الاثنين ٢١ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم أحمد الخميسي

تحرير الانتصار اللبناني من الكذب القادم

أكتب وقد صدر بالأمس ، بعد شهر من بدء الحرب، قرار مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل . والمفروض نظريا أن تتوقف الحرب ، أو أن تستمر لأسبوع آخر لحين نشر الجيش اللبناني أو قوات دولية على الحدود . وقد جرت العادة ، بعد كل وقف لإطلاق النار ، أن يبدأ إطلاق الأفكار ، للتهوين من هزيمة طرف ، أو التضخيم في انتصار طرف ، أو تصوير الهزيمة باعتبارها فوزا كبيرا . وفي وقت ما ، عندما انحسرت ثورة البطل أحمد عرابي ، بدأ إطلاق الأفكار المكثف ، وتم تصوير الثورة العظيمة التي أنارت الشرق كله باعتبارها مجرد " هوجة " جلبت على مصر الاحتلال . ولزمن طويل خسر الوعي ، ما كسبته الثورة . والآن سيتعين على المقاومة اللبنانية بعد أن تسكت المدافع أن تخوض معركتها الثانية الأخطر شأنا من أجل نشر وعي محدد في اتجاه ترسيخ مبدأ المقاومة ، في مواجهة حملات فكرية وإعلامية ستظل تنعق كما فعلت خلال الحرب وقبلها بأن الكفاح ضد الاستعمار أمر مستحيل عديم الجدوى وستظل ترى فقط خسائر لبنان وتذرف عليه دموع التماسيح . باختصار سيكون على المقاومة أن تستخلص النصر وأن تبلور دروسه وأن تقدمه باعتباره إنجاز المقاومة ، وأنه لا إنجاز سوى بالمقاومة . على الجانب الآخر ، سيتدفق طوفان الأكاذيب ، الذي لا يقرأ حتى ما تكتبه الصحف العبرية عن هزيمة إسرائيل ، وسيتقنع الطوفان بالحديث عن الخسائر ، وكأن هناك حرية أو كرامة ملقاة على قارعة الطرق مجانا بلا ثمن . وسيتضاعف العبء الملقى على المقاومة لتوضيح أبعاد الانتصار ، لأن الحرب تنتهي في ظل حالة من التوازن ، بين حجم ما دمرته إسرائيل ، وحجم صمود المقاومة . إلا أن هذا التوازن الظاهر يخفي في حقيقة الأمر أكبر هزيمة حلت بإسرائيل منذ دخولها إلي المنطقة ، وهي هزيمة تأتي في لحظة الذروة من الانتصارات الإسرائيلية ، وفي عز القوة العسكرية ، وقد أصبحت إسرائيل قاب قوسين أو أدنى من تحويل أوهام الدولة الاستيطانية إلي حقيقة .

لم تستطع إسرائيل أن تحقق شيئا من أهداف الحرب ، لا استعادة الجنديين ، ولا تدمير قوة حزب الله ، ولا نزع سلاحه ، ولا تحطيم الوحدة الوطنية اللبنانية ، وكانت خسائرها فادحة على كافة المستويات باعتراف كل الصحف الإسرائيلية التي تطالب حكومة أولمرت النازية بالاستقالة ، وأخذت تل أبيب تراجع حصاد الفشل العسكري والسياسي الذريع الذي منيت به . أما المقاومة اللبنانية جنبا إلي جنب مع المقاومة العراقية والفلسطينية ، فإنها رسخت مبدأ المقاومة الشعبية ، ووسعت رقعته ، وأثبتت للعرب كافة أن بوسع المقاومة أن تحقق الكثير ، وبهذا نقلت المعركة تاريخيا من الجيوش النظامية إلي الشعب ، وأكدت خلال ذلك أن القيادة العسكرية والسياسية الحكيمة والبطلة يمكن أن تقود حربا مذهلة ومفرحة كتلك التي خاضتها المقاومة بشهدائها وأبنائها وكتابها ومثقفيها . لم تستطع المقاومة اللبنانية بطبيعة الحال أن توجه ضربة قاصمة للكيان الصهيوني ، لكنها الآن قد أعدت التربة وهيأتها لمثل ذلك ، وسوف يتدافع نحو المقاومة الآن ألوف وألوف من الذين كانوا ينتظرون لحظة كتلك . إن " كومونة باريس" لم تكن سوى بروفة تاريخية كبيرة لأحداث لاحقة ، ولم تكن ثورة 1905 في روسيا سوى جسرا نحو ثورة 1917 ، ولم تكن ثورة أحمد عرابي سوى جسر عبر عليه لاحقا مصطفى كامل ، وعبرت فوقه ثورة 1919 ، ولم يكن تاريخ مصر كله قبل ثورة يوليو سوى تحضير للثورة . إن المراحل الانتقالية لا تحصد نصرا واضحا ، لكنها فقط تراكم النصر ، وتمهد التربة له ، وما جرى في لبنان ، هو انتصار بكل معنى الكلمة ، انتصار شق طريقا آخر مختلفا وجديدا للتحرير ، ولمناهضة الاستعمار والصهيونية ، وأخشى ما تخشاه إسرائيل ، هو العلامة التي وضعتها المقاومة عند مفترق الطرق ، العلامة التي تشير إلي طريق المقاومة باعتبارها الخيار الحقيقي . هذه العلامة المعلقة هي التي أُثارت رعب إسرائيل ، التي ترى بعينيها أن هناك علامات أخرى مشابهة في العراق ، وفي فلسطين ، تقول كلها إن الناس قد أداروا ظهورهم نهائيا للاستسلام ، وأنهم بعد ذلك قد وجدوا أداة فعالة ، يمضون بها إلي الأمام .

معركة المقاومة اللبنانية القادمة ستكون لكسب الوعي بالانتصار ، وهي معركة شرسة ، ستكون أعنف من البطولة التي أظهرتها في الدفاع عن بلادها ، وعن حرية وكرامة كل مواطن عربي ، أرغمته الظروف أن يكون شاهدا مكتوف اليدين لخمسين عاما على جريمة بعلم ونشيد .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى