الثلاثاء ٣٠ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
بقلم بسام الطعان

تركتك لنكهة الأسرة

الحياة إن أردنا كانت ساحة حرب ضروس ، لها بداية وليس لها نهاية , وإن أردنا كانت ساحة سلام ، تأتيها الرياح والعواصـف ، فتحولها إلى نسائم صـيف ، الحياة مواقف.. في موقف من مواقف الحياة، كان لقاؤنا السابع عشر ، فبعد أن رسمتك على أوراق الليل والنهار، ودونتك على صفحات الانتظار، ركبت سيارتي وجئت إلى هيكل الغرام الذي صنعناه بالقرب من تخوم الأسـرة، جئت كما تأتي الطيور إلى الغدير، وكانت ثمة شــمس تحتجب خلف الغيوم الداكنة، وعشـرات الطيور المشتاقة مثلي، تحلق في الفضاء، وتمارس هواية العشق والصعود والهبوط.

جلست على رابية الصمت ، تحت الرعد والبرق ، أنتظر طلعتك البهية، أتسلى بالنظر إلى الطيور السـعيدة، وأحس بأنني تحت شمس ربيعية بديعة، غابت الطيور وتركتني مع وحدتي، فأشعلت لفافة وأنا انتظر منك شروقا يبدد عتمة الروح ، وبقيت انتظر وانتظر حتى عانقت مجيئك بكل أفراحي ، ولم أسألك عن سبب التأخير، وإنما قلت:

 أخبرتني الطيور أنك قادمة لا ريب.

ثم حكيت لك ظلام الروح التواقة لنور روحك ، كلمتك عن نار تستعر تحت الضلوع، لكنك اخترعت أبجدية للصمت وبقيت شاحبة كالظلال، ومتعبة مثل حمامة عطشى أمامها الغدير ولا تشرب منه.

رأيت بللا في عينيك، ورأيت خرائط الحزن مرسومة بوضوح على وجهك وتسريحة شعرك، ففتحت ثغرة في جدران صمتك، سألتك عن سـبب انكساراتك وعن الأسرة التي لا تريد أن تتغير.

وقفت على عتبات اليأس والظلام في صحراء لا واحة فيها ، ومع الدمـوع حكيت عن الجمال الذي اغتيل في عينيك ، وعن نفسك المصلوبة تحت شمس حارقة وتأبى الأفول.

لم أفهم قصدك غير أنني نبئتك: الحياة جميلة بوجودك. ثم سلمتك رسالة شفهية موجهة للأسرة ، وقلت عندما تسمعها ستشتد روابط التفاهم وستنطفئ نار الخلافات بين أسرتينا, لكنك أتيت برسالة ثقيلة السمع، وتزيد الشقاق والتنافر، قلت هذه رسالة الأسرة فأنا أعرف معدنها، وأعرف كلامها الذي له لون الدم ، عندئذ فتحـت لك أبوابا تؤدي إلى مدن كلها طيبة وتـُرفع في سمائها رايات الحب والعطف، لكنك امتهنت الفلسفة وأنت تنظرين إلى البعيد:

 الحياة ظلم وقهر وهراء وفناء في فناء.

فلسفتك لم تشفني, فقدمت لك مشروع خلاص من الظلم:

 تعالي معي الآن إلى بيتي العــطوف، فهو الملجأ الأمين والملاذ، وغداً نتزوج وليكن ما يكون.

نظرت إليَّ طويلا, ثم قلت بصوت متعب، خال من أي تعبير:

 كيف السبيل والقتل مهنة الأسرة؟

وقمت من مكانك ، مخلفة وراءك وفي نفسي حسرة لا تزول، استدرت إلى الوراء وخطوت خطوات باكية ، فلحقت بك قبل أن تبتعدي، أمسكت بأصابعك العشـرة , ضغطت عليها بقوة وحنان وحاولت أن ابعد عنك أشباح الخوف.

 دعني اذهب قبل أن ترانا الأسرة.

قلت بصوت باك، ثم أردفت وأنت تزرعين نظـراتك في حدقتي عينيَّ:

 احترس منها فهي تضمر لك الشكر.

الأسرة.. يا لها من أسرة , تحدثت عنها وكأنها حيوان خرافي ، تملكني غضب مفاجئ، فارت الدماء في عروقي، وفي لحظة مكثفة، صـعدت فوق الصـخرة الكبيرة التي طالما أخفتنا عن العيون الشرسة، وقلت بأعلى صوتي:

 أين هي هذه الأسرة؟ فتأتي إليَّ وتأخذك مني إن استطاعت.

وعلى غير توقع، تحولت إلى مقاتل شــرس ومدجج بالغضب ولا يجد أمامه غريما له، واشــــــتعل جمر التحدي في داخلي، وارتفعت صيحاتي الهدارة، أما أنت فطوقتك دوائر الدهشة ، لطمت خديك بهدوء وبكيت، فطارت من خديك وعينيك عصـافير الخوف إلى أفق بلا حدود.

وصل صوتي إلى مسامع الأسرة، فهجمت علينا هي واقاربها مثل قطعان من الذؤبان الجائعة وهي تتباهى بمسدساتها وسكاكينها وسياطها وكلماتها الجارحة ، لم أتزحزح من مكاني ونظرت إليها نظرات كلها تحد ، فإذا بي أرى أمامي أسرة لها نكهة ضفة نهر مليء بالطمي والروائــح الكريهة، ولكن لا ادري لماذا غيرت رأيي واستبدلت الحرب بالسلام ، قابلت الأسرة بابتسامة تنور الدورب، وقابلت مسـدساتها بورود تنثر من حولـها الأضواء والعبير ، وسكاكينها بألحان الناي وإيقاع الحب الصافي, وسياطها بقبلة الانداء للزهور , وكلماتها بكلمات عذبة المعاني ، لكنها سخرت مني وهددتني بالفناء في الحال.

أنصح كل جبان أن يصعد إلى قمة جبل ويرمي بنفسه بين الصخور، لا لا، الجبان لا يسـتطيع فعل ذلك لأنه جبان ، وإنما يستطيع أن يخفض رأســـــــه دائما ويتراجع كلما واجه مشـــكلة ما، ولأنني لم أنتم في يوم من الأيام إلى الجبن، شمرت عن ســـــاعديَّ، وسخرت من الأسرة ومن الذي أسـسها، وكانت سخريتي اكبر بكثير من سخريتها ، وكان جسدي مكبلاً بفولاذ التحدي ، نطقت باسمك وتقدمت ، وتقدمت روحي العاشـقة لروحك قبلي ، قاتلتها بيدين فارغتين وأنا استحثك أن تصعدي إلى السيارة كي آخذك إلى بيتي ريثما انتهي، وكنت مع كل ضــربة أتباهى بحبي لك , فهو أقوى سلاح في وجه الطغيان الذي لم يجربه ، ناديتك مرات ومرات وأنا في ساحة الحرب، لكنك كنت تنظرين وتدعين البكاء، وبقيت الأولى في الخـوف، ولم تقولي لا في وجه من أراد اغتيال قلبين بريئين ، فأي موقف هذا وأنت قلت لي مرة ونحن نقف على قمـة حلم ونرسم مروجا للفرح:

 أعاهدك على أن املأ قلبك فرحا منقطع النظير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى