الأحد ٢٤ أيار (مايو) ٢٠٠٩
خدمات ما بعد البيع
بقلم يسري عبد الله

تعرية السياق العالمي والقبض على اللحظة الراهنة

ثمة محاولة إبداعية في المجموعة القصصية(خدمات ما بعد البيع) للقاص المصري (شريف عبدالمجيد) للقبض على اللحظة الراهنة، بتحولاتها المختلفة، وتعقداتها المتشابكة، وإيقاعاتها المتسارعة عبر مسارات متنوعة، مشيرة في ذلك إلى حالة التداعي القيمي والروحي الحادثة في العالم، وإلى هذا الاستلاب بشقيه المادي والمعنوي من جراء هيمنة الشركات العابرة للقارات، والتوحش الرأسمالي المسيطر على مقدرات الأمور، لتشكل (خدمات ما بعد البيع) موقفها الرؤيوي الخاص،دونما أن تنسى في غمار ذلك كله حيلها التقنية البارعة وآلياتها الفنية المستخدمة بوعي ودربة شديدين.

ثمة نجاعة في العنوان الخاص بالمجموعة، حيث يحاول من خلاله الكاتب أن يقبض على الراهن المعيش، متعاطياً معه بأشكال مختلفة هي ذاتها المسببة للتنوعات السردية التي تحتشد بها المجموعة.والتي صنعت زخما تقنيا ورؤيويا دالا داخلها.

يصدر القاص مجموعته بمقولة ماركيز: "أي سر هو هذا الذي يجعل مجرد الرغبة في رواية القصص تتحول إلى هوى يمكن لكائن بشري أن يموت من أجله، أن يموت جوعاً أو برداً أو من أي شئ آخر لمجرد عمل هذا الشئ الذي لا يمكن رؤيته أو لمسه"، غير أن الكاتب المسكون بنصه القصصي قد فعلها.

يقسم الكاتب مجموعته تقسيما دالا،يتمثل في قسمين مركزيين: أحدهما "هزائم صغيرة" ويحوي ست قصص، والثاني "خدمات ما بعد البيع" ويحوي تسع قصص. في القسم الاول المعنون بـ"هزائم صغيرة" تبدو تلك الهزائم/الخيبات بمثابة الإشارة إلى عالم مفلس يحوي قدراً كبيراً من القسوة والشراسة لا مثيل لهما، فالإنسان/الفرد يجابه مزيدا من الهزائم/ الإخفاقات التي يتلقاها جراء محاولته الإفلات من أسر المواضعات التقليدية التي تتحكم في مجتمعه من جهة، والسياقات العالمية التي تحاول الهيمنة على حياته وحيوات "ناسه" الذين يعيش معهم من جهة ثانية.

وفي القسم الثاني المعنون بـ"خدمات ما بعد البيع" – والمأخوذ منه عنوان المجموعة- نرى رصدا للتحولات الراهنة، ومحاولة لفهم هذا العالم الموار بالتغيرات المنفتحة على آفاق أكثر تعقدا وتشابكا.

في القصة الأولى "حكاية الرجل الذي كلم السمكة" يبدو في العنوان دالان بارزان "الرجل/ السمكة" وبينهما فعل سردي منتج "كلم" لتتشكل علاقة وثيقة بين هذين الدالين عبر الفعل السردي المنتج، خاصة حين قسم الكاتب قصته إلى ثلاثة مقاطع: (الرجل- السمكة- الرجل والسمكة)، صانعاً تقليباً للأمر على وجوهه الثلاثة، لينتظم خيط سردي بين هذه المقاطع التي بدت منفصلة، غير أنها تتصل اتصالاً وثيقاً، فالمهندس المصري(محمد بيه) ابن البرجوازية الذي خانها، تحول إلى سمكة كبيرة تكاد أن تلتهم الآخرين من الأسماك الصغيرة/ البسطاء، لنصبح أمام نص مسكون بالواقع، ينتهي مقطعه الأول بمفارقة دالة حيث يتذكر (محمد بيه)، الرئيس (عبد الناصر) حينما يدخل إلى (مدينة نصر)،غير أنها قد أضحت الآن علامة على التشوة الاجتماعي، وصعود طبقات جديدة:"وكلما عاد إلى مدينة نصر تذكر عبدالناصر وكيف تحولت المدينة التي تحمل اسمه رمزا لمدينة الحيتان وأسماك القرش وأصحاب الملايين"(ص 12)، وفي المقطع الثاني "السمكة" تتجمع الأسماك الصغيرة حول السمكة (العارفة) في إشارة لإمكانية التوحد ضد التوحش الرأسمالي الذي يجتاح العالم، وفي "الرجل/السمكة" نرى عوداً على بدء، فالشخصية المركزية (محمد) تصبح في مواجهة السمكة الخبيرة التي تستطيع الإفلات من السنارة رغم انغراس السن وغواية الطعم بالنسبة لها، لتتخلق إشارة دالة لإمكانية المروق من أسر الراهن المعيش بكل قسوته وجبروته.

في قصة "غريب في المطعم الهندي" ثمة إدانة لثقافة القمع والتلصص والتعامل مع المصريين كمواطنين من الدرجة الثانية في بلاد الغربة، ويشكل الحوار هنا البعد المركزي من أبعاد الرؤية السردية، وقد جاء طبيعيا بلا افتعال:

"-كانوا يظنون إنك تعرف إن هذا المطعم مخصص فقط للهنود.
  لكني لم أر ما يدل على ذلك.
  و لكنهم يكتبون ذلك في مدخل المطعم على لافتة كبيرة باللغة الهندية.
  و لكني لا أعرف سوى العربية.
  ذلك ليس خطأهم بالتأكيد".

في "دور البطولة" تمثل المفارقة متكأ لهذه القصة التي تنتهي بجملة مدهشة، تتجلى فيها الأحلام المتكسرة، ويظهر الفشل لصيقاً بالفتاة التي تحلم طوال النص أن تؤدي دور البطولة في مسرحية من إنتاج القطاع العام: "و بالفعل صارت خبراً في الجرائد والمجلات وبرامج التليفزيون التي تحدثت عن ماهية الدوافع الحقيقية التي أدت لانتحار ممثلة شابة تعاني من الاكتئاب بعدما فشلت في اختبار الحصول على دور البطولة في مسرحية من إنتاج القطاع العام".

في "هزائم صغيرة" ثمة لحظات إنسانية ضافية يرصدها الكاتب ببراعة، والذي يجعل البطل المركزي في مقاطع النص المختلفة حاملاً اسم "شريف" ليحدث تماهٍ أظنه مقصوداً بين المؤلف الضمني للنص والشخصية المركزية. وفي المقاطع العشر لـ"هزائم صغيرة" نرى تنويعات سردية منعددة، بعضها مروي بضمير المتكلم، والبعض الآخر مروي بضمير المخاطب، لتتعدد الهزائم على كافة المستويات، فردية وجماعية، سياسية وثقافية، إنها تأتي متواترة، تترى، غير أن (الذات) تظل هي البؤرة المركزية التي تتجمع عندها الخيبات/ الهزائم وتتفرع عنها.

في قصة(المُمُر) وتعني الخرساء باللغة النوبية،لايقدم القاص (النوبة) بوصفها مكانا فلكلوريا يحوي أداءات طقوسية يرصدها ويكشفها لنا، وإنما يقدم لنا حكاية ذات طابع إنساني عن تلك العجوز التي تمارس السحر فتصيب به (سالم) الذي لم يسلم من مكرها:"وبكت الممر بعد ما انكشف سرها عند تفتيش الحكومة لبيتها الذي وجدوا فيه مئات التمائم باسم كل عريس من أهل القرية.كانت سيارة الشرطة واقفة أمام بيت الممر بأضوائها المعتادة التي صارت تضوي في ليل أجندان...يتحلق حولها الأطفال والنساء العجائز يقلن كلمتهن الشهيرة ييو- بيو والعساكر يجمعون التمائم والأحجبة داخل السيارة كدليل إدانة للممر بينما كانت الممر تسير وحدها في الطريق المؤدي للترعة ودموعها تنساب على وجنتيها دون ان يصدر عنها صوت بينما (سالم أشه) يبحث كالمجنون وسط تلال الأحجبة عن الحجاب الذي صنعته له الممر" (ص52).

في (لقطات) نلحظ هذا النزوع البصري الذي يطل علينا بدءا من العنوان، حيث نصبح بإزاء عدسة كاميرا ترصد لنا الانهيارات الحادة في الواقع،وهذا مابدا في اللقطتين الأولى والثانية، ففي اللقطة الأولى يبرز التفاوت الطبقي بين الأفراد في المجتمع،وفي اللقطة الثانية تظهر مدى السطوة التي يتمتع بها "سعيد - رجل الشرطة- في هذا الواقع،أما (اللقطتان/المقطعان) الثالث والرابع فيتلمسان نزوعا إنسانيا بالغ الخصوصية كالإشارة إلى ذلك المصور الذي يعاني صراعا داخليا بين رغبته في تصوير الرجل المعدم طمعا في الجائزة وشعوره في الآن نفسه باستغلال معاناة هذا الرجل.

في (خدمات ما بعد البيع) نصبح بإزاء رصد لعالم بالغ التغير، يحوي نسقا من التحولات المتسارعة، ولذا فإن السرد يخرج من أداء وظيفته االإخبارية لأداء وظيفة أخرى ذات طابع تحليلي، ويبقى التعميم في استخدام الرموز (س، ص، ع)، في القصة بديلاً عن استخدام أسماء معتادة للشخوص، علامة دالة على محاولة القاص رصد سياق عام محتدم عالمياً.

في (مجرد أرقام) لم تكن الأرقام المستخدمة ذات طابع مجاني، بل حملت دلالات خاصة، حيث تمثل الأفعال ذات الصبغة البيولوجية (الأكل- الجنس- النوم) المرتبة الأولى في التعامل اليومي، في مقابل غياب تام للأفعال ذات الطابع العقلي (القراءة)، أو الأفعال التي تحوي تعبيراً عن الإرادة السياسية:

"صفر عدد الأحزاب التي شارك فيها.

صفر عدد المرات التي أدلى فيها بصوته في الانتخابات". (ص.76)

في قصة (لصوص القنوات المشفرة) يصنع الكاتب إطاراً فانتازياً يحوي حساً استشرافياً ساخراً، لكنه ليس الاستشراف المسكون بالواقع المباشر، ولكنه الفاضح للتناقضات العالمية الحادثة.

و بعد.. في مجموعة (خدمات ما بعد البيع) يخطو القاص (شريف عبد المجيد) خطوة حقيقية في سبيل التعبيد لمشروع قصصي مائز، حيث تعري مجموعته سياقا عالميا راهنا، وتراجعه، صانعة قدرا أعمق من الاشتباك معه، لتصبح مجموعته –وبجلاء- واحدة من التماعات القصة الراهنة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى