الثلاثاء ٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم حسين حمدان العساف

تحامل النشاشيبي على الدكتور طه حسين

كان طه حسين مثاراً للجدل والمعارك الفكرية والأدبية، ليس في حياته التي ألّبت عليه الخصوم والأعداء فحسب، وإنما بعد رحيله أيضاً. لفتت نظري داخل دائرة صغيرة مرسومة على غلاف مجلة (سوراقيا) اللبناني ةفي عدد من أعدادهاعبارة تقول:(الوجه الصهيوني لطه حسين)، وهي تشير إلى مقال عنوانه:(الوجه الآخر لطه حسين) بقلم الكاتب الصحفي المعروف الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي، وكتبت عبارة بالخط العريض تحت العنوان، تقول:(عاش فرنسياً بالنسبة إلى مصر، ومصرياً بالنسبة إلى العرب، ولم يكن عربياً ولا عروبياً أبداً.)، (1)وهذا ما حفّزني لقراءة المقال، وفي بدايته يقول الكاتب:إن طه حسين كان زميلاً لي في رئاسة تحرير جريدة (الجمهورية) بالقاهرة مدة سبع سنوات، وكان يتقاضى الدكتورراتب رئيس التحريركاملاً الذي لم يكن يقل عن خمسمائة جنيه مصري في الشهر، رغم أنه لم يكتب على صفحات (الجمهورية) مقالاً واحداً، كان يأخذ الراتب مقابل وضع اسمه على (ترويسة) (الجمهورية)، رغم أنَّ معظم قرّاء جريدة (الجمهورية) ليسوا من خريجي الجامعات، ولم يقرؤوا الأدب الجاهلي، ولم يسمعوا باسم طه حسين ثم يقول:وكان الود مفقوداً بين (العميد) الهمام وبيني، ولم أزره في منزله كما طلبوا مني، ولم أسأل عنه في فترات مرضه، ولم يعنيني أمرالإشارة إلى نصائحه في جلسات التحرير. ثم يتابع الكاتب: وعندما زرت باريس في مهمة صحافية لتغطية أخبار (مؤتمر الأقطاب) العام 1960، وحاول الزميل الصهيوني المسيو (شرايبر) رئيس تحرير مجلة (الإكسبريس) الفرنسية التطاول على كرامتي وعلى الجريدة التي كنت أرأس تحريرها، وذلك بأن تعمّد إلغاء موعد المقابلة معي بعدما قيل له إنني (مقدسي الأصول، وفلسطيني الهوى، وعربي الميول، وقومي النزعة، وصميمي المبدأ)، وعدت إلى القاهرة، ونشرت القصة كاملة على صفحات (الجمهورية) وجن جنون رئيس تحرير(الإكسبريس) الذي عمد إلى التكذيب، مما دعاني إلى سرد كل التفاصيل المتعلقة معه، إلى أن لجأ هذا الفرنسي إلى طه حسين محتجاً إليه، ومحتمياً به، وإذا بعميدالأدب العربي ينتصر لليهودي ضد زميله العربي الفلسطيني، ويتصل برئيس مجلة الإدارة ـ صلاح سالم ـ ويطلب منه أن تعتذر الجريدة لرئيس (الإكسبريس) في باريس، ورفض صلاح سالم، ولم يتراجع طه حسين عن تأييده الأعمى لصديقه الفرنسي إلاَّ عندما أحسَّ بأن الموضوع سيتضخم، وسيصل إلى جمال عبد الناصر، ومنذ ذلك الوقت عزمت أن ألزم الابتعاد التام عن جريدة (طه حسين)، كما رحت أسأل، وأدرس، وأبحث عن مدى علاقة عميد أدبنا العربي باليهود والحركة الصهيونية، وجاءني أكثر من جواب، وأصابتني أكثر من دهشة، غيرأني توقفت عند مجلة أدبية يهودية معروفة اسمها (الشمس)، تصدر باسم الجالية اليهودية في مدينة الإسكندرية بمصر، حيث قرأت في الصفحة الأدبية من المجلة المذكورة نص المحاضرة التي كان قد ألقاها عميدنا في دار المدارس الإسرائيلية بالإسكندرية مساء الخميس 23 كانون الأول (ديسمبر) العام 1943 عن (اليهود والأدب العربي)، ثم يضيف الأستاذ النشاشيبي قائلاً: وأنشر فيما يلي النص الحرفي لما أوردته مجلة يهود الإسكندرية عن المحاضرة المذكورة للدكتور طه حسين، في عددها الصادر يوم الجمعة 7 كانون الثاني (يناير) 1944، وكان ما أوردته المجلة جاء ملخصاً على لسان مندوبها (منصور وهبه)، قالت المجلة بعنوان: (اليهود والأدب العربي) (محاضرة الدكتور طه حسين بك في مدارس الطائفة الإسرائيلية بالإسكندرية، كماوافانا بها مندوبنا في الإسكندرية)، أمّا أنا فسأورد، تجنباً للانتقاء، النص الحرفي لموجز المحاضرة التي نشرها الأستاذ النشاشيبي في مقاله : (عندما أجلى الرومان اليهود عن فلسطين، تفرّق هؤلاء في البلاد المجاورة، واستقروافي شمال وجنوب الجزيرة، ولا سيما بجوار المدينة، وبدأ اليهود يصبغون مضيفهم بثقافتهم الدينية، وفضائلهم حتى أصبح كثير منهم مستعداً لقبول الإسلام، ولكن بجانب هذا تأثر اليهود بالعرب، فأخذوا اللغة وبعض العادات، وقرضوا الشعر، كما يقرضه العرب من دون أن يزيدوا شيئاً في أوزانه أو قوافيه، ولكن الشعر اليهودي، امتازبالحث على الفضائل، وإنكار اللذات، وكانت معظم مراميه أن الحياة وسيلة لا غاية، وامتازاليهود بين إخوانهم العرب بالوفاء، وطلب المثل العليا، كما نلاحظ في شعر السموأل بن عادياء، وربيعة بن الأشرف وغيرهما من شعراء اليهود، وأخذ عنهم العرب فلسفتهم في أن الحياة وسيلة لا غاية، ولكن اختلفواعنهم في أن الحياة للفرد وأنانيته ومتعه ومجونه، كما نلاحظ ذلك في شعر طرفة بن العبد.)، (وخبت جهودهم في الأدب والشعر في شرق الإمبراطورية العربية، وتحاشوا كل ما من شأنه الاحتكاك بالحكام بعكس النصارى، ولكن اليهود كانوا الدماغ المدبر للمالية والاقتصاد أثناء هذا العصر، وكانت منهم طائفة كبيرة من العلماء في الإسكندريةعند دخول عمرو بن العاص، وكان اليهود المستقرون في بلاد النصارى يعاونون أبناء عمومتهم العرب على الفتح والاستعماروأعوانه، ولمن الإنصاف أن نذكر أنهم كانوا عنصراً أساسياً في غزو بلاد الأندلس ومساعدة طارق بن زياد ضد القوط، وأن العرب في كل مراحل الغزو في شمال أفريقية وأوروبا وحتى فلسطين كان يقدمون جيوشهم، وكان اليهود يتعاونون معهم في إدارة البلاد سياسياً واقتصادياً بل وفي تسهيل العمل لسيرهذه الجيوش الغازية، ولولا هذا التعاون الوثيق لما كانت الإمبراطورية العربيةالضخمة.)، ومن نوابغ اليهود في الاقتصاد مدير إدارة الخزينة (يعقوب من كاس) الذي وفد على مصر أيام كافور الإخشيدي، وظل يتقلّب في مناصب الدولة حتى أصبح وزيراً فرئيساً للوزراء، ونظم المالية المصرية بحذقه وكياسته ردحاً طويلاً من الزمن، وكان متواضعاً، رفعته أعماله، ولم ينل منه حسّاده شيئاً، وقد أسلم في آخر أيامه، وأصبح إماماً يخطب المسلمين في الجوامع، ويعظهم، ويناشدهم الاستمساك بالفضائل والبر والأخلاق .

(أمّا في أسبانية فكانت جهود اليهود هائلة جبارة أيام الدولة الأمويةوبعدها، وكان نشاطهم كالسيل الجارف، وكانت أوروبا المسيحية في تلك الأحقاب تنظر إلى الشرق، كما ينظر الشرق الآن إلى أوروبا من حيث العلم والعرفان، وكان اليهود هم الذين نقلوا ثقافة العرب وتراث العرب إلى أوروبا، فأشعلوا الفتيل الذي التهب عن الحضارة الحديثة في كل مناحيها، فإليهم يرجع الفضل في جعل الأدب العربي أدباً عالمياً عن طريق الترجمة إلى اللاتينية مباشرة أوعن طريق الترجمة إلى العبرية ثم اللاتينية.)، ثم يتابع مندوب مجلة(الشمس) تلخيصه محاضرة الدكتور قائلاً : ثم أثنى المحاضر على المدارس الإسرائيلية التي شرعت تعير العربية اهتماماً، وحث الدكتور يهود مصر على الإقبال على لغة البلد الذي يعيشون فيه، والإقبال على تذوق الأدب العربي، كما كان يفعل أسلافهم، وبعد أن أنهى كاتب المقال عرضه لملخص المحاضرة، ذكر أن (طه حسين)، كان الكاتب(العربي)الذي ترأس تحرير جريدة اسمها (الكاتب المصري) العام 1945، والتي كانت تموّلها مادياًومعنوياً شركة(الكاتب المصري للورق والأدوات المكتبية) المملوكة لأسرة(هراري)اليهودية المصرية الثرية العريقة، المعروفة، ومن عرضه لموجز محاضرة الدكتور، وإشارته إلى ترأس الدكتور الجريدة المذكورة، يستنتج كاتب المقال الوجه الصهيوني لطه حسين، ثم يستعرض بعد ذلك ذكرياته مع طه حسين، ويروي اتصال الدكتور به هاتفياً أول مرة غاضباً على المقال المنشور في جريدة (الجمهورية) الذي يمدح مغنية، وطالباً مجلس الإدارة أن يرفعوا الجريدة عن هذه الترهات، ثم يستعرض رواية أخرى يقول فيها: دخل علينا صلاح سالم ـ رئيس مجلس الإدارة ـ ذات يوم، وعلى فمه ضحكة واسعة، لم يستطع أن يخفيها، وقال:(الدكتور طه) يقترح تبديل اسم الباب الرئيسي في الصفحة الأخيرة من (اليوميات) إلى (مع الأيام)، ورفضنا اقتراح العميد، شاكرين، ضاحكين، ثم جاءنا اقتراح خطي من الدكتور ينادي بضرورة عدم الإسهاب في نشر قصص الجرائم بحجة أن ذلك يشجع المجرمين في مصر على الاستمرار في اقتراف جرائمهم ضد المجتمع، ولم يؤيده واحد منا، وفي رواية أخرى يذكر أنه عندما مرض صلاح سالم، وسافر إلى أمريكا، وعاد منها ميئوساً من شفائه، كان (طه حسين) يواصل اتصالاته التليفونية بنا للاستفسارعن صحة صلاح سالم، ولعله اتصل ذات يوم، ولمّا لم يجد من يطمأنه عن صحة صلاح سالم أو عن أحواله، بادرإلى الاتصال بمستشفى الطيران في (العباسية)وأجابه جمال سالم شقيق صلاح، ودار بينهما حوائ، يرويه كاتب المقال بطريقة ساخرة من شخص (طه حسين) إذ يجيب أخو المريض عن أسئلة (طه حسين) بعبارات بذيئة ضاجرة من أسئلته، لا تنم عن تقدير له أو شكرلاهتمامه بصحة أخيه، ثم لا يلبث سرد ذكريات كاتب المقال أن يخرج عن حدود اللباقة كما في الرواية التي يذكر فيها أنهم فوجئوا في إحدى جلسات مجلس الإدارة بالأستاذ (سيد إبراهيم) المدير العام في الجريدة، وهو يقدم استقالته من العمل !! وبعد التحقيق تبين أن الأستاذ (سيد إبراهيم) ارتكب غلطة عمره في حوار هاتفي بينه وبين الدكتور طه حسين، لأنه خاطب الدكتور بلقب (أستاذ) بدلاً من لقب (باشا)، ويتابع سرد هذه الرواية قائلاً: والمعروف أنَّ زميلنا الأستاذ الشاعر المعروف (كامل الشناوي)، كان بارعاً في تقليد الأصوات إلى درجة مذهلة، وأنه قررّ ذات يوم أن يمثل شخصية(طه حسين)، فيطلب على الهاتف(سيد إبراهيم)، ويجري بينهما حوار، يبدؤه (كامل الشناوي) في شخصية طه .
 ألو، أنا طه باشا، يا سيد أفندي .
 سيد إبراهيم : حاضر، تفضل يا أستاذ طه .

ثم يغضب عليه (طه حسين) لمخاطبته إياه بلقب أستاذ فيوبخه، ويهينه، ثم يرد عليه سيد إبراهيم بعبارات سوقية وشتائم قاسية مؤلمة، ثم يغلق الهاتف بوجه (طه حسين)، ثم يهرول (سيد إبراهيم) إلى مجلس الإدارة لتقديم استقالته، وعندما سمع (طه حسين) بتفاصيل الرواية بعد وقوعها بإسبوع، لم يضحك، ولم يحتج، ولم يعلّق، وإنما اكتفى بالقول : (لعمري إنَّ هذا تهريج كالتجريح، أو ضحك كالبكاء، أو تمثيل كضرب السّياط من شأنه أن يهبط بالجريدة إلى الحضيض، قولوا للأستاذ الشناوي أن يكف عن هذه الألاعيب المعيبة، وبعد سرد ذكرياته مع طه حسين، ينتقل كاتب المقال للحديث عن شخصية (طه حسين) كما سمع عنها، أو عرفها أو زاملها سنوات طوالاً فيرى أنّ (طه حسين) عاش فرنسياً بالنسبة إلى مصر، ومصرياً بالنسبة إلى العرب، ولم يكن عربياً ولا عروبياً أبداً، ثم يستعرض آراء كبار الأدباء والنقاد فيه، فيقول : وعلى الرغم من كل ذلك . بقي طه حسين، كما يقول عنه توفيق الحكيم (أسطع ضوء للفكر العربي في القرن العشرين، والمنارة المضيئة مع الشرق .) وبقي طه حسين كما كانت تسميه (مي زيادة) (أبا العلاء وفولتير) وبقي عند صديقنا الشاعر نزار قباني (المبصر الوحيد الذي لا تدافع عنه عصور العميان .) ولكنه عندي الزميل الذي لا أحب، والأستاذ الذي لا أثق بعروبته، ولا أرتاح إلى وطنيته . ثم يختم الكاتب مقاله بهذه العبارة : (هذا العميد المصري ليس منا، ولسنا منه .) قد لا يكون تلخيص المحاضرة المنسوبة إلى (طه حسين) الذي قام به يهودي، يعمل مراسلاً لمجلة يهودية بريئاً من الغرض، نزيهاً من الدس، ولكن كي نقوّم محاضرة (طه حسين) في علاقة اليهود بالأدب العربي أوبالعرب، ونحكم عليها حكماً منصفاً دقيقاً أو قريباً منهما، ينبغي أن يتوافر لنا قبل كل شيء النص الكامل لمحاضرته، وإلاَّ فإنّا نظلم الرجل إذا اعتمدنا ملخصاً عرضه علينا يهودي، ونشره كاتب ستتضح بعد قليل علاقته بطه حسين، ورغم ذلك إذا كان لابد من قراءة النص المعروض أمامنا على علاّته، فإنَّ ما نلاحظه على كاتب المقال أنه لم يعلّق على النص، ولم يحدد فيه ما يدل على الوجه الصهيوني لطه حسين، كأن يشير على سبيل المثال إلى وقوع هذا الرجل في خطأ تأريخي أو مغالطة في حديثه عن العلاقة بين العرب واليهود في تلك المرحلة، فيدحضهما إلاَّ إذا اعتبر الكاتب إشارة طه حسين إلى وقوف اليهود إلى جانب العرب أو تأثرهم بالعرب في مراحل غزوهم في شمال أفريقيا أو في فتح الأندلس دلالة على وجهه الصهيوني، فهذا أمر ينبغي التوقف عنده قليلاً.وليس بوسع أحدأن ينكرماكان نتيجة الاختلاط بين العرب واليهود عبرمراحل التاريخ، لاسيما في فترة موضوع الحديث من تأثر وتأثير متبادل بينهما، كان اليهود فيها هم المتأثرين في أغلب الأحيان.وإذا كان طه حسين يتحدث عن هذه العلاقة، فإنه يحاول أن يكون موضوعياً دقيقاً منصفاً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وليس معنى ذلك أنه مصيب، فقد يخطئ أو يبالغ. وعلى كل حال فإن مضمون المحاضرة يتناول العلاقة بين اليهود والعرب في مرحلة محددة واضحة هي مرحلة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية منذ بدء الفتوحات في القرن الأول للهجرة حتى مرحلة استقرار العرب بالأندلس، فيبين المحاضر تأثر اليهود بالشعر العربي وبأوزانه وقوافيه، وتقديم اليهود، كما يزعم ملخص المحاضرة، المال لتسيير جيوش المسلمين إلى الفتوحات، ونقلهم ثقافة العرب وتراثهم إلى أوروبا الذي أسفر عن هذه الحضارة الحديثة بكل جوانبها، ويتناول ترجمة اليهود الأدب العربي إلى اللاتينية مباشرة أو إلى العبرية ثم اللاتينية ليصبح فيما بعد أدباً عالمياً، كما يبين المحاضر دور نوابغ اليهود في الحضارة العربية الإسلامية ثم إسلام بعضهم، وما تقدم ذكره، لا يدل على الوجه الصهيوني لطه حسين كما أراده كاتب المقال، وإنما أراد طه حسين أن يدلل على تأثير الحضارة العربية الإسلامية في اليهود، هذه الحضارة الشامخة التي استوعب كيانها الواسع كل الملل والنحل والطوائف والمذاهب جميعها على اختلافها التي أسهمت كلها إلى جانب العرب في بناء هذه الحضارة، والمأخذ على كاتب المقال أنه عزل النص عن ظرفه التأريخي، فالنص محكوم بظرفه، ومن الخطأ عزله عن ظرفه ذلك أن الظرف التأريخي الذي عاش فيه اليهود في كنف الحضارة العربية الإسلامية غير الظرف الذي ألقى فيه (طه حسين) محاضرته في العام 1943، فمن المؤكد أن اليهود في عهد الفتوحات العربية الإسلامية ليسوا صهاينة، وقد يكون من أبناء الطائفة اليهودية في مصر أيام محاضرة طه حسين يهود لا صهاينة، والمحاضرة المذكورة سبقت تأسيس ما يسمى بدولة (إسرائيل) في العام 1948 بخمس سنوات، كذلك فإن الظرف الذي ألقى فيه طه حسين محاضرته يختلف عن الظرف الذي طرأ على الساحة الفلسطينية والعربية بعد العام 1948.لذا فإنه من العسف النظر إلى تولي (طه حسين) رئاسة تحرير جريدة (الكاتب المصري) في ذلك الوقت بعين ظروفنا الراهنة، وللبيان أقول: نعم! إن شركة (الكاتب المصري للورق والأدوات المكتبية)، كانت شركة مصرية داخل مصر، ويقال إنّها مملوكة لأسرة يهودية، وكانت تركيبة المجتمع يومذاك خليطاً من جاليات أجنبية شتى أقامت في مصر، وحصلت على امتيازات قديمة من دول الغرب الاستعماري، كما كانت في مصر جاليات يهودية ارتبط وجودها بظروف تأريخية:فقد كان في الإسكندرية جماعات من اليهود، وأغلبهم عائلات تراجعت مع العرب من الأندلس، وتوزّعت على شواطئ البحر الأبيض التوسط من الغرب حتى استانبول، واستقر بعضهم كوسطاء ووكلاء للتجارة مع المدن الإيطالية، وكان في القاهرة حارة لليهود، وكانت حيّاً نشطاّ من أحياء القاهرة على صلة مباشرة بالقلب التجاري للمدينة، وكان مما سهل اندماج الطائفة اليهودية التي تجاوزت الستين ألفاً في ذلك الوقت في الحياة المصرية أن قمة الطبقة المتوسطية في مصر كانت غالباً من أصول أجنبية، وقد برزت في تلك الفترة في مصر عائلات يهودية متنفذة مثل (قطاوي) و(موصيري) و(منشة) و(شيكوريل) و(رولو) و(ساسان) وغيرها، واحتل اليهود ما نسبة 39% من مقاعد مجالس إدارات جميع الشركات الصناعية والمالية في مصر، وشاركت عائلات منهم في إنشاء (بنك مصر) نفسه، وكانت لهم شبه سيطرة مؤثرة على عدد من الشركات الزراعية، ومارست نخبة من الطائفة اليهودية قدراً من التأثير في الحياة الاجتماعية، فقد كان لفرقة (الهابيما) المسرحية التي أنشأها اليهود في فلسطين مواسم في القاهرة، وكذلك الفرقة المسرحية (الفيلهارمونية) اليهودية التي أصبحت فيما بعد الأوركسترا الأولى في (إسرائيل)، وكانت الجامعة المصرية في فترة تألقها في الثلاثينات على صلة وثيقة بالجامعة العبرية في القدس، وكان بين أحمد لطفي السيد مدير الجامعة المصرية والدكتور (ماجنس) مدير الجامعة العبرية بالقدس صداقة، وكان (حاييم ناحوم أفندي) حاخام الطائفة اليهودية في مصر عضواً في مجلس الشيوخ المصري ثم عضواً بارزاً في مجمع اللغة العربية، وصديقاً مؤثراً على النخبة السياسية والثقافية والفكرية في مصر، داخل القصر الملكي وخارجه، وكان (حاييم إدجمان) أهم شخصية في جريدة (الأهرام) بعد رئيس تحريرها، كما كان (جون كيمشي) ابن عم (دافيد كيمشي) مسؤول الموساد الشهير مراسل (أخبار اليوم) المصرية في لندن، وكان(جوزيف ليفي) مراسل الجريدة في نيويورك أبرز رجال تنظيم المخابرات التابع للوكالة اليهودية، وكان بين مؤسسي نقابة الصحفيين المصريةعدد من اليهود، وفي تلك الفترة ترجم الماجور(أباإيبان) أبرز المتحدثين باسم الجيش البريطاني في القاهرة والذي أصبح فيما بعد وزيراً لخارجية (إسرائيل) أعمال عدد من كبار الكتاب المصريين إلى اللغة الإنكليزية بينهم (توفيق الحكيم) الذي ترجم له (أبا إيبان) كتابين هما: (عودة الروح) و(شهرزاد) وكان بين الطائفة اليهودية تيار يدعو إلى مجتمع البحر الأبيض المتوسط، وهكذا فقد بدا أنَّ اليهود باتجاهات صهيونية أو غير صهيونية، يملكون في تلك الفترة مواقع مهمة ومؤثرة على قاعدة المجتمع المصري وقمته.(2)، ويبدو أن مصر وهي تحت الاحتلال البريطاني ( لم تكن واعية بما يجري على أراضيها لدعم المشروع الصهيوني في فلسطين) وإذا كانت هذه هي ظروف المجتمع المصري في الوقت الذي ألقى فيه طه حسين محاضرته في الإسكندرية، فإنه لابد من التعرف أيضاً إلى ظروف طه حسين نفسه بعد تلك الفترة، فلقد سقط حزب الوفد من الوزارة وكان أول هدف للوزارة التالية تصفية نفوذ حزب الوفد، والتضييق على طه حسين الذي كان أحد أبرز المنحازين إليه، وحاولت الوزارة الجديدة النيل من مكانته، وهو المستشار الفني لوزير المعارف ومدير جامعة الإسكندرية في الوزارة الوفدية السابقة (1942-1944)، واتخذ القصر منه موقفاً معادياً في الفترة، وبدأ الملك فاروق يضغط على طه حسين بعد أن أخفقت مساعيه في استمالته إليه، فأحاله على المعاش بمرسوم ملكي، ثم سعى للتضييق عليه، فعين مراقباً من قبله في جامعة الإسكندرية أخذ يضايق طه حسين حتى صاح في وجهه في إحدى المرات، (3)، عندئذ لم يجد بداً من الاستقالة، وكان يمرّ بضائقة مالية، فوجد عملاً آخر له رئيساً لتحرير جريدة (الكاتب) التي ما لبثت أن توقفت، وقد صرح طه حسين أن الحكومة أجبرته على تصفية دار النشر والمجلة، وروت قرينته (سوزان) أن القصر كان السبب في توقف جريدة الكاتب، وروى الباحثون أنَّ أصحاب دار النشر أنفسهم طالبوا إيقافها، فبيعها الضئيل (لا يفي بنفقات الإنتاج) (4)، وهكذا كثر خصوم طه حسين وأعداؤه الذين كالوا له اتهامات شتى غير تهمة الصهيونية، وكان في طليعتهم الملك فاروق نفسه الذي بلغ غضبه من طه حسين أن قال لمن حوله في إحدى المرات:(أنتم لا تعرفون خطورة هذا الرجل، إنه الرئيس السري للشيوعية في مصر، والحكومة نفسها لا تعرف ذلك، ولكن أنا أؤكد لكم أن المعلومات التي عندي تثبت أنه الرئيس الأعلى للشيوعية عندنا.)، (5) فإذا كان المصري صهيونياً إذا رأس تحرير مجلة أو صحيفة، أصحابها يهود، كما يرى الأستاذ النشاشيبي، فإنَّ هذا الرأي يمكن أن ينطبق على سائر مجالات الحياة في مصر في تلك الفترة، وإذن فكل مصري له علاقة عمل مع أحد أفراد الجالية اليهودية قبل العام 1948 الذين قد لا يكون قسم منهم صهاينة هو صهيوني، فمن من المصريين يبرأ إذن من إدانة الأستاذ النشاشيبي ؟ وأولى به في رأيه هذا أن يدين مرحلة ما قبل العام 1948 كلّها ليس في مصر فحسب، وإنما في العالم العربي كافة !! فهل هذا حق ؟ وندع الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل يرد على الأستاذ النشاشيبي: (ومن السخف أن يزعم أحد ـ كما يحلو للبعض الآن ـ أن الدكتور (طه حسين) كان يعمل لليهود، وإنما الصحيح، وهذا هو السياق التاريخي للحوادث، أنّ عميد الأدب العربي كان شريكاً في الاعتقاد، سواء كان الخلاف أو الاتفاق معه ـ بانتماء مصر إلى مجتمع البحر الأبيض المتوسط، وتلك هي رسالته في كتابه الهام عن مستقبل الثقافة المصرية .) (6) وليس من حاجة للسؤال : لماذا لم يحصل (طه حسين) على جائزة (نوبل) في تلك الأيام ؟ وكان في الوقت الذي ألقى فيه المحاضرة، أو ترأس فيه جريدة (المصري) بلغ ذروة الإبداع وشيوع الصيت والشهرة، وليس كما يزعم كاتب المقال أنّ قرّاء جريدة (الجمهورية) لم يسمعوا به، فروائعه ترجمت في ذلك الحين إلى أشهر لغات العالم الحيّة، وأنها ولجت بيسر إلى رحاب العالمية، وعلى ما أظن رشحته في وقت من الأوقات أعلى هيئة تنظيمية إقليمية هي جامعة الدول العربية لهذه الجائزة الخاضعة للنفوذ الصهيوني، ومع ذلك لم ينلها حتى ساد الاعتقاد أن الجائزة لا تمنح لعربي، أظن الإجابة معروفة لا تحتاج إلى إيضاح.أمّا زعم كاتب المقال أنّ طه حسين عاش فرنسياً بالنسبة إلى مصر، فلا أسوق للرد عليه إلاَّ دليلاً واحداً أحسبه كافياً . يقول : (طه حسين) الذي انتدبته الجامعة المصرية لحضور مؤتمر الآثار الدولي الذي انعقد في سوريا وفلسطين العام 1926 في تقريره المرفوع إلى الجامعة المصرية : (وقد لاحظت أَنَّ السوريين والفلسطينيين ينقصهم قبل كل شيء تعليم وطني، فهم مقسمون بين التعليم الفرنسي والتعليم التركي، وإذن يجب على مصر أن تنشر في هذه البلاد تعليمها الشرقي والعربي، وأن تنشئ فيها طائفة من المدارس الثانوية تعد الشبان السوريين والفلسطينيين لتلقي دروسهم العالية في جامعتنا المصرية، والسوريون والفلسطينيون أنفسهم يتمنون هذا .) ويقول في التقرير نفسه: (على كل حال فإني أتمنى أن أرى المدارس المصرية تنافس في سوريا وفلسطين مدارس الفرنسيين والإنجليز.) (7) إن وطنية (طه حسين) التي لا يرتاح إلها الكاتب، لا يستمدها من أحد، ولا يمنحها إياه أحد، وإنما يثبتها (طه حسين) بمواقفه من خلال منهجه في السلوك والممارسة والكتابة، فطه حسين منذ أن كان فتى، قاوم الاحتلال البريطاني لمصر، وحرّض الناس على التمرد والثورة، وطالب بالدستور شعراً ونثراً حتى اشتد ضغط الملك عليه بعد أن أخفق في استمالته إليه، فأقاله من وظيفته، ثم أخذ القصر عن طريق الوزارة السعدية الموالية للملك في تضييق الخناق عليه، ولا يخفى على أحد موقف طه حسين في دفاعه عن بلده مصر في أثناء تعرضه للعدوان الثلاثي، العام 1956، ولعل إفراط طه حسين الشديد في تعلقه بمصر، وتعصبه لها كان سبباً في اتهام الكثيرين له بالمغالاة وبالفرعونية التي ربما كان يدعو إليها في طور مبكر من حياته السياسية ثم ما لبث أن دعا فيما بعد إلى انضمام مصر إلى مجتمع البحر الأبيض المتوسط . أنا أقدّر دوافع الأستاذ ناصر الدين النشاشيبي في ارتيابه من عروبة العميد طه حسين حين زعم أَنَّ العميد (لم يكن عربياً ولا عروبياً أبداً)، لأنني أعرف أن العميد لم يكن ميّالاً إلى عروبة مصر في وقت من الأوقات، ولا مؤمناً بالوحدة العربية، ولم يكن داعية لها رغم إيمانه بأنَّ اللغة العربيةوالثقافةوالدين هي من أهم العناصرالأساسية في تكوين المجتمع المصري، وأعرف أنّه في وقت من الأوقات، عدّالدكتورطه حسين الفتح العربي الإسلامي لمصرغزواًلها، وأنّ العرب غزاة مثلهم في ذلك مثل الغزاة اليونانيين والرومان والفرس الذين غزوا مصر، وأعرف أن معركة حامية شهدتها صفحات مجلة (الرسالة) نشبت بينه وبين المفكرين العرب بين عامي 1938 – 1939. لاسيما بعد ظهور كتابه (مستقبل الثقافة في مصر)، وكان في مقدمة من تصدى له المفكر القومي الكبير أبو خلدون ساطع الحصري، أعرف هذا جيداً، كما يعرفه غيري أيضاً، ولكنني أعرف الجانب الآخر في طه حسين أيضاً، أعرف أنَّ العروبة بدأت تنمو في وعيه وفكره بعد نشوء جامعة الدول العربية في العام 1944، ومعروف أنه كان قبل ذلك من المدافعين عن اللغة العربية، ومن أوائل المتصدين للداعين إلى إحلال اللهجةالمصرية مكانها، وكاتب المقال نفسه أورد في ملخص المحاضرة المنسوبة إلى (طه حسين) أنه كان يثني على المدارس الإسرائيلية التي شرعت تعير العربية اهتماماً، ويحث يهود مصر على الإقبال على اللغة العربية، وعلى تذوق الأدب العربي، وطه حسين دعا فيما بعد إلى توحيد برامج التعليم في الأقطار العربية، وتسهيل التبادل الثقافي (واستحسن أن يكون هناك تعاون اقتصادي وحتى تحالف عسكري) (8) وقد تكرر دفاع طه حسين عن العرب في الثلاثينات في أكثر من موضع، فحين هاجم توفيق الحكيم العرب ردَّ عليه طه حسين مقارناً بين رأيه ورأي المستشرقين قائلاً:(وأحسبكم جميعاً تظلمون العرب ظلماً شديداً، وتقفون على أمرهم بغير الحق .) (9) وحاضر في عدة محافل دولية عن أثر الحضارة العربية الإسلامية في الشرق والغرب، وأكد في مؤتمر الأدباء العرب الذي عقد في مصر العام 1957 (أَننا متحدون مع العرب الآخرين بوسائل من أهمها اللغة والدين والثقافة والإيمان.) (10) وربما كانت الوحدة العربية في فكر طه حسين تعني الثقافة واللغة والدين ليس غير، بينما يرى العامل السياسي يحول دون تحقيق الوحدة العربية بين مصر وسائر الدول العربية. بيد أنَّ هذه الوحدة تنامت في فكره، وأخذت في مرحلة متأخرة تتعمق في وعيه، فإذا به يؤكد خلافاً لماضيه على عروبة مصر، وإذا به يتصدى للفئة الانفصالية التي فصلت سوريا عن مصر، وغَدَرت بأماني العرب، وروَّجتْ على الوحدة الأكاذيب، فيقول فيها : (فلتردد ألسنة الفئة الباغية ما شاءت من هذا السخف وأمثاله، فهي لن تضر مصر، ولن تضر المصريين في شيء، وهي لن تمسَّ عروبة المصريين قليلاً أو كثيراً، ولن تستطيع أن تنازع المصريين فضلهم على إحياء الحضارة العربية والتراث العربي، ولتطمئن هذه الفئة الباغية، فلن يتحول المصريون عن عروبتهم، ولن يقصروا في حماية العروبة وفي إحياء التراث العربي ونشره لينتفع منه القريب والبعيد، ولينتفع منه العربي وغيرالعربي، لأنَّ مصر لا تستطيع أن تغيرّ طبيعتها، ولأن تاريخ مصر قد فرض عليها واجباً مقدساً، تأبى أن تقصّر فيه مهما تكن الظروف، وهو أن تتعلم ما استطاعت إلى التعليم سبيلاً، وتنشر العلم من حولها ما وجدت إلى ذلك سبيلاً، ولا عليها أن تجحد فضلها في ذلك قلة قليلة من أعداء العروبة، ومن أعداء الشعب السوري نفسه، لاهي في العير، ولا في النفير .) (11) واستغرب كيف يجهل هذه المواقف المضيئة كلها في حياة ذلك الرجل من تزعم مجلة (سوراقيا) أنه أعرف الناس به ؟ولاشك عندي أن كاتب المقال يعرف هذه المواقف حق المعرفة إذا كان أعرف الناس به حقاً، ولكنه يتجاهلها لسبب يدفعه إلى هذا التجاهل، ويدفعه أيضاً إلى اتخاذ مواقف من طه حسين، ولا أظن السبب خافياً . فالأستاذ (النشاشيبي) نفط غضبه على (شرايبر) رئيس تحرير مجلة (الإكسبريس) الفرنسية لأن الأخيرتعمّد إلغاء موعد المقابلة معه يوم زار باريس في مهمة صحافية لتغطية أخبار (مؤتمر الأقطاب) العام 1960، حيث اعتبر كاتب المقال محاولة (الزميل) الصهيوني المسيو (شرايبر) إلغاء المقابلة معه تطاولاً على كرامته وعلى جريدة (الجمهورية) التي كان يرأس تحريرها بعد ما تبين للمسيو (شرايبر) أن كاتب المقال (مقدسي الأصول وفلسطيني الهوى...إلخ) رغم أن (الزميل) الصهيوني نفى هذا الكلام، ولما عاد (النشاشيبي) إلى القاهرة نشر القصة كاملة على صفحات الجمهورية، وسرد كل التفاصيل المتعلقة بموعده معه، وقد كذّبها (شرايبر) ثم لجأ إلى صديقه طه حسين الذي ناصره على الأستاذ النشاشيبي. فالذي دعا كاتب المقال إلى البحث عن علاقة طه حسين باليهود وبالحركة الصهيونية فيما يحسبه كاتب المقال، وقوف العميد إلى جانب (الزميل) الصهيوني، والصهيوني عند كاتب المقال (زميل).ويبدو أنَّ الأستاذ (النشاشيبي) أحسَّ قبل هذه المسألة بضآلة دوره أو بغيابه أمام شخصية طه حسين رئيس تحرير جريدة (الجمهورية)، وربما كان هذا الإحساس يستبد به، ويضايقه حتى إذا حدثت هذه المسألة فيما بعد تضاعف إحساسه بالضيق، فقرر، كما يقول الكاتب عن نفسه، الابتعاد(عن جريدة طه حسين)، فلو أنَّ هذا(الزميل) الصهيوني الذي كان الأستاذ النشاشيبي يسعى إلى مقابلته، استقبل كاتب المقال، ورحّب به لما كان الأستاذ شتمه، وربما ما اعتبره النشاشيبي صهيونياً، ولو أن طه حسين لم يناصر (شرايبر) عليه، كما تراءى له، لانتهى كل شيء على خير كما يقولون، ولما كانت هناك حاجة للبحث في هذه العلاقة، وربما كان لكاتب المقال في العميد، حينئذ رأي مخالف، ومن يدري ؟ فربما كان أثنى وقتئذ على محاضرته في الإسكندرية لو عثر عليها مصادفة من غير بحث، فالنشاشيبي في بحثه عن علاقة طه حسين باليهود وبالحركة الصهيونية لم يكن دافعه إلى ذلك، إذن، نشدان الحقيقة أو تحرّي الموضوعية بقدر ما كان الانتقام ورد الاعتبار، وهذا الدافع هو الذي لوّن ذكريات كاتب المقال عن هذا العميد، فهو يعرض العميد علينا في حال تدعو إلى الإشفاق عليه، وأحياناً السخرية منه ذلك أنَّ الوقائع التي سردها الكاتب عن طه حسين كانت إهانة لشخصه، ونيلاً من مكانته، أو هي كما يقول طه حسين نفسه: ( تهريج كالتجريح، أو ضحك كالبكاء أو تمثيل كضرب السياط) وأسرة جريدة (الجمهورية) كما يصوّرها كاتب المقال، وهو أحد أعضائها كانت تقابل توجيهات طه حسين الرامية إلى الارتقاء بإسلوب الجريدة لتجنيبها منزلقات الهبوط بالرفض والتهكم والضحك، وكاتب المقال يقول: (ولم يعنيني أمر الإشارة إلى نصائحه إلى جلسات التحرير.)، ولكنه أبرز لنا من حيث لا يقصد في تموجات سياق ذكرياته عن طه حسين جانباً إنسانياً في حياته، فهو إنسان متسامح مع خصومه، ومع من اختلفوا معه، أوأساؤوا إليه، وينسى الإساءة، أو يتعالى عليها، ويعود المرضى من أولئك وهؤلاء، ويلحّ في السؤال عن صحتهم إلحاحاً يسبب له عنتاً وفظاظة من بعضهم، وليت صحافينا الكبير جارى هذا الجانب الإنساني في طه حسين، فاستجاب لمن طلبوا منه زيارة العميد في فترة مرضه بدلاً من أن يصد عنه، ولكنه يقول:(ولم أزره في منزله كما طلبوا مني، ولم أسأل عنه في فترات مرضه .) ليته فعل ذلك، إذن لكان كبيراً في أعيننا كبر طه حسين في عيون من عرفوه معرفة حقة. إنَّ ذكريات كاتب المقال عن طه حسين بدت في مرآته شاحبة قاتمة، لا تليق بمكانة هذا الرجل العظيم، وآية ذلك أنَّ مرآته لم تكن صافية نقية، فصاحبهاالأستاذ استحكمت به الاعتبارات الشخصية المدفوعة بعقد الحقد والكراهيةعمن يتحدّث عنه، فلم يستطع أن يربأ بنفسه عنها، أو يتحرر منها حيث حرفته عن الإنصاف والموضوعية، وأنا لا أريد أن أظلم الأستاذ النشاشيبي، كما ظلم هو، فيما أظن، طه حسين، فهو اعترف بذلك صراحة بقوله : (الزميل الذي لا أحب)، وبقوله أيضاً: (وتبادلنا الكراهية بكل رضى وتصميم)، ثم تمادى بكرهه له، وحقده عليه إلى حد التشفي بعاهته:(وقد غضب الله على طه حسين، وجعله حبيس منزله، وحبيس العقد النفسية بداخله) فإذا كان هذا موقف كاتب المقال ممن يتحدث عنه، فكيف يطمئن القارئ إلى إنصافه له ؟ بل كيف يطمئن إلى صحة ما يرويه عنه ؟ وإذن من حق القارئ أن يتحفظ في قبول كل رواية أو سرد ذكريات ورد في مقال الكاتب يسيء إلى هذا الرجل الكبير الذي كان باعتراف من عرفه أو قرأ له : (أسطع ضوء للفكر العربي في القرن العشرين، والمنارة المضيئة في الشرق.)، ولكم تمنيت لو أن كاتب المقال جابه طه حسين حياً بالوجه الصهيوني بدلاً من خلعه عليه بعد رحيله، وليس عندي من تفسير لذلك سوى أنهَّ لم يكن يجرؤ على مواجهته لافتقاره إلى الدليل، ولو توافر لديه ما رحمه، وإلاَّ فلماذا آثرالابتعاد عما أسماه بـ (جريدة طه حسين)، وكان أولى به أن يسخرّ قلمه الذي خذله في مواجهة طه حسين يوم كان حّياً لتعرية دعاة التطبيع اليوم على حقيقتهم الذين ما فتأَت أقلامهم المسعورة تروّج للمشروع الصهيوني من خلال تبشيرها بالنظام الشرق أوسطي المشبوه، والأدلة لديه عن هؤلاء موفورة لا تحصى، ولا تحتاج إلى بحث أو تنقيب، فأين قلمه من هؤلاء ؟ وأين قلمه من المهرولين إلى الاستسلام ؟ أليس كاتب المقال( مقدسي الأصول، وفلسطيني الهوى، وعربي الميول، وقومي النزعة، وصميمي المبدأ .) ؟ ليس التجني على الناس بعد رحيلهم شجاعة، ولكن الشجاعة في مواجهتهم، وهم أحياء .

المراجع والمصادر:

(1) - مجلة (سوراقيا) اللبنانية - عدد (7 . 6) الاثنين 17 نيسان 1995- السنة الثانية عشرة (الوجه الآخر لطه حسين – النشاشيبي) ص 13.

(2) - (المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل) محمد حسنين هيكل – الكتاب الأول – دار الشروق اللبنانية – الطبعة الرابعة - (الحاخام حاييم ناحوم) .

(3) طه حسين والسياسة - مصطفى عبد الغني - دار المستقبل العربي- الطبعة الأولى - العام1986- ص 174.

(4) - المصدر نفسه – ص174.

(5) - المصدر نفسه – ص 175 من كتاب محمد حسين هيكل – جـ 2- ص 288 .

(6) - (المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل) محمد حسنين هيكل - الكتاب الأول - دار الشروق اللبنانية - الطبعة الرابعة – ص161.

(7) - مجلة (العربي) الكويتية – عدد (441) - آب1995-(طه حسين وأوراقه المجهولة) - الأستاذ نبيل فرج .

(8) - طه حسين والسياسة – مصطفى عبد الغني – دار المستقبل العربي – القاهرة – الطبعة الأولى – ص 215 .

(9) - مجلة الرسالة – 15/6/1933 .

(10) - طه حسين والسياسة – مصطفى عبد الغني – دار المستقبل العربي – القاهرة – الطبعة الأولى – ص 217

(11) – كتاب (كلمات) – الدكتور طه حسين – (دار العلم للملايين) اللبنانية – طبعة ثانية 1977- (بين العروبة والفرعونية) .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى