تنتظرَ خطابَ سماحتِهِ يا أبي
كنتُ صغيرةً أرى أبي متحمّسًا لخطابٍ سياسيّ، يوصينا بعدمِ إصدارِ ضجيجٍ، ويقولُ متحمّسًا: كلمةُ السّيّد حسن نصر الله بعد قليل، لا أريدُ أن أسمعَ صوتًا!
رأيتُ بعينيَّ البريئتَين كيف يستنفرُ البيتُ كلُّهُ عندما تُعلنُ قنواتُ التّلفزةِ عن خطاب مرتقبٍ لسماحةِ السّيّد نصر الله.
كبرتُ، ورأيتُ يومًا بعد يومٍ هذا البطلَ التّاريخيَّ يحرزُ الانتصاراتِ، يهدّدُ، يتوعّدُ، ويرعِبُ الجرذانَ الّذينَ لطالما هربوا إلى الملاجئِ، وهم في حالةِ ذعرٍ، وهيستريا من ضرباتِ صواريخِه.
تلكَ اللحظاتُ الّتي كنتُ أرى فيها هؤلاء السّفلةَ منهارينَ، محبطَينَ، متخوّفينَ من ضرباتٍ جديدةٍ لسماحتِه، تلكَ اللحظاتُ كانت نصرًا يتكرّرُ مرّةً بعد مرّةٍ، وفي كلّ نصرٍ يكبرُ هذا الرّجلُ في الأعين، وتعظمُ مكانتُه في قلبِ كلّ إنسانٍ نبيلٍ، في قلبِ كلٍ إنسانٍ يكرهُ الظّلمَ على وجهِ الأرضِ، ويؤلمهُ أن يرى طفلًا فلسطينيًّا تهدّمت مدرستُه، أو بيتُه، وربّما لم يبقَ لهُ أحدٌ من أفراد أسرته.
يؤلمهُ أن يرى أمًّا ترثي أبناءها الّذين فقدتهم بغارةٍ حاقدةٍ.
ويؤلمهُ أن يرى عجوزًا يرفع شارة النّصر، وشابًّا يرمي العدوَّ بحجرٍ متوعّدًا بالسّيرِ على دربِ الكفاحِ حتّى تحرير الأرضِ من رجسِ المحتلِّ.
يمرُّ اليومَ شريطُ ذكرياتِ الطّفولةِ أمامَ عينيَّ، لقد كان قلبي ينزف وجعًا في كلّ يومٍ أتابعُ فيهِ نشرةَ الأخبارِ مع أبي، وأنا أرى ممارساتِ العدوِّ الوحشيّةَ تجاهَ أبناءِ فلسطينَ الحبيبةَ، ومشهدُ محمّد الدّرّة لا يفارقُ ذاكرتي منذ سنواتٍ عديدةٍ، بالإضافة لمشهدٍ للعدوِّ يضربُ شابٍّا فلسطينيًّا على ركبتَيهِ، وكوعَيهِ بالحجارةِ حتَّى سقطَ أرضًا، المشهدانِ الأقسى على ذاكرتي الطّفوليّةِ، المشهدانِ اللذانِ علَّماني أنّ هناكَ وحشيَّةً، وهمجيَّةً، وعدوًّا اسمه الاحتلالُ الصُّهيونيُّ، ومنذ ذاك اليومِ، وأنا أحلمُ أن أرى أطفال فلسطينَ يعيشونَ الحياةَ الآمنةَ الّتي نعيشها، وأحلمُ أن أرى الأمّهاتِ لا يفقدنَ أبناءهنَّ دفعةً واحدةً، ولا يرونهم يلفظونَ أنفاسَهم الأخيرةَ لأنّ هناك مجرمًا تزعجهُ براءةُ أعينِهم.
سنواتٌ كثيرةٌ والحلمُ في النّصرِ لم يتحقّق، وحين بدأ طوفانُ الأقصى تأهّبنا لنصرٍ كبيرٍ مرتقَبٍ، فرحنا بإنجازاتِ الأبطالِ، وتألّمنا لرؤيةِ الخسائرِ المرعبةِ روحيًّا، وعمرانيًّا، واستبشرنا بضرباتِ سيّدِ المقاومةِ الدّاعمةِ لغزّةَ، فرحنا بكلِّ هزيمةٍ يُلحقها بالعدوِّ، ووضعنا أيدِيَنا على قلوبنا مخافةَ أن تتأذّى بيروتُ، والضّاحيةُ، ورأينا بألمٍ، وحسرةٍ كيفَ دفعَ الأبرياءُ ثمنًا كبيرًا، لا ذنبَ لهم فيهِ، إلّا أنّ الله ابتلانا بعدوٍّ لا يعرفُ الرّحمةَ.
وكما واصلنا دعواتِنا لفلسطينَ، وغزّةَ، نواصلُ دعواتِنا للبنانَ، وللجنوبِ المقاوِمِ، وسنواصلُ دعواتِنا حتّى تتطهّرَ الأرضُ من رجسِ محتلٍّ آثمٍ.
لن نخافَ طالما أنّ أرزَ لبنانَ يعانقُ بيّاراتِ البرتقالِ، وأنَّ ياسمينَ سوريةَ يذرفُ العطرَ حينَ يستشهدُ كلُّ طفلٍ فلسطينيٍّ.
يؤلمني كثيرًا أنّ أبي لن ينتظرَ خطابَ سماحةِ السّيّدِ حسن نصر الله، يؤلمني أنّني لن أرى وجهَهُ المليءَ بالعزيمةِ والطّافحَ بالكرامةِ، الّتي يفتقدها كثيرٌ ممّن يسمَّونَ -ظلمًا وعدوانًا- إخوةً لنا!
وداعًا يا سيّدَ المقاومةِ، خسرناكَ، وربحتَ الشّهادةَ، فطوبى لكَ تلكَ المكانةُ العليا.
أمَّا الأحمقُ الشّامتُ، فهوَ عدوُّ اللهِ، عدوُّ الحقِّ، عدوُّ الإنسانيّةِ، عدوٌّ لكلّ طفلٍ اغتالَ ابتسامتَه الصَّهاينةُ.
عدوٌّ لكلّ مهجَّرٍ، ولاجئٍ، ومقاوِمٍ.
عدوٌّ لكلّ زيتونةٍ شامخةٍ
ولكلّ بيّاراتِ البرتقالِ الصَّامدةِ
من ظنَّ أنَّنا لن ننتصرَ، فهوَ حالمٌ!
ميَّادة مهنَّا سليمان/ سورية