الأربعاء ٢٣ حزيران (يونيو) ٢٠٢١
بقلم عبد الجبار الحمدي

تراجي سعدية

لم اتعرف على حميد إلا من خلال الخدمة العسكرية التي التحقت بها في بغداد، كانت الحرب قد ضَرست رحيها وأخذت تطحن وهي تحت يد القدر آكلة أعمار الشباب.. فلم يهرب من تحت أتونها حبة حنطة او حبة شعير... حميد شاب من أهوار الناصريه، حقيقة عندما تعرفت عليه جذبتني لهجته او ما تسمى بالحسجة المتميزة وطيب سريرته وعفويته في الحديث ربما لأني من أهل بغداد وانتمي الى عائلة ثرية استطعمتها، كنت قد تخرجت من كلية الهندسة ولابد لي من الخدمة فهذا واجب لا مفر منه.. عموما ما أن وقعت أذني على صوته حتى شعرت بإنجذاب لا إرادي له، كان أمامي عندما سال عن وحدته قائلا: سيدي أريد أعرف وين مكان الوحدة مالتي.. رفع رأسه العريف وقال: الوحدة مالتك لو مال الخلفك هههههههههه، لم يجبه بل انتظر حتى اخبره عن مكانها، كنت ايضا منتسب الى نفس الوحدة فلم أسأل عنها... تقربت منه لا أعرف ما السبب لكن شعرت أنه قريب إلى نفسي، شاركنا في اكثر من هجوم ومعركة، في كل مرة اجده بطيبته وإيمانه وشجاعته يدفع بنفسة للذود عني ويقول: انت مو مال قتال، اضحك ولم ارد عليه.. حتى في تلك الليلة التي شعرت أن حميد ينتمي الى عالم آخر..

فاقتربت منه وسألته... تردد في بداية الأمر لكن وبعد زفير ضج حتى في وجهي من حسرته التي نفخها فقال: ( خويه أحمد أنا أحب ومن زمان بنيه من مراحب أهلنا بالاهوار من اشوفها احس الدنيا كله ماهية بس انا وياها، شطبة ريحان، ومرات احسها عود كصب وسط الماي من يتمايل، ومن تحجي صوته مثل صوت الناي احس بيه حزن بس حزن حلو ما أدري ليش!؟ تعرفت عليها قبل ما التحق بشهور، شفته الصبح وهي تريد تخبز.. جَنَّيت يا خوية يا احمد، مدري شنو خلاني اتيه دربي، بيها جنت راكب بالشختورة مالتنا من يم جباشتهم وصدت عيني بعينها وهي تذب بشيلتها على جتافاتها بعيد عن نار التنور تريد تطرح الخبزة.. شلون اوصفلك اللي حسيتها ما ادري؟!! خذت روحي وياها، تخبز وريحة الخبز جرتني يمها.. وكفت الشختورة، نزلت مثل التايه بدنيا غير الدنيا، صبحت عليها انا اعرف اهلها وبيناتنة مضيف وسلام بس مو ثخين، جفلت من شافتني مثل المهرة وصاحت، شتريد منو انت؟ رأسا جاوبتها انا حميد بن سيد عباس جيرانكم.. هناك جباشتنا مو بعيدين عنكم.. ردت بضيج وشتريد من الصبح؟ جاوبته انا جوعان واريد خبزة إذا ما تصير زحمة... ضحكت بعد ما شافتني مثل التايه بدنياه وما اعرف شنو احجي.. كالت لحظة انتظر.. انتظر العمر كلها كلت إلها بقلبي بس اشوف طولك واشوف وجه الشمس اللي شايلته.. اجت وبيدها طاسة حليب وخبزة.. احمد يمكن انا تخبلت بذيج اللحظة وانسطرت بعد ما صارت قريبة مني وشميت ريحتها.. احمد يا خوي والله تسودنت من اخذت الطاسة ولحت اصابعها.. شايف الكهرباء من تنتل الواحد حيل هالشكل صار بيه وحتى هي صاحت يما شنو هاي انتلت... من ذيج اللحظة صرت مخبل سعدية... أي احمد أسمها سعدية.. مرت أيام عليّ بس الله يعرف شلون جنت انام... وصل بيه الامر إني كلت لأمي عليها, يما أنا أني اريدها مَرَة إليه... صفنت هواي وكالت: يمه حميد هاي البنية بنية عز واهلها أهل خير وأحنا ناس على كد حالنا وابوها واخوانها ما ينطوها لأي واحد... ما عجبني كلام امي وكلت إلها.. أنا ما أعرف اريدها وخلي ابوي يحجي ويه ابوها... وإلا أنهبها وأهج، انا احب سعدية وسعدية تحبني وصار إلنا مدة نلتقي سوه، احجي وياها وأسولف بس شاهد الله يمه ما بيني وبينه بس رفيف القلب وحجايات بس الله يدري بيها، فد مرة وحدة جست ايدها من رادت اتطيح من صعدت الشختورة... يما الدنيا كلها سعدية وانا ترى راح التحق وما ادري شلون حالي يصير، أتمنى اسمع خبر حلو منكم...

أحمد: في تلك اللحظة حميد تألق عشقا، كنت استمع له والى عذوبة كلامه وهو ينساب مثل صوت الناي حزين الى حد اني بكيت على وضعيته، فقررت في داخلي ان اكون له العون والسند ماديا ومعنويا.. بعدها صرحت له بذلك فقال لي: أحمد خويه أنا راح انزل بعد يومين وبنزلتي راح اخلي ابوي يخطبها إلي ادعيلي يم ابو الجوادين ابو طلبة، أدري انت هم نازل لأهلك بلكت يستجاب دعاك عدهم، وانا هم راح ازوره وهذا اول شيء اسوية من اطلع منا كبل بوجهي لسيدي ومولاي موسى الكاظم وسيدي محمد الجواد عليهما السلام.. اريد ابجي يم شباجة واطلب منه يسهل امري ويحنن قلب ابوها عليه... ويخليها من قسمتي
ذهب حميد الى الناصريه كانت اجازته اسبوع كنت قد دعوت له اقسم اني فعلت وذكرته عند الامامين عندما نزلت في اجازتي بعده بيوم، وحين رجعت جلبت معي بعض من المال كي اساهم بخطبته لقد كان أخي الذي لم تلده أمي... أنقضى الأسبوع لكن حميد لم يعد، شعرت بالخوف ولعل أمر ما حدث او أن والدها احس بالعلاقة فقتله او قتلها فذلك عُرف سائد بين العشائر، فالعرض لا يمكن ان الأستهانة بأمره... خمسة ايام متتالية وأنا اتلظى على الجمر رغم اني شاركت في معركة ورغم الخطورة لم اكن افكر في حماية نفسي بقدر ما افكر بحميد وسعدية... كدت أجن، بعد المعركة ذهبت لاسأل أصدقائنا في الوحدة عن حميد، أغلبهم من الناصريه او البصرة او العمارة لكن لم يكن لدى احد منهم خبرا عنه برغم ان البعض يعرفونه لكن لا يعرفون بقصة حبه مع سعدية... كنت الوحيد الذي يعرف، في اليوم العاشر جاء حميد نادما وقد رأيته فلم اتعرف عليه، كان وجهه مخضرا كأن آفة قد أكلت نضارة وجهه واحساسه وشعوره بالحياة، تصورته جثة هامدة وقد سُل تماما صار جلدا على عظم، تجمع الاصدقاء عليه واستغربوا حاله!!! الجميع ادرك ان أحد من اهله قد مات فلحيته طويلة وشكله مخيف، لم يكثر بالكلام قال بعد الإلحاح عليه... لا ماكو شي تمرضت و وصلت الموت بس ما متت، الظاهر إلي عمر بالدنيا الجايفة هاي... احس البعض وأنا منهم بأنه لا يريد ان يخبرنا عن السبب فأكتفينا بذلك، كان لزاما عليه ان يسجن ا الحرب والمعارك اجلت كل ذلك... تركته ليلتها بعد ان قام بحلاقة ذقنه واستحم مجبرا.. ثم خرج الى باحة المكان واخذ يدخن وانا اتطلع إليه، شغل فكري كثيرا، لم تمضي ساعة وإذا به قد سحق علبتين من السجار فجننت!!! نهضت إليه قائلا له: حميد أنا اخوك لو لا...

نظر لي وقد نزلت الدموع من عينيه بسرعة، لم يستطع ان يمسك بها أو يمسحها، رمى بنفسه على كتفي وهو ينحب خوية احمد راحت سعدية... راحت شطبة الريحان اللي احبها، رفض ابوها ينطينياها... وجع قلبي ما اكدر عليه، هي هم طاحت ولولا امها جان كتلوها، عرف أبوها بينا بعد ما طاحت بأن اكو بينها وبيني علاقة... لكن بعد ما تدخلت الام ونفت بإن ماكو شيء انطوها لأبن عمها... سمعت أنا وتسودنت يا خويه أحمد، عمري ما حبيت ولا عرفت الحب إلا من شوية قصص وكلام شباب من نسهر ونتسامر، الوجع قوي كتلني دمرني... ما ادري؟! وما أعرف شنو اسوي؟ انا ما اريد ارجع، فكرت هواي وشفت انسب طريقة ألتحق بلكت اموت بالجبهة هنا وأخلص وقررت بعد ما ارجع لأهلي ابد...

راح يبكي حميد بحرقة ويردد بأبو ذيات الجميلة التي اعشقها وأحب ان اسمعها منه... فردد بيتا يقول ( وسعة.. أريد أمشي بنهار الكيظ وأسعى... على ام نهد الجبير وعين وسعة... يا حافر لا تضيك الكبر وسعة... أخاف تصير موتتنا سوية..

أغمي على حميد، سقطت من يده حاجة عرفت بعدها بأنها تراجي كان يمسك بها.. تلقفتها وحملته الى سريره.. جاء العريف فرأى حاله رق له، لعلها المرة الاولى التي أراه يرق على احد... فأمرني بأن انقله للمشفى لتلقي العلاج ومن ثم العودة... سارعت بذلك مع بعض من الاصدقاء..

فتح عينه واخذ يبحث بجنون عما كان يمسك به.. اراد ان يسألني فناولته التراجي قائلا له: اتبحث عن هذه.. هز رأسه وهو يقول: اشتريتهن من الكاظم هدية لسعدية، ردت افرحها وافرح روحي، لكن القدر اراد ان يكتلني مرتين مرة من اخذها مني بالقوة، ومرة من هزمني حظي.. احمد بهاي اللحظة أنا اشوفن عزرائيل واكف يريد ياخذني وياه...

ضحكت وقلت له: حميد انت تخبلت، ترى لا انت اول واحد يحب ويخسر حبيبته ولا اخر واحد.. صدكني إلك سهم بهذه الدنيا وتكون غيرها من نصيبك.. بس شد حيلك انت وراح اخليك يمي تعيش وياي هنا ببغداد الى الابد تدري شكد أحبك مثل اخوي واكثر...

تطلع لي بعد ان ملئت الدموع عينيه وقال بصوت ضعيف.. احمد خلي التراجي وياي يدفنونهن بعد سعدية ما اريد الحياة.. لم يسعني الموت ان امسك به كي يتعلق بالحياة، كان قبض روحه اسرع من نزول دموعه.. فاضت روح حميد وفاضت لعناتي على القدر وتلك المسميات التي تقتل بسبب عادات وتقاليد، لم تتغير رغم تغير العالم والتطور... الى اللقاء حبيبي واخي حميد، أعذرني لأني لم اكن الى جانبك بوجعك يتولاك الله برحمته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى