الخميس ١٤ أيار (مايو) ٢٠١٥
بقلم ميمون حرش

« تعويذة شهرزاد» وتجليات الجودة..

تقديم عام..

إن الحديث عن الكاتب المغربي الخضر الو رياشي يحتاج لوقفات طويلة، ليس لأنه متميز فقط، إنما لأنه محبوب، ومن نحب لن نوفيه حقه مهما اجتهدنا..

واختياري لموضوع التميز لديه إنما مرده لأن الرجل عاشق للجديد، ومؤمن بالكتابة حين تترك بصمة، هذا فضلاً عن أنه اقتحم ميدان الإبداع بشكل عام منذ مدة طويلة، اشتغل رئيسَ تحرير في جريدة "كواليس الريف"، وفي" صوت الريف"، ونائبَ مدير جريدة " أنوال الجديدة"، ومصححاً لغوياً في "الصدى"، وهي جميعاً صحف محلية كانت تصدر في مدينة الناظور، منها التي لازال تواصل صدورها، ومنها التي توقف توزيعُها لسبب أو لآخر..

والتميز هنا بالنسبة لي هو مرادف للكتابة الناجحة، والباذخة حين تترك أثرها في المتلقي، وتفرض نفسها في المحافل هنا، وهناك؛والكتاب اليوم كحبات الرمل حين نعدهم، لكن الذين يتركون أثراً قليلون..

تتبعت برنامجاً إذاعياً بثته إذاعة ميدي1 عبر الأثير ذات ليلة رمضانية بتاريخ 22/8/2011،خصته المنشطة لسؤال طرحته مجلة إيطالية لمناقشة ملف عن" الكاتب الناجح"،ولتقريب الموضوع أكثر طرحت عدة أسئلة لبسط هذا الموضوع الحساس، وأهم ما طرح هو ما هو معيار الكاتب الناجح ؟، وهل هناك معيار أصلاً؟..

والحق أن حلقة البرنامج أثارتني بغنى النقاش الرصين، و لعل أهم ما طرح هو أن الأمر قد يتعلق، حين نتحدث عن كاتب ناجح، بكثرة رسائل الإعجاب التي يتلقاها عبر البريد الأرضي، أو لايكات، أو جيمات في الفيس بوك، أو ترجمة كتبه إلى لغات آخرى، وربما بما يولد عنده من أعداء،أو بتحويل إنتاجاته إلى أعمال سينمائية، وربما... وربما...

سألت نفسي يومها : ألا يكفي أن يكون الكاتب ناحجاً لأنه كاتب بدون فلسفة؟..

سؤال مشروع.. لكن هل الكتب متشابهة؟..

أعتبر الخضر كاتباً ناجحاً لأنه حين يبدع يراهن على الاختلاف ؛ والتميز سمة يحرص على أن تحمل توقيعه بحيث حين تقرأ تقول : هذه لغة الخضر الورياشي، هذا أدب فيه رائحة خضراء ( نسبة إلى الخضر طبعاً)..

والخضر الو رياشي له حظوته، لا يمكن أن تقرأ له دون يستوقفك، حين يقرأ ما يكتبه في مناسبة أو أخرى تلتاع إليه الأعناق إعجاباً، وإحساساً بأن ما يقول يستحق الإنصات.. يوم قرأ على ضيوف الناظور في المهرجان العربي للقصة القصيرة جداً/ النسخة الثالثة في مارس 2014 نصه " نبي إبليس " احتدت الأكف بالتصفيق، صفق له الجميع بحرارة، فأبهر، ولفت الأنظار، وكثير ممن حضر يومها لم يمنع سؤاله : من هذا؟..

( كان نجم المهرجان بلا منازع..)

هو كاتب ناجح لأنه يرفع شعار " اقتلوا العادية" حسب دعوة حنا مينة رحمه الله، يكتب بإسهاب، في القصة، وفي الخاطرة، وفي الفن، وفي النقد لكنه يحرص على الجدة، والفرادة، والتنوع، وهي صفات تجعل منه كاتباً نجماً في مدينة الناظور..

حازت مجموعتُه " تعويذة شهرزاد" الجائزةَ الثالثة في المسابقة الكبرى الخاصة بالقصة القصيرة جداً، والتي نظمتها جمعية جسور للبحث في الفن والإبداع بمناسبة المهرجان العربي للقصة القصيرة جدا، في مارس 2015،شارك فيها أكثر من عشرين كاتباً يكتبون في القصة القصيرة جداً، وكلهم معروف ومشهور من المغرب، وخارجه.. وهذ تميز يؤكد ما أقوله لكم الآن..

"تعويذة شهرزاد" وتجليات الجودة..

"تعويذة شهرزاد" هي الإصدار الثاني للخضر بعد" قصتي مع جاكي شان وجنية الكتب "،كل نصوصها المجموعة تنوء بثقل المعاناة الاجتماعية بل الإنسانية كما يقول الدكتور ميمون مسلك الذي قدم لها..

ولقد حرص الخضر التهامي الورياشي أن يتصدرها بتقديم له شخصياً، ومما جاء فيه : "
" أتعبتني هذه القصص جداً، على الرغم من أنها قصيرة جداً، ولعل قصرها سبب تعبي "

ومن تُتعبه نصوصُه قبل نشرها لا يمكن إلا أن يكون ناجحاً، لأن الكتابة هي بذل جهد، ومعرفة، واشتغال متواصل وليس لعباً بالكلمات ليس إلاَ..

ويمكن أن أحصر تجليات التميز في تعويذة شهرزاد في النقط التالية على سبيل المثال لا الحصر :
الجرأة في التعبير عن الهموم الذاتية، والاجتماعية،، والإنسانية، للمعاصرة،
اعتماد اللغة العربية الفصحى،
إثارة فضول المتلقي عبر طرح السؤال،
الشخصية/ البطل في تعويذة شهزراد..
بناء الأحداث/ الحبكة القصصية..

الجرأة في التعبير عن الهموم الذاتية، والاجتماعية، والإنسانية، للمعاصرة

فيما يخص الجرأة في التعبير هي صفة لا تتأتى إلا لمن يصدق في فنه، وأدبه، أقصد أن الكتاب فريقان : منهم من يطرح الأشياء طرحاً صحيحاً، ومنهم من يطرحه طرحاً غير صحيح، والنوع الثاني لا يمكن أن يكونوا سوى كتاب مأجورين، مجرد أبواق ليس إلا، لاسيما إذا عرفنا بأن القراء قضاة، يحاكمون حملة الأقلام، قد يغفرون أي إساءة ماعدا الاستهانة بعقولهم،ولن يغفروا لمن يكذب عليهم، أو ينصر الشر، ويعادي القيم الجميلة عموماً عبر تكريس القبح في كل تجلياته..ولعل توجس الخضر من القراء هو ما جعله يتربع على شباك تذاكرهم؛ يتودد للقراء، ويخاف من ردود أفعالهم، لذلك النشر بالنسبة إليه عملية حسابية، الأرقام معدودة، كل رقم فيها مناسب، وغير زائد..

الخضر في "تعويذة شهرزاد" طرح موضوعات، وكتب عن قضايا، عرى من خلالها الواقع بدون مساحيق، فتحدث عن الظلم، والأمل الكاذب، ووجوه الإرهاب، ووجوه السياسة المشوهة،، عن الإحساس، والإحساس الخاطئ، عن القدرة حين نريد، ونقد التقاليد، والأعراف، وعن مفاجآت الحياة، وعن التحرر من البؤس والفقر،..وعن المرأة العانس..، وعن الطفولة..

"في قصة أطلس" ص 80 يبهرنا الخضر في إشارة منه إلى أزمة التعليم بكلمات قليلة، لكن في ديباجة قشيبة يقول :
حطت حطباً
حملت كتباً
صعدت تلا
دق الجرس،. انتهى الدرس.. "

وعن الفهم الخاطئ للدين الإسلامي يكشف عن مفارقات عجيبة، لا في الدنيا بمفهومها الواسع، وليس في السوق، وليس في صالون حلاقة، وليس في مقهى، وإنما في المسجد، يقول :

"انقسم المسجد إلى حزبين؛ كل حزب فَرحٌ بإمامه
دخل رجل مهرولاً، فأدرك صفوفاً عن يمين تركع، وصفوفاً عن شمال تسجد،
انتبذ ركناً أذن واستقبل قبلة أخرى.."

وهكذا يصبح، داخل المسجد، لكل قبلته، ولكل إمامه، أما خارج المسجد فلنا أن نتخيل حجم الاختلاف، وكيف يكون.. ؟..
اعتماد اللغة العربية الفصحى،

يحرص الخضر، لا في مجموعة التعويذة فقط، بل في كل أعماله على اللغة العربية الفصحى، يكتب بشكل سليم، تنداح له الفصحى، تفرد له جناحيْها، يعبر بطلاقة، بعذوبة؛ جمله قصيرة، مسكوكة بشكل بدبع، لا أخطاء إملائية، ولا لغوية إلا ما جاء عرضاً، يؤمن بأن الأناقة في التعبير طريق نجاح الكاتب، أي كاتب..

لغته بمكن أن تدرج ضمن السهل الممتنع، يكتب بسلاسة مبهرة، غالباً ما تكون جمله مبدوءة بأفعال.. ويختار لنصوصه عناوين جذابة، والعنوان لديه يقوم بدور وظيفي، فيضفي عمقاً ودلالة، وجمالا، لا تكتمل الأحداث عنده إلا به ,أشهد أن عنوان أضمومته " تعويذة شهرزاد " شغله مدة، و حيره كثيراً قبل أنه يستقر عليه...

عنوان قصته 6/ 9 اختير بدقة متناهية، يقول :
"فتح الباب، تسلم هدية.
أشعل البيتَ ناراَ
عاد الطارق من جديد، استرد الهدية وأشار إلى رقم الشقة.."

هذا النص لا يمكن أن يفهم دون عنوان أبداً مستثمراً دلالة الرقمين( ستة وتسعة) في رسم فضاء لهذ القصة الجميلة..

وفي قصص "تعويذة شهرزاد "جنوح على حمل الحكاية على أجنحة الشعر، المفردات مسكوكة بطريقة بديعة، والصور تنزاح عبر لغة انسيابية مدهشة، لتشكل حاملاً أساسياً للسرد، وهذا الجنوح لم يحل دون إيلاء الحكاية ما تستحقها من اهتمام، فبدون حكاية لا يولد نص للخضر أبداً، هو عاشق للقصصية أو الحكائية، ولا يمكن أن نعثر على قصة في هذه المجموعة تخلو منها أبداً، هو ينتصر لهذا الشرط، شرط توفر الحكائية في نصوص القصة القصيرة جداً في إبداعه، وفي كتابات الآخرين ممن يكتبون القصة القصيرة جداً.. فلا غموض في الدلالة رغم جنوح الخضر للحالة الشعرية في نصوصه مادام حريصاً على شرط الحكائية...
في قصته " أطلس " ص 80 السابقة الذكر..تتوفر فيها هذه الحكائية مع جنوح نحو حالة شاعرية عبر موسيقى لفظية لافتة، كلمات النص قليلة، لكن فيها رنين موسيقي أخاذ...

إثارة فضول المتلقي عبر طرح السؤال،

يحرص الخضر في المجموعة على حمل القارئ على طرح السؤال، يضع النص بين يديْه (الضمير يعود على القارئ)، يعذبه به، ويقحمه معه في بنائه، كما في قصته : " نهاية وبداية" ص 20، وقصته " البعوضة" ص 47، و"تلك الرائحة " ص 104،و"أزهار النحس "ص 78، و"زيارة "ص 59، وفشل ص 106،..
والسؤال عند الخضر هو ضرورة ملحة، إما يطرحه هو بلسان بطل من أبطاله،، أو يحمل القارئ على طرحه، أو مجرد التفكير فيه على الأقل، والسؤال هو فن التفكير حسب أهل موليير، وكلما أجاد المتلقي طرح السؤال، ساعده ذلك على ولوج النص، وفك بعض مغالقه..

وطرح السؤال يفرضه بناءُ نصوص الخضر، خاصة في عود الضمير في بعض القصص، نحو قصته انتقام : ص 31
"خانه، فأقسم أن ينتقم منه، مهما طال الزمن...
ألم بابنة الخائن داءٌ عُضال، وكان قد أنفق كل ما يملك..
أمهله الطبيب الجراح أياماً معدودة..
دخل عليه المستشفى، قدم له مظروفاً..
طرح نفسه عند قدميه.."

في هذا النص لا يفصح الخضر عمن يكون المنتقم، أو من هو المنتقَم منه، ثم ما علاقة ابنة الخائن بالأول والثاني، ولماذا هو خائن، والكلمة المفتاح التي تفاجئنا في النص هي " المستشفى ".. ويبدو لي هذا أن المستشفى كمكان مختار بدقة لأنه الوحيد المسعف على فك رموز هذا النص..

هذه السحابة المخيمة على بعض النصوص مثل نص "انتقام" مطلوب لأن النص حين يضعه صاحبه على منضدة التشريح يفقد ألقه، والنص السهل، الذي يهب نفسه للقارئ بسهولة دون طرح سؤال واحد سرعان ما تتقيؤه نفس القارئ الفطن..

الشخصية/ البطل في تعويذة شهرزاد..

في كتاب " بنية الشكل الروائي : الفضاء- الزمن- الشخصية.." للناقد د حسن بحراوي نقرأ في المقدمة النظرية عرضاً لمفهوم الشخصية في المرجعية الغربية، وفيها قولة شهيرة ينعتها بالقولة اللامعة، هي لفرجيينا وولف التي تقول فيها: " دعونا نتذكر مدى قلة ما نعرفه عن الشخصية"..

والشخصية تشكل وجهة نظر، أو رؤية للعالم وليس شخصية ذاتية، ذات جوهر سيكولوجي فقط..الأساس فيها هي كلمة الشخصية حول العالم، وحول نفسها..

وجدير بالذكر أن الرؤية النقدية تغيرت تغيراً بيناً مع ظهور نظريات النقد الجديد إذ أصبحت قضية الشخصية لسانية،فالشخصيات لا وجود لها خارج الكلمات لأنها ليست سوى كائنات من ورق.. بكلمة أصبح من الممكن أن نقول إن مفهوم الشخصية يلتقي مع مفهوم "العلامة" حين ينظر إليه كمورفيم فارغ في الأصل،سيمتلئ تدريجياً بالدلالة كلما تقدمنا في قراءة النص..

ويقترح فيلب هامون في دراسة حول القانون السيميولوجي للشخصية ثلاث فئات :

الشخصية المرجعية، ضمنها الشخصيات التاريخية، والأسطورية، والمجازية، والاجتماعية..
الشخصية الواصلة، تكون علامة على حضور المؤلف والقارئ أو من ينوب عنهما في النص..
الشخصية المتكررة : شخصيات تنسج داخل الملفوظ شبكة من الاستدعاءات والتذكيرات لمقاطع من الملفوظ منفصلة وذات طول متفاوت..

وتجدر الإشارة إلى أن هناك فرقاً بين مفهوم الشخص الواقعي، وبين الشخصية الورقية الخيالية. كما يؤكد الدكتور جميل حمداوي في كتابه : " الشخصية الروائية على ضوء مقاربات النقد العربي القديم، والحديث من الإحالة إلى العلامة"..

وهناك من منظري الرواية من يتحدث عن شخصية حية وغير حية، الأولى هي التي تتصرف كما أيها الناس، والشخصية غير الحية هي التي تأتي أفعالاً تتجاوز بها مع هو مألوف، وعاد..

و كلما كانت الشخصية حية عاشت في المخيال الشعبي، من منا لا يعرف سي السيد/ أحمد عبد الجواد، وجان فالجان، ومدام بوفاري، و"عادل" في شرق المتوسط مرة أخرى لعبد الرحمان منيف..و غريغوري الممسوخ لفرانز كافكا، والطروسي لحنا مينة، وصفية، وعبد الهادي في رواية "الأرضّ للشرقاي، وآخاب في هرمان ملفل، وسنتياجو عند هيمنجواي...وسعيد مهران في اللص والكلاب....

بل من الطريف أن أذكر بأن هناك من يدعو لبناء مقابرَ خصيصاً لشخصيات روائية وقصصية، حتى يتمكن مُحبوها زيارتها والترحم عليها..
ويقول الدكتور ميمون مسلك في دراسة بعنوان " الشخصية في قصص عبد الحميد الغرباوي":
" لما نتحدث عن القصة القصيرة جداً أول ما يتبادر إلى الذهن / حجمها الضئيل، الذي يصل أحياناً إلى سطر واحد، بسبب : الحذف، والتكثيف، والتلميح.. ما يجعلها أصغر حكي ممكن، فهذه الخاصية تجعل التعامل مع الشخصية يكتسي قدراً كبيراً من العناية والتدبر، وحسن التصرف لأن القارئ سيجد نفسه يوازن معادلةً توازنها صعب : إبراز الشخصية كعامل فاعل في تنشئة الحدث، وبأقل ما يمكن الكلمات"..
ويمكن تقسيم الشخصية في تعويذة شهرزاد قسمين :
الشخصية الإنسان، وهي الحاضرة بقوة في الأضمومة..

الشخصية الحيوان، وعدد النصوص فيها ثمانية، هي : فراشة، غزالة، نمل، أسد، هامة، زحام، مزرعة، البعوضة..

وكل شخصيات الخضر في التعويذة تأتي عارية من أسماء، و يكتفي، بالمقابل، بتقديمها بصيغة ضمائر المتكلم في الغالب.. موزعة بين دلالة جنسية بين الذكر والأنثى.. وشخصيات الخضر من فئة المسحوقين، والمنهزمين، و الخائنين، و...

والخضر في تعويذته لا يولي اهتمامًا كبيراً لوصف الشخصية بالكلمات بل يتجاوزها ليهتم بالفكرة أساساً، أو يجنح للتصوير الفيلمي السينمائي.. وشخصيته بدون اسم، بدون ملامح معينة، ولكن سلوكها قد يكشف عن صفاتها النفسية، ونوعية مزاجها، وحالتها الاجتماعية، وظروفها الوظيفية.. مما يفتح المجال أمام القارئ لرسم ملامحها كل حسب فهمه، وقدرة استيعابه..

تفرض بعض المدارس والمذاهب الأدبية تنويعاً في الشخصية حسب نوع تيار القصة، فهي تتغير وفق طلاء المذهب والمدرسة،فالشخصية في التيار الواقعي غيرها في المدرسة الوجودية، أو الكوميدية، أو المأساوية، أو التجريدية، أو القصة التاريخية..

وبما أن الخضر يهتم بالجانب الاجتماعي فهو يعمد، عن قصد في نظرنا، إلى إلحاف شخصياته من خلال قوى الصراع بين : مُستغل/ جلاد، ومستغَل / ضحية..

في قصته " رجولة " ص 32 لا شيء يكشف عن هذه الشخصية سوى الفعل الذي تأتيه عبر فعل مفتاح هو " تنزل، وينزل".. شخصية لا ملامح لها، بدون اسم، لكننا نرسمها كأحمد عبد الجواد/ سي السيد بطل ثلاثية نجيب محفوظ لما بينهما من تقارب كبير..
"كلمته لا تنزل الأرض..
إذا قال يميناً فهو اليمين، وإذا قال يساراً فهو اليسار..
وفي الليل ينزل عند قدميها.."

وإذا استثنينا نصوصا قليلة، نقول مطمئنين بأن أغلب نصوص التعويذة مجردة من الوصف المسهب، بل هو جنوح حول اقتصاد مقصود تماماً.. ولعل الأمر يتعلق -عند الخضر- بنسق فني، لأن الشخصية المجردة من الوصف تثير خيال المتلقي، فيرسم ملامحها وفق السياق، أو حسب ما تطرحه الفكرة..ويقول د ميمون مسلك في هذا الشأن بأن تجريد الشخصية من مواصفاتها هو أحياناً عامل من عوامل بنائها فنياً "..
بناء الأحداث/ الحبكة القصصية..

المقصود بالحبكة الطريقة التي يتم بها سرد الأحداث، انطلاقاً من علاقة سببية تربط المقدمة بما بعدها، ولقد تنبه أرسطو إلى أهميتها منذ عهد بعيد، وقدمها على عناصر القص جميعاً، حين أكد أن أكثر تلك العناصر أهمية هو بناء الأحداث..

و يقول الناقد يوسف حطيني في كتابه "دراسات في القصة القصيرة جداً" ص 62و63: " ثمة في السرد عموماً نوعان من الحبكة : بسيطة، ومعقدة، فالحبكة البسيطة هي تلك الفعل الواحد المتواصل، والذي يتغير فيه خط البطل دون حدوث (تحول)، و(تعرف)،أما الحبكة المعقدة فهي التي يتغير فيها خط البطل عن طريق (التحول) و(التحول) وإما بهما معاً."
ونوعا الحبكة حاضران بشكل عام في الرواية، بسبب تعدد الشخصيات، وتعدد الأبطال، ورأي الناقد سديد في أن القصة القصيرة جدا تفترض الاعتماد على الحبكة المُعقدة دون غيرها..

في قصة جميلة بعنوان أسد :45:

"تذمر من فصيلته، وفكر أن لا يظل كلباً..
أحاط رقبته بطوق من الشعر الكثيف، ركب أنياباً حادة، اختال، في مشته..
نظرت إليه الكلاب باشمئزاز، استشاط غضباً، كشر عن أنيابه،..نبح.." مادةٌ حكائية شائقة،تؤطرها لحظة تنوير (عالية الجودة)، البطل/ الكلب فيها يتغير عن طريق التحول..

وفي نص البعوضة تَحولٌ من القوة، إلى ضعف، من خلال مادة حكائية بديعة عن شخص جبار، ينهار تماماً بسبب حشرة صغيرة وهي بعوضة..

ويحرص الخضر على الاهتمام في قصصه بعناصر الحبكة ( البداية- العقدة- النهاية..)

وتصبح هذ العناصر مثيرة في الق القصيرة جداً ؛ لأنها تعتمد على التكثيف، الشديد، وتصل إلى حد مبالغ من القصر..
حرص الخضر في تعويذته على بدايات تحقق الدهشة، ونهايات تحقق التنوير دون اختصار مخل..ولا حشو يذهب بماء الحكاية..
ومن النصوص الجميلة التي تبدو فيها البداية والنهاية في حلة قشيبة قصة "نصيب" ص 81 :
انتقت أجمل فستان، تزينت، جلست، جنب والدتها
...
تابع ما يدور من حديث، وتصرفات في هدوء، وترك الكلام للكبار..
كانت الأخرى تظهر وتختفي،...
مال برأسه نحو والدته، وهمس في أذنها..
تبسمت، ورنت بطرفها نحو الأخرى.."

في بدايات الخضر اقتصاد فني مقصود، وفي نهايات نصوصه لمسات و رتوشات تدل على وعي تام بالدهشة التي توفرها الخاتمة الناجحة..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى