الأربعاء ٢٧ أيار (مايو) ٢٠٠٩

تميم البرغوثي في القدس

بقلم: موسى أبودويح

لم اسمع ولم أقرأ لتميم البرغوثي إلا متأخرا، منذ أقل من عام رأيته وسمعته على شاشة الجزيرة يقرأ قصيدته (في القدس)، فشدني الرجل، وسحرني بلغته وطلاقة لسانه وحسن إلقائه سيما وهو شاب في حدود الثلاثين من العمر.

وبعد أن انهى الشاعر مقابلته في التلفزيون، قلت في نفسي: (هذا هو المتنبي) وكاشفت معلمي مدرستي في اليوم التالي بأنني سمعت الليلة شاعرا تستتطيعون تسميته (متنبي هذا العصر). وكان من بين المعلمين معلمة نيفت على الستين، متزوجة من رجل من البراغيث الذين يسمون أنفسهم "البراغثة"، فأخبرتني عنه وعن أبيه الشئ القليل.

وبعد البحث علمت أن الشاعر تميما فلسطيني من مواليد القاهرة سنة 1977، له خمسة دواوين بالفصحى وبالعامية الفلسطينية وبالعامية المصرية، وهي:

(ميجنا) و (المنظر) و (قالوا لي بتحب مصر قلت مش عارف) و (مقام عراق) و (في القدس).

وتميم حاصل على الدكتوراة في العلوم السياسية من جامعة بوسطن بأمريكا سنة 2004. وعمل استاذا بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ومحاضرا بجامعة برلين الحرة، وعمل بقسم الشئون السياسية بنيويورك، وفي بعثة الأمم المتحدة في السودان، وباحثا في العلوم السياسية بمعهد برلين، وهو يعمل حاليا استاذا مساعدا للعلوم السياسية في جامعة جورج تاون بواشنطن. له كتابان في العلوم السياسية: الأول باللغة العربية بعنوان: الوطنية الأليفة، الوفد وبناء الدولة الوطنية في ظل الاستعمار صدر في القاهرة عن دار الكتب والوثائق القومية سنة 2007م.

والثاني بالانجليزية The Umma and the Dawla عن مفهوم الأمة ومفهوم الدولة في العالم العربي صدر في لندن سنة 2008م.

(جميع هذه المعلومات من موقع تميم البرغوثي).

والآن مع الشاعر تميم البرغوثي وديوانه "في القدس".

يحوي ديوان تميم "في القدس" أربعا وعشرين قصيدةمن الشعر العمودي ومن الشعر الحر، وبعضها مزيج منهما كقصيدته "في القدس" والتي بها سمي الديوان، وعليها سيكون التركيز في هذه الندوة، لأننا في القدس، نعيش آلامها وأحزانها، نعيش تحت وطأة الاحتلال، وقهر غطرسته، وقانون غابه الذي يمنع أهل المدن الفلسطينية وقراها من الوصول إلى القدس أو دخولها وحتى الصلاة في مسجدها الأقصى. بل إن الاحتلال يمنع حتى أهل القدس، يمنع من هم دون الخمسين من العمر من الصلاة في المسجد الأقصى، ويمنع البعض من دخول القدس شهورا ويمددها حتى تصل إلى سنوات، يمنع فيها نخبة من المسلمين من الاقتراب حتى من سور مدينة القدس. أما يهود كل يهود فيتعبدون ويصلون كيف يشاؤون، والمسلمون من الصلاة في مسجدهم الأقصى يمنعون.

وفي الديوان قصائد بعناوين مثل: الجليل، القهوة،الموت فينا وفيهم الفزع، أمير المؤمنين، ابن مريم، معين الدمع، قفي ساعة، تخميس على قدر أهل العزم.

ولست مبالغا ان قلت إن كل قصيدة في ديوان تميم تحتاج إلى نقاش ونقد وندوة خاصة بها.

وعودا إلى قصيدته "في القدس" تحليلها ونقدها ومناقشة أفكارها. حيث بدأها بقوله من الشعر العمودي:

مررنا على دار الحبيب فردنا
عن الدار قانون الأعادي وسورها
 
فقلت لنفسي ربما هي نعمة
فماذا ترى في القدس حين تزورها؟!
 
ترى كل ما لا تستطيع احتماله
اذا ما بدت من جانب الدرب دورها

فالشاعر جاء لزيارة القدس، فرده يهود ومنعوه من زيارتها بما وضعوه من أنظمة وقيود، وما سنوه من قوانين، وضعوها حسب أمزجتهم ووفق هواهم، تحول بين أهل فلسطين وبين زيارتها أي زيارة القدس ودخولها. كما يحول سور القدس المغلقة أبوابه بأعداد كبيرة من جنود يهود، جنود الاحتلال البغيض، المدججين بالسلاح والهراوات، يمنعون أصحاب البلاد الشرعيين من دخولها والوصول إلى مقدساتها. وفي نفس الوقت يدخلون إليها كل شذاذ الآفاق من مختلف الجنسيات كالروس والاثيوبيين ويجندونهم ويحملونهم السلاح للفتك بأهل البلاد الشرعيين. وصدق شوقي في قوله:
أحرام على بلابله الدوح
حلال للطير من كل جنس

تميم يذكر لنا في قصيدته: القدس وسورها، والقدس وصخرتها المشرفة، اسمعه يصف قباب مساجد القدس وصخرتها المشرفة بقوله:

في القدس يزداد الهلال تقوسا مثل الجنين

حدبا على أشباهه فوق القباب

تطورت ما بينهم عبر السنين علاقة الأب بالبنين

في القدس أبنية حجارتها اقتباسات من الإنجيل والقرآن

في القدس تعريف الجمال مثمن الأضلاع أزرق

فوقه –يا دام عزك- قبة ذهبية

تبدو برأيي مثل مرآة محدبة

ترى وجه السماء ملخصا فيها

تدللها وتدنيها

كما ويذكر لنا تميم سوق باب خان الزيت والعطارين ومدارس القدس في عهد المماليك، وهي كثيرة ومنتشرة داخل سور القدس، وأكثرها قريب من المسجد الأقصى، ويذكر لنا قبور القدس وشواهدها المكتوبة بكل لغات الأرض، والتي تضم مختلف الجنسيات، استمع للشاعر يقول في ذلك:

فالقدس تقبل من أتاها كافرا أو مؤمنا

أمرر بها واقرأ شواهدها بكل لغات أهل الأرض

فيها الزنج والإفرنج والقفجاق والصقلاب والبشناق

والتتار والأتراك، أهل الله والهلاك،

والفقراء والملاك، والفجار والنساك

فيها كل من وطئ الثرى.

ويركز تميم في قصيدته على القدس، حتى ما يسمونه اليوم بالقدس الغربية، فيذكر بائع خضرة من جورجيا، وكهلا جاء من منهاتن، يفقه فتية البولون في أحكام التوراة.

ويصف شباب القدس ورجالها دون الخمسين، الذين يمنعون من الصلاة، أروع وصف وأخصر قول وأجمل بيان، وخير الكلام ما قل ودل، يصف ذلك بقوله:

في القدس صلينا على الإسفلت

في القدس من في القدس إلا أنت

والكلام عن القدس يطول ويطول، ولا يسمح الوقت في هذه الندوة بكلام يطول. أما لغة تميم في ديوانه "في القدس" وفيما قرأت له: فقد كتب تميم نثرا ونظم شعرا، عموديا وحرا، بلغة عربية فصيحة، سلسة بينة، تنساب انسيابا، وهي ما يسمى بالسهل الممتنع، حيث يراها القارئ واضحة سهلة، فإذا ما حاول تقليدها تعذر عليه ذلك.

وكتب تميم في السياسة وأجاد، كيف لا؟! ودراسته الأساسية هي في العلوم السياسية، وهو في السياسة ذو نظر ثاقب، وهو ينظر فيها من منظار الإسلام. اسمعه يخاطب حكام البلاد العربية بقوله: "أما الحكام العرب فأقول لهم: لا تلزوا أنفسكم بين الأمة وأعدائها، فلن يرضى عنكم العدو ولن ترضى عنكم أمتكم، تنحوا، فنحن أولياء الدم، وقد جعل الله لنا على عدونا سلطانا، أما أنتم فقد لحقكم عارها، وأنتم أهل العار قديما، وأقول لكم قولا سمعه كل مملوك قبلكم فلم يفهمه، ان لم تكن فيكم بقية من دين، فكونوا عربا على أنسابكم، والله لقد استحلت حرمكم وانتم تنظرون، تخافون مما لا يخيف، وتقدمون على العار أقدامكم على الماء والرغيف، وإن مراياكم تهجوكم كل صباح، غير أنكم قوم لا تعقلون". (د. تميم البرغوثي (العربي) 17 تموز 2006 )

أما تميم والمتنبي، فقد خمس تميم قصيدة المتنبي التي عنوانها: "على قدر أهل العزم" وقصيدة المتنبي هذه كما جاءت في ديوانه، ستة وأربعون بيتا، خمسها تميم جميعها.

والتخميس: هو أن يخمس شاعر لاحق، قصيدة عادية لشاعر سابق، بأن يضيف لكل بيت من أبياتها المكون من شطرين اثنين، ثلاثة أشطر أخرى، قافية كل منها تتفق مع نهاية الشطر الأول من البيت الأصلي. فتصبح وحدة البناء في القصيدة مكونةمن خمسة أشطر، الثلاثة الأولى منها للشاعر اللاحق، والاثنان الأخيران منها للشاعر السابق، وتكون القصيدة القديمة مقتبسة بكاملها ومضمنة بنصها في القصيدة الجديدة وكأنه تركيب قصيدة على قصيدة.

خذ مثلا البيت القائل: لو أنهم فتشوا قلبي لما وجدوا فيه سوى حبهم والله والله
فإنك إن أردت تخميسه قلت:

قل للأحبة في بغداد لا بعدوا
فالدهر طاغية في رأيه فند
 
أما أنا فأنا باق كما عهدوا
لو أنهم فتشوا قلبي لما وجدوا
 
فيه سوى حبهم والله والله

(ديوان تميم في القدس صفحة 143 و صفحة 144)

والتخميس كالمعارضة يؤكد معنى القصيدة الأصلية، لكن تميما غير المعنى تماما وقلبه عمدا، لاختلاف الزمانين والحالين. فسيف الدولة مع خمس مئة من غلمانه وأصناف رجاله هزم ابن الفقاس دمستق النصرانية والذي كان معه نحو خمسين ألف فارس وراجل من الروم والأرمن والروس والبلغر والصقلب وغيرهم، وقتل نحو ثلاثة آلاف من مقاتلة الدمستق، وأسر منهم خلقا كثيرا، اما نحن العرب، بل قل والمسلمين الذين زاد عددهم عن المليار أو المليار ونصفه هزمنا شرذمة من يهود في حدود الخمسة ملايين فقط، واحتلوا بلادنا وشردونا في الآفاق وشتتونا في كل أرض الله؛ ولهذا قلب تميم قصيدة أبي الطيب رأسا على عقب.

وأنا هنا اكتفي بنقل بضعة أبيات من قصيدة تميم المخمسة؛ حتى نوازن بين شعر الشاعرين.

يقول تميم في قصيدته التي بعنوان: "تخميس على قدر اهل العزم"

أقول لدار دهرها لا يسالم
وموت بأسواق النفوس يساوم
 
وأوجه قتلى زينتها المباسم
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
 
وتأتي على قدر الكرام المكارم
 
فلله شعب يجعل القتل شيمة
فإن لم تنله النفس عاشت ذميمة
 
أشعبي لقد أعطيت للدهر قيمة
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
 
ووجهك وضاح وثغرك باسم
محمد قد عاد العدى فاسمعنهم
 
اجنوا ظلاما والظلام اجنهم
غزاة بغاة أخلف الله ظنهم
 
أتوك يجرون الحديد كأنهم
سروا بجياد ما لهن قوائم
 
صلى عليك الله ألفا وسلما
وأنطق دهرا كان من قبل أبكما
 
ملوك يريدون الحفائر سلما
ومن طلب الفتح الجليل فانما
 
مفاتيحه البيض الخفاف الصوارم
فيا دهر مهما كنت نارا تضرم
 
فنحن كإبراهيم في النار نسلم
عجبت لعبد الدهر لا يتعلم
 
أفي كل يوم ذا الدمستق مقدم
قفاه، على الإقدام للوجه لائم

ومن أراد مزيدا من التوضيح فليرجع إلى قصيدة المتنبي في ديوانه "على قدر أهل العزم" وليقرأها مع شرحها وبعدها يقرأ تخميس تميم لها في ديوانه "في القدس". وعندها يعرف أن تميما هو متنبي هذا العصر.

بقلم: موسى أبودويح

مشاركة منتدى

  • والله انك كتبت مقدمة اشبه بكلماتي التي في راسي عن تميم

    الله يجزيك الخير عن هل الكلام الرائع
    ارى انك انصفت تميم بكلامك .
    تميم متنبي العصر واعظم .
    لماذا ؟؟
    لان المتنبي استخدم لغة عصره بين طفل وشيخ يفهم كلامه .
    اما تميم لديه من البلاغة ما نحن عاجزون عن وصفه
    في زمن لا نتكلم بهذه البلاغة
    تمبم استحق مكانته بجدارة ...

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى