمات عمياء هي أقرب إلى التقليد الجاف منها إلى الإبداع، وإما لاعتقاده بأن وحدات الطلل والنسيب والناقة.. لا يمكنها أن تضفي جديدا على ما سيقوله، ما دامت تعني له نفس مضامين ودلالات غرضه وموضوعه الرئيس.

إن الاختلاف بين البناء الشعري البسيط والبناء الشعري المركب والفخم، هو اختلاف في طريقة الأداء الشعري، لا اختلاف في جودة العمل الإبداعي، فليس العمل المنبني على النمط الأول عملا هزيلا والمنبني على النمط الثاني راقيا، ذلك أن مجموعة من الشعراء الكبار نظموا قصائدهم على النمطين معا كامرئ القيس ولبيد والنابغة... وهم أصحاب المعلقات، والقصائد الطوال الجياد.

صحيح أن البناء مكون شعري في الأعمال الإبداعية المختلفة، إلا أنه لا يمكن أن يكون مقياسا لتحديد درجات شعرية نص معين. إن الشعرية لا تتحقق إلا بوجود بناء معين، بناء يضمن للنص انسجامه واتساقه وتماسكه، ويضفي عليه نوعا من الوحدة ؛ هذا البناء قد يختلف من نص إلى آخر ضمن نفس الجنس الأدبي، دون أن يكون هذا الاختلاف مقياسا للمفاضلة...

وهكذا، لا يمكن أن نفاضل بين القصائد الشعرية الجاهلية على أساس بنائها الشعري، لأن ذلك عمل لا منطقي، وإنما تتم المفاضلة على مستويات الصورة والتركيب والرؤية.

إن القصيدة الشعرية المعتمدة على البناء البسيط قصيدة يعبر فيها صاحبها بكل صراحة وعفوية، متخطيا بذلك كل القيود الفنية ( على مستوى البناء ) التي وضعها النظام الثقافي والاجتماعي في ذلك العصر. إنها قصيدة يغلب فيها عنصر الواقع على عنصر الفن.

إن درجات حضور الواقع في هذا النوع من القصائد أقوى مقارنة بدرجات حضور الفن. إنها تلبية لدعوة الواقع بمختلف تجلياته ومظاهره، سواء كان هذا الواقع اجتماعيا أو سياسيا أو نفسيا. إن البناء البسيط فني وشعري في شكله ومحتواه، لأنه طريقة، وإن كانت مباشرة وصريحة، فهي ذكية للتعبير عن معالم الحياة والكون والوجود بطريقة تجعل الذات المتلقية أكثر اندماجا معها، وأكثر استعدادا لتمثل هذه النظرة أو تلك، ما دامت هذه الطريقة في التعبير تخاطب العقل والقلب مباشرة دون وضع حواجز نفسية وعقلية تزيح المتلقي عن المسار الصحيح الذي يوصله إلى الموضوع الرئيسي مباشرة.

ومن بين القصائد التي بنيت على البناء البسيط، القصيدة البائية لا مرئ القيس، والتي مطلعها:

أرانا موضعين لأمـــر غيــب
ونسحر بالطعام وبالشــراب
 
عصافيـــر وذبـــــان ودود
وأجرأ من مجلحة الذئــــاب
 
فبعض اللوم عاذلتــــــي فإني
ستكفيني التجارب وانتسابــي
 
إلى عرق الثرى وشجت عروقي
وهذا الموت يسلبني شبابــــي
 
ونفسي سوف يسلبني وجرمــي
فيلحقني وشيكـا بالتــــراب

إن هذه القصيدة تعالج موضوعها مباشرة دون اعتماد مقدمة طللية أو غزلية. هذه المباشرة لا تعني النثرية أو التقريرية ، بل هي تعبير واضح عن تمثل الواقع ومظاهره. إن الشاعر يعبر من خلال هذه الأبيات عن حالة نفسية عصيبة تمر بها الذات الإنسانية، حالة التأمل والتدبر والتأزم النفسي والعاطفي. إنها حالة نفسية تنفصل فيها الذات الشاعرة عن واقع المادة لتلج فضاءات الروح، ولتلج مجالا من التصورات والرؤى والقيم والأفكار.

إن بناء هذه القصيدة يتيح للشاعر التعبير عن نفسه أولا و آخرا، كما يتيح له تقديم همومه الواقعية على غيرها من المواضيع والأفكار المرتبطة بالطلل أو المرأة أو الفرس.. هذا البناء البسيط كان معروفا في النقد العربي القديم بمصطلحات يذكرها ابن رشيق في كتابه (العمدة) باب (المبدأ والخروج والنهاية) بقوله: (ومن الشعراء من لا يجعل لكلامه بسطا من النسيب، بل يهجم على ما يريده مكافحة، ويتناوله مصافحة وذلك عندهم هو: الوثب والبتر والقطع والكسع والاقتضاب) .

إن الضغط الذي تحدثه الظروف الواقعية سواء أ كانت اجتماعية أم سياسية أم نفسية يجعل الشاعر يتسرع لإفراغ شحناته الفكرية والعاطفية، فيهجم مباشرة على الموضوع الذي يشغل فكره ووجدانه دون أن يجعل لعمله الإبداعي بسطا من النسيب أو الرحلة على الرغم من كون هذا البسط مما جرت عادة الشعراء على ذكره، ومما تعود متلقو الشعر على سماعه.

إن البناء البسيط للقصيدة الشعرية وسيلة ناجعة يعتمدها الشاعر في لحظات فكرية ووجدانية معينة، يفرغ فيها حمولته الفنية والإبداعية المعبرة بكل صدق وشفافية عن واقعه الذي يحياه.
إن قصيدة امرئ القيس التي استشهدنا ببعض أبياتها، تمتاز بصفة الحزن والمأساة، بل تتعدى ذلك إلى حدود التأزم النفسي الحاد، خاصة إذا علمنا أن الموضوع الذي يتناوله الشاعر موضوع واقعي جدا، كان الشغل الشاغل للإنسان الجاهلي بصفة عامة ألا وهو موضوع: المصير المجهول. إن امرأ القيس عانى في حياته الكثير، فقد ازدادت حياته سوءا بعد موت أبيه، وازداد حزنا وبؤسا بعد أن كان يعيش حياة الترف واللهو والمجون في ظل الملك والحياة الرغيدة. هذه المعاناة، وهذا الشقاء، جعلاه يفكر في ذلك المستقبل المجهول المشؤوم: الموت والفناء.
إن موت الشاعر وفناءه إلى الأبد مصير مأساوي: إنه نفس مصير تلك الأطلال والأحجار التي كان يصفها. وإذا كان الشاعر قد عجز الآن عن تحقيق هدفه المنشود، ألا وهو الثأر لأبيه، واسترجاع ملكه الضائع، فإنه لا شك سيعجز عن تحقيق هذا الهدف في مستقبله، لا لشيء إلا لأنه ماض إلى الموت والفناء الأبدي. يقول:

إلى عرق الثـرى وشجت عروقـي
وهـذا الموت يسلبنـي شبابي

إن هذه الأبيات هي قمة التعبير عن الواقعية الجاهلية في عهد امرئ القيس، هذه الواقعية التي تستخلص بدءا بالبناء الشعري الذي يعتمده الشاعر، وهو بناء لا تراعى فيه الشكلية الفنية، بقدر ما تراعى فيه سلامة الرسالة، وتحقيقها لمبدأ التواصلية.

إن هذه القصيدة واقعية في بنائها. وواقعيتها هذه لا تنفي عنها صفة الفنية، فهذا النمط الشعري فني جميل احتل مكانة مهمة في ديوان الشعر العربي، ولا أدل على ذلك من اهتمام النقاد به بوضع مصطلحات خاصة به، وإن لم يكن هذا الاهتمام في مستوى ما خصت به القصيدة الفخمة. إلا أن المهم في هذا النوع من البناء الشعري، هو أن دوافعه وحوافزه واقعية في أغلبها.

إن عنصر الواقع يتحكم في هذا النوع من الأعمال الإبداعية الشعرية ؛ إنه الحافز الرئيس الذي يدفع الشاعر إلى إلغاء كل أنواع المقدمات من الخطاطة التي يصممها لقصيدته المرتقبة.
ونجد هذا البناء الشعري البسيط حاضرا عند العديد من الشعراء المشهورين الذين عرفوا بقصائدهم الطويلة التي نظمت على بناء فني فخم، ومن بينهم عنترة بن شداد، أحد شعراء المعلقات، حيث يقول في إحدى قصائده:

حسناتي عنـد الزمــان ذنوب
وفعالي مذمة وعيـــوب
 
ونصيبي من الحبيــب بعـاد
ولغيري الدنـو مـنـه نصيب
 
كل يوم يبري السقــام مـحب
من حبــيب وما لسقمي طبيب

إن هذه القصيدة قد بنيت على النمط العاطفي البسيط، حيث يصف فيها الشاعر حاله ويشكو زمانه.

هذه القصيدة تعبير عاطفي صادق ينبع عن نفس قلقة متأزمة من وضع اجتماعي فاسد عاشه الشاعر، لذلك نجد عنترة في الكثير من قصائده يتناول موضوعه الرئيس، ألا وهو الفخر بذاته، والإشادة برجولته وشجاعته وفروسيته، بطريقة مباشرة، محققا بذلك صفة الواقعية للنص الإبداعي. إن الواقع هو المتحكم في أغلب أشعار عنترة بن شداد العبسي.

إن عنترة كثيرا ما يثور - وبهدوء - على المقدمات الطللية والغزلية، ليستبدلها بمقدمات خاصة به، تستجيب لظروفه المادية والنفسية، مقدمات تعبر عن حالته وسط قومه وقبيلته؛ هذه الحالة التي تتأرجح بين اليأس والأمل، بين رفض الحاضر والماضي والتنبؤ بمستقبل زاهر، بين نفي الآخر للذات، ومحاولته هو - أي الشاعر - تحقيق ذاته بنفسه. إنه من غير المعقول أن يترك شاعر كعنترة همومه وأحزانه التي تطغى على حياته، فيعزف عن التعبير عنها في قالب شعري واقعي، ليذكر أمورا لا تمت له بصلة كوصف الأطلال والتغزل بالنساء أو ذكر الرحلة، وغيرها من الموضوعات...

إن أغلب أشعار عنترة كان يتحكم فيها الواقع القبلي المتردي الذي سلبه كل مراتب الشرف والنبل لكونه أسود البشرة، لذلك كرس حياته لمحاربة هذا الوضع المترهل، ولتحقيق شرفه بشجاعته وفروسيته وشاعريته لا بحسبه ونسبه، لذلك كانت كثير من قصائده مستجيبة لعنصر الواقع، وهذا ما جعل بناءها من النمط العاطفي البسيط.

ملاحظة أخرى تتمثل في كون تلك الوحدات التي يتغزل بها عنترة بعبلة ابنة عمه، لم تكن من باب التقليد الفني الذي درج الشعراء على ذكره في قصائدهم، بل كان ذلك حبا واقعيا صادقا، كما كان وسيلة لإبراز شجاعته وقوته لمن يحب. إن تغزل الشاعر عنترة بعبلة ليس مثيلا لتغزل امرئ القيس بعنيزة أو فاطمة أو سليمى... إنه تغزل تسيره ظروف واقعية.

وقد اعتمد عنترة بن شداد هذا البناء البسيط في قصائد عديدة، من بينها البائية، حيث يقول:

دعني أجد إلى العلـياء في الطلـب
وأبلغ الغـاية القصوى مـن الـرتب
 
لعل عبلة تضحي وهـي راضـيـة
على سوادي وتمحو صورة الغضب
 
إذا رأت سائـــر السادات سائـرة
تزور شعري بركن البيت في رجب
 
يا عبل قومي انظري فعلي ولا تسلي
عني الحسود الذي ينبيك بالكـذب

ويقول في قصيدة بائية أخرى:

كم يبعد الدهــر من أرجو أقاربه
عني ويبعـث شيـطانـا أحاربه
 
فيا له من زمان كـلما انصرفـت
صروفه فتكـت فينــا عـواقبـه
 
دهر يرى الغدر من إحدى طبائعه
فكـيـف يـهـنـا به حر يصـاحبه
 
جربتـه، وأنا غر، فهذبنـي
من بعــدما شــيبت رأسي تجاربـه
 
وكيف أخشى من الأيام نائبـة
والدهـر أهـون مـا عـندي نوائـبه

إن النمط البسيط البناء يحمل بين طياته حمولة فكرية وشعورية مكثفة، مشحونة بطابع الحسرة واليأس والحزن... حمولة لها وظيفة تأثيرية كبرى على المتلقي. ولا شك أن الشاعر كان صادقا مع نفسه، باعتماده هذا البناء الشعري البسيط، لأنه لم يكن ليراعي التقاليد الفنية الشعرية المتعارف عليها، كما لم يكن ليسعى إلى تحقيق الشهرة أو الحظوة التي تنتج عن الفنية المبالغ فيها. إن الشاعر باعتماده هذا النمط الشعري يسعى إلى إلغاء كل رقابة، وإلى نفي كل حاجز يحول بينه وبين التعبير المباشر الصادق عن واقعه المتأزم المتردي.

إن هذا البناء الشعري البسيط هو تعبير مباشر عن الواقع وظروفه وملابساته، كما أنه نفي لكل إغراق أو مبالغة في الفنية التي لا يجوز أن توظف في مثل هذه المواقف الشعورية والحسية التي تهيمن على الذات الشاعرة في لحظات فراغها وركونها إلى نفسها، متأملة وفاحصة هذا الواقع بمجس القلب والعاطفة والحدس.

ومن القصائد التي اعتمدت هذا البدء الأجذم أو المقطوع كما قال صاحب العمدة، قول حصين بن الحمام المري في الفخر:

جزى الله أفـناء العشيـرة كلــها
بدارة موضوع عقوقــــا ومأثمـا
 
بني عمنا الأدنين منهم ورهطنـا
فزارة إذا رامت بنا الحرب معظمــا
 
صبرنا وكان الصبـر فيـنا سجـية
بأسيافنا يقطعن كفــا ومعصما
 
يفلقـن هاما مـن رجال أعزة
علينا، وهـم كانـوا أعـق وأظلما

فالشاعر لا يتكلف البحث عن القواعد الفنية التي تزخر بها ثقافته الشعرية، ليصقل موهبته حتى تخرج على منوال قالب شعري فني راقي متعارف عليه في الأوساط الشعرية الجاهلية، بل يباشر الموضوع، معبرا عن واقع حقيقي هو واقع الحرب والبسالة والشجاعة، واقع يظهر أكثر تجليا في هذه القصيدة من أي ضرورات شعرية وفنية.

والشعراء الصعاليك قد اعتمدوا في جل أشعارهم على هذا البناء الواقعي البسيط، حيث ثاروا - ضمنيا - على المقدمات الطللية والغزلية باعتبارها تقاليد فنية لا تجديهم في التعبير عن مكنونات نفوسهم، وعن أفكارهم وآرائهم التي اتخذوها إزاء مجتمعاتهم القبلية الطبقية. هذا لا يعني أن المقدمة الطللية أو الغزلية أو وحدة الليل... أو غيرها من الوحدات الشعرية الموجودة في قصائد الشعراء ليست ذات دلالات عميقة في إبراز رؤى الشاعر والإبانة عن خواطره وأفكاره. إنها وسائل هامة للتعبير عن كل هذا وذاك، ولكن ليس لدى الشاعر الصعلوك. إن هذا الأخير يود التعبير عن واقعه الاجتماعي مباشرة دون قيد أو شرط، والأهم من ذلك كله هو التعبير عنه دون رهبة أو خوف، ما دام قد أشهر لسانه وسيفه ضد هذا الواقع.

إن الشاعر الصعلوك ربط شعره بالدفاع عن قضيته المصيرية المتمثلة في قضية الوجود، لكن ليس الوجود بالمعنى الإنساني العام، وإنما الوجود الاجتماعي: أي الحياة العزيزة الكريمة للذات الإنسانية المهمشة بسبب النسب أو الحسب أو اللون في مجتمع إنساني تسوده مظاهر العدل والمساواة.

ومن الأمثلة التي نوردها في هذا المجال لامية العرب، حيث يقول الشنفرى:

أقيمـوا بني أمي صــدور مطيـكـم
فإنــي إلى قوم سواكـم لأميل
 
فقد حمت الحاجـات والليــل مقــمر
وشدت بطيــات مطايا وأرحل
 
وفي الأرض منأى للكريـــم عن الأذى
وفيها لمن خاف القلى متعـزل
 
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ
سرى راغبا أو راهبا وهو يعقل
 
ولي دونـكــم أهلون: سيـد عملس
وأرقط زهلول وعرفاء جيـئل

صحيح أن الشاعر يصف مظهر الرحيل، لكنه ليس رحيل الأحبة، فليس هناك سير للإبل والظعائن والماشية. إنه رحيل الشاعر إلى المجهول بعيدا عن قومه الذين رفضوه وطردوه، فلم يعودوا أهلا له. إن الشاعر في البناء البسيط يعبر عن واقع كئيب يبعث في النفس إحساسا بالرهبة والحزن ؛ فرحيل الشاعر في النمط الفخم، وعلى الرغم من المخاطر والأهوال التي تسمه هو رحيل إلى الممدوح، إلى المال والجاه. أما رحيل الشاعر الصعلوك، وكما يبدو في هذه القصيدة، فهو رحيل إلى البيداء والصحراء، رحيل إلى عالم الذئاب والضباع والوحوش الضارية...

وعندما يذكر الشاعر الصعلوك المرأة في بداية قصيدته، فإنه لا يتعرض لوصف محاسنها ومفاتنها الجسدية، وإلى ذكر مغامراته معها، ووصاله لها أو فراقه عنها، كما فعل امرؤ القيس والأعشى وغيرهم، وإنما يجعلها ذلك المودع له، الذي يرجو سلامته من الأهوال والمخاطر التي تعترض كل سبيل له. إن المرأة في البناء البسيط عند الشاعر الصعلوك " ليست المرأة المحبوبة التي عرفناها عند الشعراء القبليين، تلك التي يتدله الشاعر في حبها، ويبكي أيامه معها، ويقف على أطلال ديارها، ويدعو أصحابه إلى الوقوف معه، ولكنها المرأة المحبة الحريصة على فارسها... يرفض نصيحتها في رفق وأدب، ويقابل جزعها بابتسامة الواثق بنفسه، المعتد بشخصيته، ويحاول أن يقنعها في قوة وإيمان بسداد رأيه، وسلامة مذهبه في الحياة "
ومن أمثلة هــذا الـنوع مـــن القصائد ميمية عمرو بن براقـة التي يبتدئ فيها بقـوله:

تقــول سلـيمى لا تعرض لتلفـة
وليلك عن لــيل الصعاليك نائم
 
وكيـف ينام الليل من جـل ماله
حسام كلون المـلح أبيــض صارم
 
غموض إذا عض الكريهة لم يدع
له طمعا، طـوع اليميــن ملازم
 
ألم تعلمي أن الصعاليـك نومهم
قليـــل إذا نـام الخلــي المسالم

إن القصائد الشعرية التي تعتمد البناء البسيط تبتدئ بموضوعها الرئيسي مباشرة، دون حاجة إلى مقدمات لا تمت له بصلة ظاهرية؛ وهذا ما أكسبها تلك الوحدة الموضوعية سواء ظاهريا أو باطنيا، على خلاف القصائد الفنية ذات البناء الفخم التي لا تملك هذه الوحدة سطحيا، وإن كنا لا ننفيها على مستوى البنية العميقة.

وقد تنبه حازم القرطاجني إلى هذا البناء فقال: " فأما القصائد البسيطة فأحسن ما تبدأ به وصف ما يكون في الحال مما له إلى غرض القول انتساب شديد ".

وغرض القول هو الموضوع الذي يفرضه واقع الشاعر السياسي أو الاجتماعي أو الشعوري النفسي. إن غرض القول هو أمر واقعي. والواقع محرك عملية الإبداع بدون أدنى شك.
إن سيادة غرض القول على بناء القصيدة يحيل على الوحدة الموضوعية التي امتازت بها القصيدة ذات البناء البسيط. ولعل هذه الفكرة أكدها د. يوسف خليف في قوله بخصوص الصعاليك: " والناظر في شعر الصعاليك تلفت نظره تلك الوحدة الموضوعية في مقطوعاته وأكثر قصائده... وهي ظاهرة لم تعرفها قصائد الشعر الجاهلي القبلي... تلك القصائد التي تبدأ بمقدمة طللية، ثم تظل تنتقل من موضوع إلى موضوع حتى تصل إلى نهايتها ".

إن استجابة الشاعر لأفكاره وعواطفه دون قيود فنية في قصيدة شعرية ليس عيبا، وليس ضعفا فنيا جماليا ؛ فهذا النوع المعتمد على البناء البسيط له درجات كبرى من الفنية والشعرية. طبعا، ليس كل قصيدة ذات بناء بسيط قصيدة جيدة، كما أنه ليس كل قصيدة ذات بناء فخم مركب جيدة. إن الجمال الفني، أو بالأحرى الجودة الفنية والشعرية مرتبطة بمجموعة من العناصر والبنى المؤلفة للعمل الإبداعي باعتباره كلا متكاملا، باعتباره مزيجا من التراكيب اللغوية والصور الشعرية والإيقاعات والرؤى والدلالات...

وقد عرف النقد العربي القديم بعض المواقف النقدية التي يفضل من خلالها القصائد الشعرية ذات البناء البسيط لكونها تعبر عن موضوع واحد موحد منذ أول أبياتها إلى آخرها، ولكونها تؤسس موضوعها الذي سوف تناقشه وتعالجه منذ البداية. إنها توجيه للقارئ والمتلقي إلى مجال معين، لينصب بكل عقله ووعيه على نقطة محورية واحدة تشكل بؤرة واقع الشاعر ومركز أفكاره وتأملاتـــه. وفي هذا المجــال قال الحاتمي: " أخبرنا محمد بن عبد الواحد عن ابن يزيد عن ابن هرون الأشننداني عن التوزي قال: سمعت الأصمعي يقول: لم يبتدئ أحد من الشعراء بأحسن مما ابتدأ به أوس بن حجر:
أيتهـــا النفس أجملي جـزعا
إن الذي تحذرين قــد وقـــعا

إن الذي جمع الشجاعة والنــج
دة والحزم والنــدى جـمعــا

الألمعي الذي يظن بك الظــن
كـأن قـد رأى وقد سمــعــا
لأنه افتتح المرثية بلفظ نطق به على المذهب الذي ذهب إليه منها في القصيدة، فأشعرك بمراده في أول بيت، وهذا نهاية وصف الشعر والشاعر. قال: " وقول أبي ذؤيب، لأنه ابتدأ كلامه في أوله بما دل على آخر غرضه، فقال:

أمن المنون وريبها تتوجــــع
والدهر ليس بمعتب من يجـزع "

إن المواضيع التي تطغى على قصائد البناء البسيط، هي تلك التي تنتمي إلى مجالات العاطفة، أو مجال الوعظ والإرشاد. إنها مواضيع من قبيل واقع الشاعر الجاهلي.. ذلك أن أغلب القصائد التي مثلنا بها في هذا المقام تندرج مواضيعها وتيماتها ضمن هذين المجالين؛ فقصيدة الشنفرى في أغلبها حكم ونصائح منبثقة من خصال الشاعر الصعلوك في عيشه، وفي تعامله مع الإنسان والحيوان والطبيعة؛ وقصيدة أبي ذؤيب الهذلي التي فضلها الأصمعي تتعرض لموضوع عاطفي حزين هو موضوع الموت والفراق، وكذا الدهر وصروفه؛ وقصيدة امرئ القيس تعالج واقع سيرورة حياة الإنسان إلى الأسوأ فالأسوأ.

إن هذا البناء البسيط مطبوع بطابع معين، يجعله مميزا عن البناء الآخر الذي يعتمد الفنية بشكل كبير.

وإذا كان البناء البسيط استجابة حتمية لواقع الشاعر، فإنه لا يعبر عن هذا الواقع في حدوده المادية فحسب، بل والمعنوية والروحية كذلك.

إن هذا البناء يعبر عن أمور مادية كالحرب والقتال أو الصراع الاجتماعي والسياسي، كما يعبر عن أمور معنوية فكرية وشعورية كالكينونة الإنسانية، وقضية المصير المجهول، ومجال الصفات والأخلاق والقيم.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا البناء الشعري البسيط غير المركب يوجد في القصائد الطويلة كما يوجد في القصائد القصيرة، وإن كان غالبا على الثانية. فلا عجب أن يعبر الشاعر عن أحاسيسه وأفكاره بطريقة مباشرة في قصيدة طويلة إذا كان نفسه الشعري طويلا، وإذا كانت دوافعه وحوافزه الواقعية أكبر من أن يعبر عنها في أبيات قليلة. إن صفة طول القصيدة أو قصرها، لا ترتبط إلا بموضوع الشاعر، بحالته النفسية في أثناء إبداع هذه القصيدة.

إن البناء البسيط للقصيدة الجاهلية تجل من تجليات الواقع في هذه القصيدة، هذا الواقع الذي لا ينفي الفن، بل يعضده ويدعمه.

إن البناء البسيط ليس مذهبا شعريا، بقدر ما هو إحدى طرق الإبداع الشعري على مستوى البناء والشكل الشعري في العصر الجاهلي.

البناء الشعري نموذجا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى