الخميس ١٠ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم أحمد زياد محبك

تعليق على قصة " محمد " للكاتب مصطفى مراد

قصة ممتعة جدا

لقراءة القصة قبل هذا المقال أنقر هنا ==>> قصة محمد

قصة ممتعة جداً ومشوقة، تجذب القارئ إليها، وهي تصور ولداً يلح على أبيه ليشتري له دراجة، والأب يعده إن حصل على علامات تامة في امتحاناته المدرسية أن يشتري له الدراجة الموعودة، والقارئ يدرك منذ البداية أن الأب لن يفي بوعده، لا لأن الولد كسول بل لأن الأب فقير، ومع ذلك يتابع القارئ القصة بحماسة، وتنتهي القصة والأب يختلق الأعذار لولده كي لا يشتري الدراجة، فيحس القارئ بمشاعر الأب وهو يذبح ألماً وبمشاعر الولد وهو يخيب.

الأب يحرم من مشاعر الأبوة، والولد يحرم من اللعب ومن مشاعر الطفولة، ليس بسبب الفقر وحده، بل بسبب المجتمع المتخلف الذي يحرم الآباء والأبناء ما يحققون به ذواتهم، والفقر سبب مباشر، ولكن ثمة أسباب أخرى أكبر وأبعد، وبذلك ترتقي القصة من الخاص إلى العام، ومن المستوى المحلي إلى المستوى الإنساني.

والقصة قائمة على الحوار وتتابع الحوادث السريعة والمواقف المتلاحقة وعلى المونولوج الداخلي، والمونولج فيها دافئ، ولا مباشرة فيه، والحوادث عفوية طبيعية لا تعقيد فيها، والمواقف ترسم المكان بلمسة سريعة، من غير تفاصيل ولا زوائد، والحوار رشيق، يصور الشخصيات، ويعبر عن دواخلها، ويساعد على تطوير المواقف، وهو مروي باللهجة الفلسطينية، وقد ساعدت اللهجة على خلق المناخ وتصوير البيئة .
وتأتي النهاية مدهشة، وإن كانت متوقعة، وهي منسجمة مع كل ما تقدمها من مواقف وشخصيات، وليست مفروضة على القصة من الخارج.

والنهاية مأسوية، تصور معاناة الأب، وتعبر عن معاناة الولد، ولكن بعيداً عن المباشرة.

القصة ناجحة بكل معايير القصة القصيرة.

وفي أثناء قراءتي للقصة كنت أتوقع أن يكون الولد هو محمد الدرة وكنت أتوقع أن يمضي به أبوه إلى السوق لشراء دراجة وفي الطريق يفاجئه العدو الصهيوني بالنار، فيستشهد، ولو أن القصة فعلت ذلك لكانت عادية، ولكنها كسرت هذا التوقع وحققت خصوصيتها وانسجامها الداخلي، وامتلكت ذاتها بوصفها قصة فنية.

وأذكر أني قبل عشرين كتبت قصة عنوانها الدراجة ونشرتها في مجموعتي " يوم لرجل واحد" (منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق ، 1986) وفيها أصور طفلاً يحلم بدراجة، ويرسم لها صورة في خياله، حلوة جميلة، ويشتري حصالة، ويرمي فيها كل يوم بضع ليرات مما يدخر من مصروفه اليومي، ويمضي فيحلمه، ثم يفتح الحصالة بعد أشهر، ويطلب من أمه أن تسأل أباه كي يشتري له الدراجة بما ادخر من مال، ولكن الأم تؤكد له أن أباه يحبه أكثر مما يتصور ويود أن يشتري له دراجة، ولكنه لا يستطيع، لأنه لا يملك ثمنها، وأنه مريض وعليه أن يشتري الدواء، وأنه لا يكاد يجد عملاً، وأنه عليه، وهو الابن، أن يدرس وأن ينجح، لا أن يلهو بالدراجة ويلعب، ويتردد الولد، ثم يحمل النقود التي جمعها في الحصالة ويعطيها لأمه، يطلب منها أن تعطي المبلغ كله لأبيه، ليساعده به، ويتحطم الحلم بالدراجة.

وأذكر أني زرت استوكهولم قبل بضعة أعوام ورأيت هناك على كل رصيف مجالاً في وسطه وعلى طوله مطلياً بالأسود وهو مخصص لراكبي الدراجات يوفر لهم المتعة والأمان بعيداً عن السيارات ومن غير الاصطدام بالمشاة وإيذائهم، وكنت من قبل أعد ولدي أن أشتري له دراجة وكنت دائماً أؤجل الوعد ولا أفي به، لا لأني لا أملك ثمن دراجة، ولكن لأني أخشى عليه من السيارات، فلا أمان لراكبي دراجة في شوارعنا المزدحمة بالسيارات وغير المنظمة ولا أمان على أولادنا من سائقي السيارات الخاصة والعامة لأنهم لا يحترمون المشاة ولا الأطفال ولا راكبي الدراجات ولا يهتمون بقوانين السير ولا يراعون أصول الأمان.
قصة " محمد " هي قصة كل طفل محروم من تحقيق طفولته، ومن ممارسة حريته، ومن حقه في اللعب، وهي قصة كل أب يحب ولده ولكنه لا يستطيع أن يوفر له السعادة، هي قصة الخيبة والإحباط، لدى جيلين، في مجتمع متخلف لا يستطيع أن يوفر للأجيال الحياة الحق، وبذلك تغدو الدراجة معادلاً موضوعياً للحرية والفرح واللعب البريء، وهي ما تحرم منه الشعوب المتخلفة، التي كتب على أطفالها ألآ يعيشوا طفولتهم، والذي يؤكد ذلك كله مشهد الطفل وهو يتأمل صورة في كتابه، وفي الصورة يظهر طفل وهو يسبح، وإذ يسأله أبوه عن سبب تأمله الصورة يجيبه أنه يحلم أن يدخل في الصورة ليسبح مثل الطفل:

ترك مكانه، وجاء إليّ يحمل كتابه. ـ يابا.. ـ ها؟! ـ يا ريت لو أنا محلّ هذا الولد.. يا ريت لو أنا زيُّه. ـ أيّ ولد؟! ـ هون.. في الصورة.. بِدِّي أفوت بالصورة. نظرت الى الصورة في كتاب القراءة. كان هناك بحر وقارب صغير فيه ولد. وكان ما يزال ينظر الى الصورة ونظرة حالمة تسبح في عيونه. ـ لويش بِدَّك تصير زيُّه؟! ـ عشان أسبح بالبحر. قال ببراءة، وعاد الى مكانه يزاحم. زيح. زيحي.

وإذن، فالطفل محروم، وهو لا يجد لنفسه مكاناً على المائدة، حتى إنه ليزاحم إخوته وأخواته، ومثل تلك اللقطة تعد وحدها مشهداً ماسوياً يمكن أن يكون قصة جيل بل ربما أجيال في الشعوب المتخلفة.

قصة ممتعة جدا

مشاركة منتدى

  • اسعدني هذا التعليق الجميل للدكتور احمد زياد محبك الذي وصل حدود المقالة لهذه القصة التي اعترف انها عزيزة على قلبي.

    ان هذا شرف عظيم لي.

    إنّ احد الكتب التي اقرأها حاليا (ومن عادتي ان اقرأ عدة كتب في آن واحد) هو المجموعة القصصية "الرحيل من اجل مها" للدكتور محبك، الذي وصلت اليه عن طريق جوجل، ثم اتحاد الكتاب العرب، وذلك رغبة مني بالتعرف على الدكتور الذي كتب عن تلك القصة.

    وشاءت الصدفة ان ان نلتقي. فالدكتور محبك يشير في التعليق على القصة الى الشهيد محمد الدرة. وله قصة في كتابه عن الشهيد.. وايضا: لي قصيدة عن الشهيد الدرة، بعثتها مع قصة "محمد"، وتلقيت ردا انها ستنشر في العدد القادم من "ديوان العرب". ولولا ذلك لوضعتها هنا.

    انها الصدف الطيبة التي تقول لنا ان القلوب عند بعضها.

    وهي عند بعضها.

    وللدكتور محبك جزيل شكري.

  • كانو ناس بحكو عن هاذا الشاعر وهاذا الشاعر بقربلي قلتلهم ولا كلمة تحكو عن هاذا الشاعر سمعين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى