الثلاثاء ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٥
بقلم إبراهيم عوض

تهويد السيرة النبوية

فى قائمة "المفضَّلة" عندى فى المشباك موقع يحمل اسم "JewishEncyclopedia.com" (الموسوعة اليهودية) كنت أرجع إليه بين الحين والآخر أستطلع وجهة النظر اليهودية فيما أكون بصدد البحث فيه من الموضوعات. وقبل أيام خطر لى أن أفتح الموسوعة على مادة "Mohammed" لأرى ما الذى لدى اليهود ليقولوه عن نبينا الكريم، فراعنى أن كاتب المادة ينظر إلى السيرة النبوية من منظارٍ يهودىٍّ ضيقٍ ومتعصبٍ يقوم على التدليس والكذب ولَىّ الحقائق والزعم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد استفاد فى تشريعاته من اليهود حين هاجر إلى المدينة وأصبح على علم بما فيها بعد أن كان لا يعرف عنها قبل وصوله إلى المدينة إلا معلومات غامضة مضطربة التقطها من هنا ومن ههنا. ثم إن الكاتب قد ركَّز معظم المادة للحديث عن اليهود وما وقع بينهم وبينه عليه السلام بطريقة توحى أنه لم يكن هناك تقريبا شىء آخر ذو أهمية فى حياته سواهم!

يقول الكاتب مثلاً إن الرسول لم يكن فى بداية هجرته إلى المدينة ينظر إلى اليهود على أنهم أصحاب دين مختلف عن دينه. ولا أدرى على أى أساس ولا بأية أمارة يقول ذلك. أم ترى الأمر لا يزيد على أن يتوهم الإنسان الشىء، أو بالأحرى يزعمه زعما، فيكون الأمر كما أراد أن يتوهم أو يزعم؟ لكن العلم والحقيقة لا يرتاحان لمثل هذه الألاعيب ولا يعترفان بها حتى لو سُجِّلَتْ فى موسوعة عالمية لها موقعٌ على المشباك يزوره القراء من كل أرجاء الدنيا! هل يستطيع الكاتب أن يقدم لنا شاهدًا أو دليلاً واحدًا يتيمًا على ما يقول؟ هل صدر عن الرسول ما يفيد أنه كان ينظر إلى اليهود على أن دينهم لا يختلف فى شىء عن دينه؟ فلم جاء برسالة جديدة إذن؟ بل لم قال القرآن منذ وقت مبكر، وقبل أن يهاجر الرسول الكريم إلى يثرب ويصطبح بخلقة اليهود هناك، إن رسالته عالمية تخاطب البشر جميعا ولا تقتصر على بنى إسرائيل (أو غير بنى إسرائيل) وحدهم؟ وهذا إن أمكن أصلاً أن يكون، وهو العربى، نبيًّا لبنى إسرائيل؟ لقد ظهر النبىُّ فى محيطٍ عربىٍّ هو مكة، ولم يحاول أن يتصل باليهود أو يبحث عنهم، ولا أثنى عليهم ولا قال القرآن أى شىء يُفْهمَ منه ولو من بعيد أنه يرى أن دينهم هو دين محمد ولا أفردهم بما يميزهم عن غيرهم ويجعل لهم خصوصية فى دعوته دون مَنْ قَصّ أخبارهم من الأمم السابقة! بالعكس لقد حمل القرآن عليهم فى الوحى المكى مرارا، وذكر جحودهم وارتدادهم فى كل سانحة إلى الكفر والعصيان، مما يدل على أن الدعوة الجديدة لم تكن ترى فيهم منذ البداية صديقًا بَلْهَ مثيلا على أى نحو من الأنحاء! ومن الممكن أن يرجع القارئ الكريم إلى "الأنعام/ 146" و"الأعراف/ 139- 171" و"الإسراء/ 4- 8" و"طه/ 83- 98" على سبيل المثال حيث تكلم القرآن عن ظلمهم وبغيهم، وعبادتهم العجل الذهبى الذى كادوا أن يقتلوا هارون بسببه، وإلحاحهم على موسى أن يصنع لهم صنما يعبدونه كأصنام القوم الذين أَتَوْا عليهم عقب انشقاق البحر لهم وعبورهم إياه، وكذلك عن الإفساد الذى سيفسدونه فى الأرض مرتين حين يَعْلُون علوًّا كبيرا قبل أن يسلط الله عليهم من ينتقم منهم. فهل يمكن أن يُفْهَم من هذه الآيات القرآنية أنه عليه السلام لم يكن فى بداية هجرته للمدينة يرى فى ديانة اليهود شيئا مختلفا عما جاء به؟ ليس ذلك فقط، بل معروفٌ أنه عليه السلام، عند مهاجَره للمدينة، قد كتب معاهدة بين طوائف سكانها يتضح منها أن اليهود شىء، والمسلمين شىء آخر، وأن دين هؤلاء غير دين أولئك. وهذا نص الكلام: "كتاب من محمد النبى رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. إنهم أمة من دون الناس. وإن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصَرٍ عليهم. وإنه لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفسًا ولا يحول دونه على مؤمن. وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين. وإن يهود بنى عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم: مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم". فما الرأى فى هذا الكلام؟ من البيّن الجلىّ أن كاتب المقال يهرف باطلاً، ويتنفس كذبًا ومَيْنًا. إنه يريد أن يقرر فى عقول القراء أن الرسول الكريم كان يتخبط فى دعوته ولا يدرى ماذا يفعل، وأنه لم يكن مرسلا من ربه، بل اخترع الإسلام اختراعا، وأنه لم يكن يعرف شيئا عن اليهود، بل كانت المعلومات تأتيه من تجاربه الشخصية وما يسمعه من الناس من حوله لا من الوحى، شأنه فى ذلك شأن أى إنسان آخر لا علاقة له بالسماءـ

كذلك يَكْذِب الكاتبُ حين يزعم أن الرسول والمسلمين قد استعاروا من اليهود بعض شعائرهم كالصلاة الجماعية فى أوقات منتظمة، والصيام، والقِبْلة، ومحرَّمات الطعام. ولنتأمل قوله إن استعارة هذه الشعائر قد تمت من قِبَل الرسول والمسلمين، وهو ما يفيد أن الإسلام ليس صناعة محمدية فحسب على ما فى ذلك من طامّة ثقيلة، بل يدخل معه فى الصناعة والاختراع المسلمون أيضا. وكأن الإسلام لعبة يعبث بها كل من هب ودب، ولا يقتصر أمرها على يد واحدة. ولنبدأ بالدعوى الأولى الخاصة بالصلاة الجماعية: لقد كان المسلمون يؤدون الصلاة جماعة منذ وقتٍ جِدِّ مبكرٍ فى مكة. يتضح ذلك من الأخبار التالية: جاء فى "الروض الأُتُف" للقاضى عياض: "قال ابن إسحاق: ذكر بعضُ أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شِعَاب مكة، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا. فمكثا كذلك إلى ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن أخي، ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: "أَيْ عَمِّ، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم (أو كما قال صلى الله عليه وسلم)، بعثني الله به رسولا إلى العباد. وأنت، أَيْ عَمِّ، أحقُّ مَنْ بذلتُ له النصيحة ودعوتُه إلى الهدى، وأحقّ مَنْ أجابني إليه وأعانني عليه"، أو كما قال. فقال أبو طالب: أي ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكنْ والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيتُ. وذكروا أنه قال لعلي: أَيْ بُنَيَّ، ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت، آمنتُ بالله وبرسول الله وصدَّقْتُه بما جاء به وصلّيتُ معه لله واتبعته. فزعموا أنه قال له: أَمَا إنه لم يَدْعُك إلا إلى خير فالزمه". وفى سيرة ابن هشام: "قال ابن إسحاق: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صَلَّوْا ذهبوا في الشِّعاب فاسْتَخْفَوْا بصلاتهم من قومهم. فبَيْنَا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِعْبٍ من شِعاب مكة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلّون فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم. فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلا من المشركين بلَحْي بعير فشجَّه، فكان أول دم أُهْرِيق في الإسلام".

بل إن المسلمين قد أدَّوْا شعيرة الجمعة قبل أن يصل النبى عليه السلام إلى المدينة ويرى وجه اليهود أو حتى قَفَاهم. وننقل هنا ما جاء فى "زاد الميعاد" لابن الجوزى: "قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي حين كُفَّ بصره، فإذا خرجتُ به إلى الجمعة فسمع الأذان بها استغفر لأبي أمامة أسعد بن زرارة. فمكث حينًا على ذلك، فقلت: إن هذا لَعَجْزٌ ألا أسأله عن هذا. فخرجت به كما كنت أخرج ، فلما سمع الأذان للجمعة استغفر له فقلت: يا أبتاه، أرأيتَ استغفارك لأسعد بن زرارة كلما سمعتَ الأذان يوم الجمعة؟ قال: أي بُنَيَّ، كان أسعد أول من جمَّع بنا بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في هزم النبيت من حَرَّة بني بياضة في نقيع يقال له: نقيع الخضمات. قلت: فكم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا. قال البيهقي ومحمد بن إسحاق: إذا ذكر سماعه من الراوي وكان الراوي ثقة استقام الإسناد، وهذا حديث حسن صحيح الإسناد. انتهى. قلت: وهذا كان مبدأ الجمعة. ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأقام بقباء في بني عمرو بن عوف كما قاله ابن إسحاق يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجدهم. ثم خرج يوم الجمعة، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة، وذلك قبل تأسيس مسجده. قال ابن إسحاق: وكانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني عن أبي سلمة بن عبد الرحمن (ونعوذ بالله أن نقول على رسول الله ما لم يقل) أنه قام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: "أما بعد أيها الناس، فقدِّموا لأنفسكم. تَعْلَمُنَّ والله ليصعقنَّ أحدكم، ثم ليَدَعَنَّ غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلَّغك وآتيتُك مالا وأفضلتُ عليك؟ فما قَدَّمْتَ لنفسك؟ فلَيَنْظُرَنَّ يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم لَيَنْظُرَنَّ قدامه فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشِقٍّ من تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تُجْزَى الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعْف. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته". قال ابن إسحاق: ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة أخرى فقال: "إن الحمد لله أحمده وأستعينه. نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إن أحسن الحديث كتاب الله. قد أفلح من زيَّنه الله في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر فاختاره على ما سواه من أحاديث الناس. إنه أحسن الحديث وأبلغه. أَحِبّوا ما أَحَبَّ الله. أَحِبّوا الله من كل قلوبكم، ولا تملُّوا كلام الله وذِكْره، ولا تَقْسُ عنه قلوبكم، فإنه مِنْ كل ما يخلق الله يختار ويصطفي. قد سماه الله خِيرَته من الأعمال ومصطفاه من العباد والصالحَ من الحديث ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام. فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، واتقوه حق تُقَاتِه، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابُّوا بروح الله بينكم. إن الله يغضب أن يُنْكَث عهده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".

ولا ينبغى أن ننسى أن الصلاة الأسبوعية عندنا إنما تُؤدَّى يوم الجمعة لا السبت، وأنه ورد عن الرسول الكريم أن اليهود والنصارى قد ضيَّعوا الجمعة: فاختار الأولون السبت، والآخَرون الأحد حسبما ورد فى الحديث التالى: "روى الدارقطني عن عثمان بن أحمد بن السماك قال: نا أحمد بن محمد بن غالب الباهلي قال: نا محمد بن عبد الله أبو زيد المدني قال: نا المغيرة بن عبد قال: حدثني مالك عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: أَذِن النبي صلى الله عليه وسلم بالجمعة قبل أن يهاجر، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمِّع بمكة ولا يبدي لهم، فكتب إلى مصعب بن عمير: أما بعد فانظر اليوم الذي تَجْهَر فيه اليهود بالزَّبُور لِسَبْتهم فاجمعوا نساءكم وأبناءكم، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقرَّبوا إلى الله بركعتين. قال: فأوَّلُ من جَمَّع مصعب بن عمير، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فجمَّع عند الزوال من الظهر وأظهر ذلك". وفى ضوء هذا ينبغى أن نفهم قول النبى للمسلمين عن يوم الجمعة: "أضلَّتْه اليهود والنصارى، وهداكم الله إليه". وكذلك من المعروف أن النبى لم يستحبّ أن يكون بوق اليهود (أو ناقوس النصارى) هو أداة نداء المسلمين للصلاة. بل إنه لم يكن مستريحا للاتجاه إلى بيت المقدس بعد مهاجَره إلى المدينة وظل يبتهل إلى الله أن يأذن له فى التوجه إلى البيت الحرام حتى أنزل سبحانه وتعالى عليه الآيات التى تعطيه الإذن بذلك. ولتوضيح هذه النقطة لا بد أن نعرف أنه عليه السلام كان إذا صلَّى وهو بمكة يقوم جنوب الكعبة مُوَلِّيًا وجهه نحو الشَّمال، فتكون قبلته الكعبة وبيت المقدس جميعا، ثم لما هاجر لم يعد من الممكن استقبال القبلتين جميعًا معا، إذ لم يعد موجودا فى الشمال الآن إلا بيت المقدس. وكان عليه السلام يريد أن تكون قبلته إلى الكعبة لا إلى بيت المقدس حتى لا يشترك فى نفس القبلة مع اليهود. ولم تكن الأمور قد ساءت بَعْدُ بين الفريقين حتى يقال، كما يزعم بعض المستشرقين كذبًا، إنه عليه السلام قد جاملهم فى البداية بالصلاة إلى قبلتهم كى يكسبهم فى دينه، ثم لما عجز عن أن يجعلهم من أتباعه قام بتغيير القبلة بعد أن لم يعد للمجاملة معنى! ذلك أن القِبْلَة قد حُوِّلَت قبل غزوة بدر، أى قبل وقوع أىٍّ من المصادمات أو حتى الخلافات الأولية بين اليهود والمسلمين، فلا معنى إذن لمثل هذه التفسيرات السخيفة المتنطعة التى يراد من ورائها الإيهام بأن الإسلام ما هو إلا تعبير عن مواقف الرسول وآرائه، ولا وشيجة تصله بالسماء! فحقيقة الأمر إذن أن مسألة القِبْلَة قد جَرَتْ على خلاف ما ادَّعَى الكاتب، إذ كان المسلمون قبل الهجرة يصلّون إلى الشمال ميمِّمين وجوههم حيال بيت المقدس (وحيال الكعبة فى نفس الوقت)، ثم لما هاجر الرسول لم يرتح إلى الصلاة إلى قبلة اليهود، لكنه لم يتحول عنها رغم هذا إلا بعد أن استجابت السماء ونزل الوحى بالإذن له بذلك! وإلى القارئ ما جاء فى "الدُّرَر فى اختصار المَغَازِى والسِّيَر" لابن عبد البر عن هذا الموضوع: "وصُرِفَت القِبْلة عن بيت المقدس إلى الكعبة في السنة الثانية على رأس ستة عشر شهرا، وقيل سبعة عشر شهرا، من مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وذلك قبل بدر بشهرين". وفوق هذا فصلاة الجماعة فى الإسلام لا تحتاج لكهنوت كما هو الحال فى اليهودية، التى توجب أن يرأس طقوسها كاهن من سلالة هارون عليه السلام حسبما ينص العهد القديم، بل يصح أن يؤمها أى فرد من المسلمين. وفضلا عن ذلك فمفردات الصلاة فى الإسلام من أفعال وأقوال تختلف تمام الاختلاف عن مثيلاتها فى صلاة اليهود. وهذا كله مما يؤكد أن الإسلام حريص على تمايز المسلمين عن اليهود وغير اليهود، فكيف يزعم زاعم أنه، صلى الله عليه وسلم، قد استعار من اليهود شعائر العبادات الإسلامية؟

ثم هل يُعْقَل، لو كان الإسلام قد استعار من اليهود شعيرة الصلاة الجماعية، أن يسخر هؤلاء اليهود أنفسهم من تلك الشعيرة نفسها فيتخذوها هُزُوًا ولَعِبًا كلما سمعوا النداء إليها؟ قال تعالى: "وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هُزُوًا ولَعِبًا. ذلك بأنهم قوم لا يعقلون" (المائدة/ 58). وأدهى من ذلك وأمرّ أن يلجأوا إلى أساليب التآمر الخبيث فى حربهم لدين محمد، وليس هذا أسلوب الواثق من نفسه تجاه من يستمدون منه شعائرهم ويقتدون به، بل أسلوب الحاقد الذى يؤرّقه ما فى يد الآخرين من الجواهر الأصيلة النفيسة، والملتوى الذى لا يعرف المواجهة الصريحة واحترام النفس. وفى فضح هذه الأساليب المجرمة يقول لله عز وجل: "وإذا جاؤوكم قالو: آمنّا. وقد دخلوا بالكفر، وهم قد خرجوا به. والله أعلم بما كانوا يكتمون" (المائدة/ 61). فلماذا ينافقون المسلمين لو كانوا يَرَوْن أن المسلمين يستعيرون منهم عباداتهم وأساليب تنظيمها؟ بل لقد كانوا يتواصَوْن بالتظاهر بالدخول فى دين أولئك المسلمين أنفسهم أول النهار ثم إعلان الخروج منه آخر اليوم بغيةَ تشكيكهم فى دينهم، إذ كانوا يتصورون أن الصحابة سوف يرتابون عندئذ فى الإسلام ويتوهمون أن به عيوبًا فاتتهم وتنبَّه اليهودُ لها فدفعتهم إلى تركه بعدما خبروه عن قرب؟ قال جل جلاله: "وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب: آمِنُوا بالذى أُنْزِل على الذين آمنوا وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَه لعلهم يرجعون" (آل عمران/ 72). لا، لا. لا يمكن أن يكون هذا هو أسلوب المطمئن إلى نفسه الواثق بما فى يده الذى يرى الآخرين ينقلون عنه عباداتهم وصور أدائها! بل إنهم هم أنفسهم قد لاحظوا مع الغيظ المر الشديد أن الرسول عليه السلام لا يترك شيئا مما يفعلونه إلا خالفهم فيه، فما معنى هذه الافتراءات الرخيصة؟ عن أنس بن مالك رضي الله عنه : "كانت اليهود إذا حاضت فيهم المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحابُ النبي رسولَ الله عن ذلك، فأنزل الله: "وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيض.ِ قُل:ْ هُوَ أَذًى، فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض"ِ (البقرة/ 222)، فقال : "اصنعوا كل شيء إلا النكاح"، فبلغ ذلك اليهودَ فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئًا إلا خالفَنا فيه". رواه مسلم في صحيحه.

وبالمناسبة فقد ترجم بلاشير المستشرقُ الفرنسىُّ الآيةَ الأخيرةَ على النحو التالى: "وقالت طائفةٌ من أهل الكتاب: آمِنُوا بالذى أُنْزِل على الذين آمنوا وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَه لعلهم يرجعون عن ضلالهم"، مضيفا إلى النص القرآنى الكريم هذه الكلمات الثلاث الدنيئة السامة: "de leur erreur: عن ضلالهم"، التى يريد أن يقول من خلالها إن اليهود كانوا يعتقدون فى ضمائرهم أن المسلمين على ضلال، وإنهم كانوا يعملون على هدايتهم من ضلالهم (انظر كتابى: "المستشرقون والقرآن- دراسة لترجمات نفر من المستشرقين الفرنسيين للقرآن وآرائهم فيه"/ ط2/ دار القاهرة/ 1423هـ- 2003م/ 59). لكن هذا لا يمكن أن يكون، فالذى يعتقد أنه على حق ويريد أن يهدى الآخرين من ضلالهم لا يلجأ لمثل هذه الأساليب التآمرية الوضيعة، وبخاصة فى مجال الضمائر والإصلاح والأديان! ثم ما الذى كان اليهود يبغونه من وراء هذا؟ أكانوا يريدون هداية المسلمين إلى اليهودية؟ أبدا، لأن اليهود لا يَدْعُون أحدا إلى دينهم كما هو معروف، إذ يزعمون أن الله هو إلههم الخاص بهم يراعيهم من دون العالمين! أم كانوا يقصدون أن الوثنية الجاهلية أفضل من دين التوحيد كما قالوا للمشركين حين سألوهم: أىُّ الدينين أفضل: الإسلام أم الوثنية؟ فما كان جواب الضلاليين (الذين يزعم بلاشير العريق فى الضلالة مثلهم أنهم كانوا يريدون هداية المسلمين من ضلالهم) إلا أن قالوا إن دين الشرك خير من دين التوحيد: "ألم تر إلى الذين أُوتُوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجِبْت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أَهْدَى من الذين آمنوا سبيلا؟* أولئك الذين لعنهم الله، ومن يلعن اللهُ فلن تجد له نصيرا" (النساء/ 51- 52)؟ نعم بكل تأكيد هذا ما كانوا يريدونه، فهل أمثال هؤلاء يمكن أن يدور فى عقولِهم النجسةِ العملُ على هداية أحد من ضلاله؟ إن هذا التفسير لا يمكن أن يدور فى ذهن أى شخص يحترم الحقيقة ولا يعرف الخبث ولا التواء الضمير. وهذا يدل على أن المؤامرة على الإسلام لا تزال ماضية فى طريقها على أشُدّها لا تعرف الهدوء ولا التوقف ولا التراجع إلى الحق المبين! وبالمناسبة أيضا فبلاشير هذا كان من أصدقاء طه حسين المقربين، وطه حسين (كما نعرف) كان يتعاون مع اليهود ثقافيا وأكاديميا ويعاونهم على الخروج من مصر إلى فلسطين أيام الصراع العربى الصهيونى على مَسْرَى النبى الكريم قبل أن تُحْسَم جولته الأولى بامتلاخ الأمم المتحدة والقوى الكبرى المجرمة لتلك الأرض المباركة من أيدى العرب والمسلمين وإعطائها لليهود، كما كان يزعم أن القرآن يعمل على التقرب منهم ويستعين بالأساطير الخرافية لهذا الغرض حسبما بَيَّنّا فى كتابنا "معركة الشعر الجاهلى بين الرافعى وطه حسين"، وكذلك فى عدد من الدراسات التى نُشِرَتْ فى بعض المواقع المشباكية. فالأمر، كما يشاهد القارئ، مثل شبكة الأوانى المستطرقة: كل إناء منها يوصل إلى كل إناء آخر، ويساويه فى مدى ارتفاع السائل الذى يحويه وفى نوعيته وفى كل خَصِيصَةٍ أخرى من خصائصه!

أما بالنسبة لما قاله كاتب الموسوعة عن استعارة الرسول المزعومة لشعيرة الصوم من اليهود فإنى أحيل القارئ إلى ما كتبته ذات الموسوعة فى مادة "Fasting and Fast- Days"، إذ قالت إن الصوم موجود فى كل الأديان رغم اختلاف أشكاله. أى أن اليهودية ليست وحدها التى تعرف الصوم، حتى إذا شرعه الإسلام كان ذلك بالضرورة متابَعَةً لليهودية بالذات. يقول القرآن فى هذا الصدد: "يا أيها الذين آمنوا، كُتِب عليكم الصيام كما كُتِب على الذين مِنْ قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة/ 183). ونضيف إلى هذا أن المسلمين كانوا يصومون، مثل العرب، يوم عاشوراء فى مكة قبل أن يهاجروا إلى يثرب ويلتقوا باليهود هناك. وهذا يتعارض مع ما قاله كاتب المادة من أن الرسول حينما هاجر ووجد اليهود يصومون يوم عاشوراء صامه تقليدا لهم. صحيح أنه وجدهم يصومونه كما جاء فى بعض الروايات، لكنه كان يصومه هو والمسلمون قبل الهجرة كسائر العرب كما قلنا لتونا. كل ما هنالك أنه سأل عن السبب الذى يصومه من أجله اليهود، فلما أُخْبِر أنهم يصومونه ابتهاجا بانفلاق البحر لموسى ونجاته هو وقومه من مطاردة فرعون ردَّ بأن المسلمين أجدر بصيامه ابتهاجا بنجاة ذلك النبى الكريم وحصول المعجزة الإلهية على يديه بوصفه أخًا له فى الرسالة. ولا بد أن نعرف أن يوم عاشوراء عند المسلمين يختلف عنه عند اليهود: فهو عندنا العاشر من المحرم، وهو شهر قمرى، على حين أنه عندهم يقع يوم الكفارة، الذى يتبع التوقيت العبرى، إذ هو العاشر من شهر تسرى، فهما توقيتان مختلفان تماما كما نرى. والملاحظ أن كاتب المادة الخاصة بالصيام فى "الموسوعة اليهودية" قد أهمل ما قاله صاحب مادة "Muhammad" من أن امتداد الصيام فى الإسلام لمدة شهر كامل مأخوذ من النصارى، إذ نراه بدلا من ذلك يقول بأن الرسول قد استعار صوم رمضان من اليهودية أيضا. وهو، كما ترى، تناقضٌ فِجّ، علاوة على أن مدة أى نوع من الصوم عند النصارى ليست شهرًا كما هو معروف، كما أن توقيت الصيام عندهم يختلف عن توقيتنا!
ليس ذلك فحسب، فصيام اليهود ينحصر فى الامتناع عن الأكل والشرب كما يقول واضع مادة "الصيام" فى الموسوعة المذكورة، بل إن بعض الأصوام عندهم يجوز فيها الأكل والشرب أيضا ما عدا اللحم والخمر حسبما جاء فى المادة التى نحن بصددها، أما فى الإسلام فيمتنع الصائم عن الأكل والشرب، وكذلك النكاح أيضا، علاوة على ما لفت إليه الرسول الكريم من أن الصيام عن هذه الثلاثة لا يكفى، إذ لا بد أن يصوم المسلم معها عن الغِيبَة والنميمة وقول الزور والعمل به...إلخ. أى أن الصيام فى الإسلام ليس صياما بدنيا فقط بل أخلاقى أيضا. كذلك فالصيام الفرض عند اليهود متعدِّدٌ وموزَّعٌ على مدار العام، أما فى الإسلام فليس إلا رمضان. ولا ننس أن صومنا يجرى على التوقيت القمرى، بخلاف صيامهم. كما أنهم يبدأون الصيام من شروق الشمس، وينتهون منه حين تبدو أول نجوم المساء. أما فى ديننا فنصوم من الفجر (وليس من الشروق كما كتب واضع المادة)، ونُفْطِر مع الغروب. فكيف يقال بعد هذا كله إن الرسول قد استعار شعيرة الصوم من اليهود؟ ومع ذلك فينبغى أن نقول كلمة سريعة عن الصوم عند النصارى كى يتبين الحق من الباطل فى هذه النقطة، فهم ( كما جاء فى مادة "Fasting" فى "thefreedictionary.com" [تحرير Farlex]، و"The New Advent Catholic Encyclopedia") يصومون أصواما متعددة تختلف من مذهب لمذهب، ومن بلد لبلد، علاوة على أن الصيام عندهم متعدد وموزع على فصول السنة أيضا بخلافه فى دين سيد الرسل . أما عن كيفية الصوم فالكاثوليك يكتفون فى صيامهم بوجبة واحدة خالية من اللحوم وما إليها يتناولونها فى منتصف النهار، وقد يتناولون إلى جانبها وجبتين أُخْرَيَيْنِ خفيفتين فى أول اليوم وآخره، أما الأرثوذكس فيمتنعون عن جميع الأطعمة الحيوانية وزيت الزيتون، وربما باقى الزيوت الأخرى أيضا، إلى جانب الخمر والكحوليات. وفى البروتستانتية نراهم يختلفون ما بين الاعتقاد فى أهمية الصوم أو عدم أهميته فى الحصول على الخلاص. لكن النصارى على تباين مذاهبهم لا يمتنعون عن الجماع كما نفعل نحن. وهو ما يبين بكل جلاء أن صيامنا يختلف اختلافا شديدا عن صيام أهل الصليب أيضا.

وتبقى دعوى الكاتب بأن القرآن لم يأت فى مجال التشريعات الطعامية بشىء يخالف ما فى شريعة اليهود، وهذه دعوى يكذّبها الواقع الذى يفقأ عيون المدلّسين، فقارئ القرآن يعلم تمام العلم أنه لم يحرم من الأطعمة إلا "الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكَّيتم وما ذُبِح على النُّصُب"، مع السماح للمضطر أن يتناول من ذلك على قدر الضرورة لا يعدوها (المائدة/ 3). وكان سبحانه قد حرّم على اليهود جزاءَ بغيهم "كُلّ ذى ظُفُر، ومن البقر والغنم حرَّمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورُهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم" (الأنعام/ 146). وقد اعترض يهود المدينة على إباحة الإسلام لبعض الأطعمة التى يحرمونها هم، فرد القرآن عليهم قائلا: "كُلُّ الطعام كان حِلاًّ لبنى إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تُنَزَّل التوراة. قل: فأْتُوا بالتوراة فاتْلُوها إن كنتم صادقين* فمن افترى على الله الكذبَ من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون" (آل عمران/ 93- 94). ذلك أنهم لا يأكلون مثلا الجمل ولا الأرنب ولا الوَبْر ولا حيوان البحر عديم الزعانف والفلوس (تثنية/ 14/ 7، 11)، أما المسلمون فليس عليهم فى أكلها من حرج. كذلك فالإسلام يشدد فى تحريم الخمر تشديدا مطلقا حتى لَيُضْرَب بها المثل فى التحريم الذى لا تساهل فيه ولا مخرج منه، على عكس ما هو الأمر فى اليهودية، وكذلك النصرانية. فكيف بعد هذا كله يزعم الكاتب أن دين محمد لم يأت فى مجال الأطعمة إلا بما لدى اليهود؟ وبعد فإنه لا يضير الإسلامَ فى شىء أن تتشابه بعض شرائعه مع شرائع التوراة أو الإنجيل لأن المصدر واحد، وهو وحى السماء، إلا أن القول بأن الرسول الكريم قد استمد تشريعاته استمدادا من اليهود أو النصارى أنفسهم لا عن طريق الوحى هو شىء مختلف عما نحن بسبيله هنا كما لا يخفى على كل من له عينان للإبصار، وأذنان للسمع، وقلب للتفقه والاعتبار.
ويزعم الكاتب أيضا أن الإسلام، منذ بداية أمره حتى الفترة المكية المتأخرة، لم يكن يختلف فى شىء عن اليهودية والنصرانية، وأن الرسول لم يكن يوجه دعوته إلا إلى مشركى العرب، وأن اشتراط الإيمان بنبوته عليه السلام لم يُطْرَح على بساط الاعتقاد إلا فى المدينة، إذ لم تكن مهمته آنئذٍ إرساء القواعد اللاهوتية، بل الدعوة إلى القيم الخلقية ليس إلا، مع النص على أن ما جاء به حينذاك ليس شيئا غير ما عند "أهل الكتاب". ولست أدرى ماذا يمكن أن يقال لمثل هذا الكائن الذى يبدو وكأنه قد فقد عقله، وإن كان فى واقع الأمر لم يفقده، بل فَقَدَ، وبملء وعيه وتخطيطه وخبثه، خُلُقَ الصدق واحترام حقائق التاريخ ومراعاة نصوص الدين الذى يتحدث عنه، وكأنه يتحدث عن دينٍ ضاعت كتبه فى مراحل ما قبل التاريخ!
إن القرآن المكى يفيض بالنصوص التى تتحدث عن رسالة محمد، وتضعه مع الرسل والأنبياء السابقين فى نفس السياق، وتقيس ما يلقاه من قومه على ما كان نظراؤه من أنبياء الأمم الأخرى يَلْقَوْنه، وأن الله هو رب السماوات والأرضين وخالق الكون كله ومدبّر أمره، وهو الرازق المنعم، والرحمن الرحيم، والشديد العقاب ذو الطَّوْل، وأن القرآن هو وحى السماء، نزل به الروح الأمين جبريل على قلبه ليكون من المنذرين، وأن الله قد تكفل بحفظه، وأن هناك بعثا وحشرا وحسابا وثوابا وعقابا، وأن من يجحد بذلك فهو من أهل الجحيم حيث العذاب الدائم الذى لا يطاق. أليست هذه كلها أمورا اعتقادية؟ بطبيعة الحال كانت هناك توجيهات أخلاقية ودعوة إلى الإصلاح الاجتماعى، لكن كانت هناك أيضا مسائل اعتقادية تتعلق (كما قلت) بالله والرسل والملائكة والشياطين والجنة والنار، فبأى حق يَكْذِب الكاتب الصفيق ويَدَّعِى أن الإسلام فى المرحلة المكية لم يكن سوى مجموعة من التوجيهات الخلقية لا أكثر ولا أقل، وأن الإيمان بنبوة محمد لم يكن جزءا من هذا الدين حينذاك؟ إن هذا عبثٌ دونه عبثُ الأطفال السفهاء! وما هكذا تكون حروب الرجال لخصومهم! ولكن متى كان أمثال الكاتب يعرفون معنى للرجولة أو الشرف فى خصوماتهم مع الإسلام؟ إننا هنا إزاء نسخة أخرى من يهود المدينة، الذين لم يكن لهم قَطّ موقفٌ رجولىٌّ رغم كل الجعجعات والمؤامرات التى برعوا فيها، والتى كانت تقع مع هذا على رؤوسهم فى كل مرة وقوعَ الصواعق المدمرة، حتى انتهى أمرهم مع سيدنا رسول الله إلى ما انتهى إليه جَرّاءَ غدرهم وكفرهم وسفاهتهم وسفالتهم! ولن أقف الآن إلا عند النصوص القرآنية المكية التى تنصّ على نبوّة الرسول الكريم وتدعو إلى الإيمان به: "ألر كتابٌ أُحْكِمتْ آياته ثم فُصِّلتْ من لدُنْ حكيمٍ خبير* ألاّ تعبدوا إلا الله. إننى لكم منه نذير وبشير" (هود/ 1- 2)، "وبالحق أنزلناه، وبالحق نَزَل. وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا* وقرآنًا فَرَقْناه لتقرأه على الناس على مُكْثٍ، ونزَّلناه تنزيلا" (الإسراء/ 105- 106)، "وإذ صَرَفْنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصِتوا. فلما قُضِىَ وَلَّوْا إلى قومهم منذرين* قالوا: يا قومنا، إنا سمعنا كتابًا أُنْزِل من بعد موسى يَهْدِى إلى الحق وإلى طريقٍ مستقيم* يا قومنا، أجيبوا داعىَ الله وآمِنوابه يغفرْ لكم من ذنوبكم ويُجِرْكم من عذاب أليم* ومن لا يُجِبْ داعِىَ الله فليس بُمْعجِزٍ فى الأرض، وليس له من دونه أولياء. أولئك فى ضلالٍ مبين" (الأحقاف/ 29- 32)، "قل: ما كنتُ بِدْعًا من الرسل..." (الأحقاف/ 35)، "الذين يتّبعون الرسولَ النبىّ الأُمِّىّ..." (الأعراف/ 157)، "قل: إنما أنا بشرٌ مثلكم يُوحَى إلىَّ أنما إلهكم إلهٌ واحدٌ، فاستقيموا إليه واستغفِروه، وويلٌ للمشركين" (فصلت/ 6)، "قل: يا أيها الناس، إنى رسول الله إليكم جميعا" (الأعراف/ 158)، "فآمِنُوا بالله ورسوله النبىّ الأُمِّىّ الذى يؤمن بالله وكلماته" (الأعراف/ 158)، "وقال الرسول: يا رب، إن قومى اتخذوا هذا القرآن مهجورا" (الفرقان/ 57)، "قل: سبحان ربى! هل كنتُ إلا بشرًا رسولا؟" (الإسراء/ 93)، "إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعونَ رسولا* فعصى فرعونُ الرسولَ فأخذناه أَخْذًا وبيلاً* فكيف تتقون إن كفرتم يومًا يجعل الوِلْدان شِيبًا؟" (المزمل/ 15- 16)، "ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا" (الجن/ 23)، "وكذلك جعلنا لكل نبىٍّ عدوًّا شياطينَ الإنس والجن" (الأنعام/ 112)، "وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين" (الأنبياء/ 107)، "وما أرسلناك إلا كافَّةً للناس بشيرًا ونذيرًا" (سبأ/ 28)...إلخ. بل إن هناك (كما نرى) آيات تنص نصًّا على أن رسالته عليه الصلاة والسلام موجهة إلى الناس جميعا لا إلى قومه فحسب، فضلا عن الآيات 29- 32 من سورة "الأحقاف"، التى تشير إلى أنه لم يكن رسولا إلى الإنس وحدهم بل إلى الجن أيضا، كما أن آيات سورة "الأعراف" موجهة إلى العالمين وكذلك اليهود أنفسهم، وهو ما يفضح بكل قوةٍ مزاعم هذا الأفاك! وقد انصب تكذيب المشركين من قوم الرسول عليه الصلاة والسلام على إنكارهم لنبوته واشتراطهم أن ترسل السماء نبيًّا من الملائكة لا من البشر وأن يأتيهم بما يقترحونه عليه من آيات: "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم" (يوسف/ 109)، "بل هو شاعر. فليأتنا بآية كما أُرْسِل الأولون" (الأنبياء/ 5)، "وقالوا: لن نؤمن لك حتى تَفْجُر لنا من الأرض ينبوعا* أو تكون لك جنة من نخيلٍ وعنبٍ فتفجِّر الأنهار خلالها تفجيرا* أو تُسْقِط السماء كما زعمت علينا كِسَفًا أو تأتىَ بالله والملائكة قبيلا* أو يكون لك بيتٌ من زُخْرُف أو تَرْقَى فى السماء، ولن نؤمن لرقيّك حتى تُنَزِّل علنا كتابًا نقرؤه" (الإسراء/ 90- 93) "وما منع الناسَ أن يؤمنوا إذ جاءهم الهُدَى إلا أن قالوا: أًبَعَثَ اللهُ بشرًا رسولا؟* قل: لو كان فى الأرض ملائكةٌ يمشون مطمئنين لنَزَّلْنا عليهم من السماء مَلَكًا رسولا" (الإسراء/ 94- 95)، فكيف يقال بعد هذا كله إن دعوة محمد فى مرحلتها المكية كانت تخلو من الكلام عن نبوته ولا تشترط الإيمان به صلى الله عليه وسلم؟

أما عن زعم كاتبنا بأن الآيات المكية المتأخرة ذاتها تنص على أن ما جاء به الرسول الكريم ليس شيئا آخر سوى ما عند "أهل الكتاب: men of the revelation"، أى اليهود والنصارى كما يقول، فلسوف أفاجئ القارئ بما يجعله يفغر فاه دهشا لجرأة الكاتب العجيبة وقدرته الفذة على الاختراع والتدليس دون أن يطرف له جفن، وأقول له إن القرآن إذا ذكر "أهل الكتاب" فإنما يذكرهم فى مقام المجادلة لهم والزراية عليهم وتخطتئتهم واتهامهم بالعناد والكفر، اللهم إلا عندما يعلن أحد منهم إيمانه بمحمد ويعتنق الإسلام مثلما هو الأمر فى الآية قبل الأخيرة من سورة "آل عمران" مثلا، وإن المواضع الإحدى والثلاثين التى ورد ذكرهم فيها فى كتاب الله كلها آيات مدنية ما عدا مرة واحدة يتيمة هى قوله تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن..." (العنكبوت/ 46)، وهى (كما ترى) فى الجدال والخلاف أيضا لا فى الإشارة إلى تناغم الدعوة المحمدية مع ما عندهم كما يزعم مؤلف المادة! أما كلمة "يهودى" (مرة واحدة)، وكلمة "يهود" (8 مرات)، وكلمة "نصرانى" (مرة واحدة)، وكلمة "نصارى" (14 مرة) فلم يرد منها شىء البتة فى الوحى المكى، كما أن السياقات التى وردت فيها هى كلها سياقات اتهام وتهديد بمصيرٍ أليم، اللهم إلا حين تقول إن باب النجاة مفتوح لهم كما هو مفتوح للمسلمين بشرط أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر، أى يعتنقوا دعوة محمد ويدخلوا الإسلام، أو إنهم قد أسلموا فعلا كما هو الحال فى آيات سورة "المائدة" المشهورة التى يظن بعض الناس أنها تُثْنِى على النصارى بما هم نصارى، مع أنها تقول بصريح اللسان إن القساوسة والرهبان الذين ورد ذكرهم فيها قد سمعوا ما أُنْزِل إلى الرسول ففاضت أعينهم من الدمع تأثرا بآيات الله وأعلنوا إيمانهم بمحمد عليه السلام! عجبى من هذا الكذب الوقح الوجه، السميك الجلد! على أن القرآن مع هذا قد يشير، فى خطابه للنبى عليه السلام فى المرحلة المكية، إلى "الذين يقرأون الكتاب من قبلك" أو إلى "أهل الذكر"، لكن هذه الإشارات إنما تتحدث عن الذين كانوا يتوقعون منهم مجيئه أو أولئك الذين صدَّقوا فعلا برسالته بعد أن أعلن بها، وتستشهد بهم على أن ما جاء به هو الحق الذى لا ريب فيه، كما فى حالة ورقة بن نوفل مثلا. أما "أهل الكتاب" أو "اليهود والنصارى" فكَلاّ ثم كَلاّ، وهذه آيات القرآن موجودة لمن يريد أن يرجع إليها.

وكذلك هى موجودة لمن يريد أن يتحقق من كذب المؤلف فى زعمه أيضا أن الإسلام فى مكة لم يأت بشىء يختلف عما عند اليهود والنصارى: فالمعروف أن القرآن المكىّ يؤكد أنه سبحانه وتعالى "لا تدركه الأبصار" وأنه "ليس كمثله شىء" وأنه "على كل شىء قدير"، وأنه "هو القوىّ المتين"، وهذا يتعارض مع ما يقوله العهد القديم مثلا من أن يعقوب قد ظل يصارعه، عزَّتْ قدرته، طوال الليل ممسكا به بطريقة يصعب معها أن يفلت منه مما لم يجد الله معه بُدًّا من أن يضربه ضربة مؤلمة على حُقّ فخذه، وباركه فوق البيعة ربما إعجابا بمهارته فى المصارعة، تلك المهارة التى تفوّق فيها على الله، إذ أمسك بتلابيبه إمساكة لم يستطع أن يتفلفص منها إلا بعد أن نزل على شرطه وأعطاه البركة، وكأننا فى مصارعة بين "فتوَّتَيْن" فى "مولد" أحد الأولياء، "شىء لله يا سيدنا الولىّ"! ولا أدرى كيف فاتت هذه صلاح جاهين فلم يضمّنها رائعته "الليلة الكبيرة" حتى تكمل وتحلو وتبقى ليلة فُلَّلِيّة! (تكوين/ 32/ 25- 31، و35/ 109)، كما يتعارض مع ما يقوله العهد القديم أيضا من أن موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعين رجلا من قومه قد رأَوُا الله "وَتَحْتَ رِجْلَيْهِ شِبْهُ صَنْعَةٍ مِنَ الْعَقِيقِ الأَزْرَقِ الشَّفَّافِ وَكَذَاتِ السَّمَاءِ فِي النَّقَاوَةِ. 11... فَرَأُوا اللهَ وَأَكَلُوا وَشَرِبُوا" (خروج/ 24/ 10- 11). الله أكبر! ما هذا الهنا الذى نحن فيه؟ وبالمثل ينفى القرآن عن رب العزة أنه يمكن أن يلحقه تعب فيحتاج من ثم إلى شىء من الراحة بعد أن فرغ من خلق السماوات والأرض (ق/ 38)، على عكس ما نقرأ فى سفر "التكوين" (2/ 1- 3) من أنه سبحانه، بعد أن انتهى من خلقهما فى ستة أيام، "استراح فى اليوم السابع". كما أن القرآن منذ وقت مبكر فى مكة قد حمل على من يجعلون لله ولدا بما فيهم النصارى، الذين خطّأهم فى قولهم ببنوة عيسى عليه السلام لله مؤكدا فى نصوص عنيفة أنه ليس إلا عبدا له سبحانه أنعم الله عليه وجعله نبيا لبنى إسرائيل (الأنعام/ 101، والإسراء/ 111، والكهف/ 4- 5، ومريم/ 30- 40، 88- 95، والأنبياء/ 22، والمؤمنون/ 91، والفرقان/ 2، والزخرف/ 57- 65 مثلا). ونحن نعلم أن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة قد وجدوا أنفسهم فى موقفٍ حَرِجٍ لا يُحْسَدون عليه حينما سألهم القساوسة فى مجلس النجاشى بتحريضٍ من رسولَىْ قريش عن عقيدتهم فى عيسى عليه السلام، لكنهم رغم ذلك لم يجمجموا ولم يجاملوا، بل صَدَعوا بما تقوله سورة "مريم" من أنه عليه السلام ليس إلا عبدًا نبيًّا، وهو ما لَقِىَ القبولَ من العاهل الحبشى الذى فتح الله قلبه لنور الحق وأعلن أن ما قالوه لا يختلف عما يؤمن هو به فى ذلك النبى الكريم أدنى اختلاف! ومعروف أيضا أن النصارى يؤمنون بتوارث البشر عن أبيهم آدم وأمهم حواء ما يسمونه: "الخطيئة الأصلية"، كما أن اليهود يؤمنون بامتداد العقاب للجيل الثالث والرابع من ذرية المخطئ لا لشىءٍ سوى أنهم من سلالته (خروج/ 20/ 5، و34/ 7، وتثنية/ 5/ 10)، فجاء القرآن يحطم هذا الاعتقاد الذى لا معنى له ولا عدل فيه، مكررا بعبارات متنوعة وفى مواضع مختلفة من آياته "أن لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أخرى* وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى" (النجم/ 38- 39). ومن عجب، وأمور القرآنِ كلها عجب فى عجب، أن النص القرآنى الحالى يستبق الأمر ويرد مقدما على كل من تسوّل له نفسُه الهجومَ الكاذبَ عليه، فنراه فى الآيتين السابقتين على آيتينا هاتين يلفت الأنظار إلى أن هذا المبدأ قد نُصَّ عليه نَصًّا فى صحف موسى، على خلاف ما هو مثبت الآن فى العهد القديم من أن العقاب على الخطإ يطول الجيل الثالث والرابع من ذرية المخطئين! ثم يقول الكذاب إن الإسلام لم يأت فى مكة بشىء جديد ليس عند اليهود النصارى! الحق أن القرآن المكىّ لم يأت فقط بأشياء ليست فى يد اليهود والنصارى، بل يخطّئهم أيضا ويعلّمهم الصواب الذى كان عندهم يوما لكنهم أَخْفَوْه أو مَحَوْه! ونكتفى بهذه الخطوط العامة، وفى ميدان العقيدة فقط، فلا ندخل فى أخطاء الكتاب المقدس التى ترشدنا إليها المقارنة بينه وبين القرآن الكريم أو الاختلافات الموجودة بين الكتابين فى مسائل العبادات والمواريث والنجاسات والمعاملات أو الطريقة البشعة التى صوَّر بها مؤلفو الكتاب المقدس رسلَ الله وأنبياءه فجعلوهم قتلةً مجرمين، وزناةً متهتكين، وللجنس مع المحارم ممارسين، وشِرِّيبى خمرٍ سكّيرين، وبعبادة الأوثان راضين، فجاء القرآن وعدل الصورة بحيث تليق بمن اصطفاهم الله وجعلهم نبيين مصلحين، وإلا فلن ننتهى! على أن الكاتب قد تجاهل أن العكس فى مسألة التأثر التشريعى هو الصحيح، إذ نقل اليهودُ الذين كانوا يعيشون فى المجتمع الإسلامى غَيْرَ قليل من تشريعات الإسلام وجعلوها جزءا لا يتجزأ من عباداتهم وأحوالهم الشخصية. ولأترك أحد المتخصصين فى لغة اليهود وآدابهم، وهو د. محمد جلاء إدريس، يُلْقِى بعض الضوء على هذه النقطة، إذ جاء ردُّه على سؤالٍ سُئِلَه عن مدى تأثير الفقه الإسلامى على نظيره اليهودى على النحو التالى: " عاش اليهود في بيئة عربية إسلامية على مدى 1400 سنة، فمن الطبيعي أن ينقل هؤلاء معهم بعد هجرتهم إلى إسرائيل التراث العربي والإسلامي والمصري على وجه الخصوص، وهذا التأثير كان له عدة مظاهر منها حفظهم للقرآن واستشهاداتهم بآياته، وكذلك الحديث وبعض الجمل الشعبية الأخرى مثل "عليّ الطلاق"، "والله العظيم" و "أقسم بالله". ومن اللافت للنظر أيضاً نقل الأفكار الإسلامية مثل التأثر بالجبرية والجبريين، وبعضهم تأثر بالفقه الإسلامي والمهدي المنتظر والفكر الشيعي. فقد أخذت طائفة القرائين (من اليهود) عن الفقه الإسلامي تحريم زوجة الأب، وقد اعترف علماؤهم اعترافًا صريحًا في ذلك بالأخذ عن مذاهب المسلمين، وتأثيرات إسلامية في مجال العبادات اليهودية كثيرة مثل غسل الرجلين والذراعين ومسح الأذنين والمسح على الرأس، كما اشترطوا ضرورة اغتسال المحتلم للصلاة، وأبطل موسى بن ميمون سرية الصلاة وجعلها جهرًا مخالفًا بذلك شرائع التلمود ومقلدًا للمسلمين، فظهر ما أُطْلِق عليه: "الإسلاميات" في العقيدة اليهودية، وكتب الفقه لدى اليهود على غرار الفقه الإسلامي" (من حوار أجراه معه منير أديب بعنوان "الاستشراق الصليبي" فى مجلة "المنار" المشباكية).
وفى العلاقة بين الرسول واليهود فى يثرب يقول الكاتب إنهم لم يعودوا قادرين مع الأيام على السكوت إزاء ما كان القرآن يحرّفه من روايات الكتاب المقدس عن شخصياتهم التاريخية مثل إبراهيم، الذى يزعم صاحبنا أن القرآن قد صيّره عربيا ونسب إليه بناء الكعبة. وبالمثل يزعم أن الرسول لم يكن يطيق أن يصحح له أحد شيئا من معلوماته المضطربة، ومن ثم أخذ يمطر اليهود بشتائمه العنيفة بعد أن كان يكتفى فى بداية أمره معهم بالهمز واللمز. وحين كانوا يستشهدون بالتوراة على صحة ما يقولون كان رده عليهم أنهم "كالحمار يحمل أسفارا". ولأن معرفته بالتوراة كانت معرفة غير مباشرة حسبما يقول الأفاك، فقد اتهمهم بأنهم لا يفهمونها كما ينبغى أو أنهم يتعمدون إخفاء معناها الحقيقى. ثم يضيف الكاتب بالباطل أنه كان واضحا من سياق الأحداث أن عدوانه عليهم قادم لا محالة، لولا أن كراهيته كانت متجهة فى ذلك الوقت إلى القرشيين، الذين كان ينظر إلى تأبّيهم عليه وموقفهم من أتباعه على أنه إهانة شخصية له ليس من سبيل إلى محوها غير شن الحرب عليهم، ومن ثم نزلت النصوص القرآنية تترى فى الحض على الجهاد وتدمير الحياة نفسها بوصفه جزءا لا يتجزأ من الإيمان. صحيح أن النصوص القرآنية الأولى فى هذا الصدد كانت تحصر دوافع القتال فى رد العدوان، إلا أن الأمر اختلف بعد ذلك حسبما يزعم الكاتب، فرأينا الآيات تحض على المبادرة بالهجوم على الآخرين: فإما اعتنقوا الإسلام، وإما استحقوا القتل.

ويمضى الرجل فى كذبه وتدليسه فى وقائع التاريخ وحقائق الأخبار فيتهم النبى الكريم بأنه كان يحقد على اليهود لأنهم كشفوا جهله بالتوراة ولم يَرْضَوْا أن يدخلوا فى دينه الزائف. وفاته أن التاريخ مسجَّل لم يضع أو يعبث بحقائقه أحد كما ضاعت التوراة فزيَّفها اليهود ولعبت أيديهم النجسة فيها، ثم ادّعَوْا أن عُزَيْرًا قد استعادها كلمةً كلمةً من الذاكرة لم يخرم منها حرفا واحدا. والذين يقرأون كلام صاحبنا من الأوربيين دون أن يكون لديهم علم بما حدث بين النبى واليهود سوف يصدقون كذب الرجل، فيظنون أن النبى فعلا كان صاحب اليد السفلى فى العلم بالتوراة! لكن ماذا يكون الحال يا ترى لو عرفوا أن بعض أحبار اليهود فى المدينة قد أسلموا نزولا على صوت الحق النابع من أعماق ضمائرهم، وأن الذين عاندوا فلم يدخلوا فى دين الرسول قد فضحهم الله على ألسنة أقاربهم ممن كُتِب لهم شرف اعتناق الإسلام؟ لننظر فى قصة عبد الله بن سلام ومُخَيْرِيق وحُيَىّ بن أخطب مثلا لنرى أين الحقيقة وأين الباطل.
يقول ابن هشام فى "السيرة النبوية" عن عبد الله بن سلام وظروف اعتناقه دين محمد: "قال ابن إسحاق: وكان من حديث عبد الله بن سلام كما حدثني بعض أهله عنه وعن إسلامه حين أسلم، وكان حَبْرًا عالما، قال: لما سمعتُ برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفتُ صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكَّف له، فكنت مُسِرًّا لذلك صامتًا عليه حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجلٌ حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة ابنة الحارث تحتي جالسة. فلما سمعتُ الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كَبَّرْتُ فقالت لي عمتي حين سمعتْ تكبيري: خيَّبَك الله! والله لو كنتَ سمعتَ بموسى بن عمران قادما ما زدت. قال: فقلت لها: أَيْ عَمَّة، هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بُعِث بما بُعِث به. فقالت: أي ابن اخي، أهو النبي الذي كنا نُخْبَر أنه يُبْعَث مع نفس الساعة؟ قال: فقلت لها: نعم. قال: فقالت: فذاك إذا. قال: ثم خرجتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمتُ، ثم رجعتُ إلى أهل بيتي فأمرتُهم فأسلموا. قال: وكتمتُ إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله، إن يهود قومٌ ُبهْت، وإني أُحِبّ أن تُدْخِلني في بعض بيوتك وتغيِّبني عنهم ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني. قال: فأدخلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض بيوته ودخلوا عليه فكلموه وساءلوه، ثم قال لهم: أيُّ رجلٍ الحُصَيْنُ بن سلام فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا وحَبْرنا وعالِمنا. قال: فلما فرغوا من قولهم خرجتُ عليهم فقلتُ لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون إنه لرسول الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأومن به وأصدّقه وأعرفه. فقالوا: كذبت، ثم واقعوا بي. قال: فقلت: يا لرسول الله صلى الله عليه وسلم! ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قومٌ بُهْت، أهل غدر وكذب وفجور؟ قال: فأظهرتُ إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث فحَسُنَ إسلامها".

وعن مُخَيْرِيق يقول ابن هشام أيضا: "قال ابن إسحاق: وكان من حديث مخيريق، وكان حَبْرًا عَالِمًا، وكان رجلا غنيا كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته وما يجد في عِلْمه، وغَلَبَ عليه إِلْفُ دِينه، فلم يزل على ذلك، حتى إذا كان يوم أُحُد، وكان يوم أُحُد يوم السبت، قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون إنّ نصر محمد عليكم لحقّ. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سَبْتَ لكم! ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بأُحُد، وعهد إلي من وراءه من قومه: إن قُتِلْتُ هذا اليوم فأموالي لمحمد صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما أراه الله. فلما اقتتل الناس قاتل حتى قُتِل، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني، يقول: مخيريق خَيْرُ يهود. وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله، فعامّة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منها".

وأخيرا هذا حيث صفية بنت حُيَىّ بن أخطب، فلننصت جيدا إلى ما يرويه كذلك ابن هشام لنعرف ما كان يدور خلف الستار: "قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: حُدِّثْتُ عن صفية بنت حُيَيّ بن أخطب أنها قالت: كنتُ أَحَبَّ وَلَدِ أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قَطّ مع ولدٍ لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قُبَاء في بني عمرو بن عوف غَدَا عليه أبي حُيَيّ بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مُغَلِّسَيْن. قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس. قالت: فأتيا كَالَّيْن كسلانين ساقطين يمشيان الهُوَيْنَى. قالت: فهَشِشْتُ إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليَّ واحد منهما مع ما بهما من الغم. قالت: وسمعتُ عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي حُيَيّ بن أخطب: أهو هو؟ قال: نعم والله. قال: أتَعْرِفه وتُثْبِته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوتُه والله ما بَقِيتُ!".
فأما أن القرآن أو حتى المسلمين يقولون إن إبراهيم كان عربيا فلا أدرى من أين للكاتب بهذا الكلام؟ إن كل ما يقولونه هو أنه أبو إسماعيل، الذى تربى بين أَظْهُر العرب وتزوج منهم، فصارت ذريته جزءا من هؤلاء العرب. فإبراهيم إذن هو جدهم (أو "أبوهم" بتعبير القرآن)، لكنه هو نفسه لم يكن عربيا. وهذا كلام يعرفه كل إنسان، فكان أحرى بالكاتب (لو كان ممن يحترمون أنفسهم وينزلون على كلمة التاريخ وأخلاق العلماء فى عدم كتمان الحقيقة والبعد عن التلاعب بها تبعا لأهواء الباحث وعصبيته الدينية أو القومية أو القبلية) أن يراعيه فيما يخطه قلمه! وبالنسبة لذهاب إبراهيم إلى الحجاز وبنائه هو وإسماعيل الكعبة لا بد أن ننبه القارئ إلى أن هذه الرواية ليست من ابتداع القرآن، بل كان العرب يرددونها طوال تاريخهم قبل الإسلام، ولا نعرف أن اليهود قد أنكروها عليهم يوما، بل لم يحدث أَنْ كذّبوا النبى بشأنها رغم كثرة اعتراضاتهم السخيفة التى كانوا يشغبون بها عليه، فما الذى جَدَّ الآن حتى يتهم الكاتبُ رسولَ الله بأنه يستقى معلوماته التاريخية عن اليهود من مصادر غير موثوقة من هنا وههنا؟ لو أن إبراهيم عليه السلام لم يذهب إلى الحجاز، أكان اليهود قد سكتوا كل هذه المدة المتطاولة فلم يردوا على العرب ما كانوا يقولون؟ إن اليهود لا ينكرون أن العرب إسماعيليون، فما وجه الصعوبة إذن، أو ما وجه الاستحالة فى أن يذهب إبراهيم إلى البلد الذى يقيم فيه ابنه والذى أصهر إلى أهله وتزوج امرأة من نسائه؟ ثم لماذا يخترع العرب هذه القصة؟ لقد كانوا يستطيعون أن ينسبوا بناء الكعبة إلى نبى عربى مثل هُودٍ أو صالحٍ مثلا حتى يكون الشرف الحاصل من هذا الإنجاز عربيا، فلماذا لم يفعلوا واختاروا إبراهيم بدلا من ذلك؟ هل كانوا يريدون التقرب من اليهود؟ لكن أين فى تصرفاتهم أو أشعارهم أو أمثالهم ما يدل على أنهم كانوا يعملون على هذا التقرب؟ وما الذى كان يمثله اليهود فى ذلك الوقت عالميا أو محليا حتى يفكر العرب قى التقرب منهم؟ لقد كان اليهود غرباء طارئين على بلاد العرب لجأوا إليها هروبا من الاضطهاد الذى أنزله الرومان بهم فى بيت المقدس، وكان الأوس والخزرج فى يثرب يجيرونهم. وناسٌ مثلهم لا يمكن أن يشكِّلوا لأهل الديار أية أهمية، فضلا عن أن أخلاق اليهود ونفسيتهم الملتوية وجشعهم وحبهم الجارف للمال وحقدهم على البشر جميعا ليست مما يبعث العرب على التفكير فى التشرف بهم! ثم إن العلاقة بين اليثربيين واليهود لم تكن علاقة مودة حتى يقال إن أهل يثرب كانوا حريصين على التقرب منهم. والنص التالى من "السيرة الحلبية"، وهو متعلق بالآية 90 من سورة "البقرة"، يلقى الضوء على طبيعة تلك العلاقة التى لا يمكن أبدا أن ترشِّح لظهور مثل تلك الرغبة المزعومة عند العرب فى التقرب من يهود والابتهاج بالانتساب إليهم: "من ذلك ما حدث به عاصم بن عمرو بن قتادة عن رجال من قومه قالوا: إنما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله تعالى لنا وهُدَاه ما كنا نسمع من أحبار يهود. كنا أَهْلَ شِرْكٍ أصحابَ أوثان، وكانوا أهل كتابٍ عندهم علمٌ ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمانُ نبيٍّ يُبْعَث الآن يقتلكم قَتْلَ عادٍ وإِرَم، أي يستأصلكم بالقتل. فكان كثيرا ما نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله عز وجل، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به، فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا. ففي ذلك نزلت هذه الآية في "البقرة": "ولمّا جاءهم كتابٌ من عند الله مصدقٌ لما معهم وكانوا من قَبْلُ يستفتِحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به! فلعنة الله على الكافرين!". وعلى أية حال فلم يكن سائر العرب خارج يثرب يهتمون باليهود، بل ربما لم يكونوا على علم بوجودهم هناك، إذ لم تكن ليثرب فى نظر العرب آنذاك أية أهمية، على عكس ما حدث بعد الهجرة النبوية إليها حيث اقتربت مكانتها فى الضمير الإسلامى من مكانة أم القرى.

ولنفترض أن هذه المسألة مما لا يمكن البت فيها تاريخيا، فهل الكتاب المقدس من العصمة بحيث لا يمكن أيةَ روايةٍ تخالف ما جاء فيه، أو على الأقل لم يذكرها بين ما ذكر من أحداث ووقائع، إلا أن تكون كاذبة أو خاطئة؟ تعالَوْا ننظر فى بعض ما رواه ذلك الكتاب لنرى مدى ما فيه من منطق أو سخف لا يقبله العقل، ومدى ما فيه من التاريخية أو الأسطورية والخرافة، ومدى ما فيه من التلاؤم أو التناقض بين أجزائه. ولنكن من الآن على ذُكْرٍ من أن الشك يحيط بالكتاب المقدس من كل أطرافه، سواء من جهة مؤلفى أسفاره أو من جهة سلامته من العبث والتحريف أو من جهة المعلومات التاريخية والعلمية التى يحتوى عليها أو من جهة الأرقام التى يذكرها...إلخ، وهذا ما يقوله علماؤهم أيضا لا علماؤنا وحدهم، ودَعُونا من العوامّ واعتقادات العوامّ، فليس لهؤلاء نكتب ما نكتبه هنا. والآن مع بعض نصوص الكتاب المقدس نوردها شواهد على ما نقول فى حق هذا الكتاب من أنه لا يصمد للعقل ولا للبحث العلمى، وأنه يناقض الحقائق التاريخية والطبيعية والرياضية:

"10وَكَانَ نَهْرٌ يَخْرُجُ مِنْ عَدْنٍ لِيَسْقِيَ الْجَنَّةَ وَمِنْ هُنَاكَ يَنْقَسِمُ فَيَصِيرُ أَرْبَعَةَ رُؤُوسٍ: 11اِسْمُ الْوَاحِدِ فِيشُونُ وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ الْحَوِيلَةِ حَيْثُ الذَّهَبُ. 12وَذَهَبُ تِلْكَ الأَرْضِ جَيِّدٌ. هُنَاكَ الْمُقْلُ وَحَجَرُ الْجَزْعِ. 13وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّانِي جِيحُونُ. وَهُوَ الْمُحِيطُ بِجَمِيعِ أَرْضِ كُوشٍ. 14وَاسْمُ النَّهْرِ الثَّالِثِ حِدَّاقِلُ. وَهُوَ الْجَارِي شَرْقِيَّ أَشُّورَ. وَالنَّهْرُ الرَّابِعُ الْفُرَاتُ" (تكوين/ 2). أرأيت، أيها القارئ العزيز، هذه الدُّرر الجغرافية والجيولوجية الحلمنتيشية التى يتقاصر دونها كل ما فى كتب علماء الجغرافيا والجيولوجيا؟
"6فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضاً مَعَهَا فَأَكَلَ. 7فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا وَعَلِمَا أَنَّهُمَا عُرْيَانَانِ. فَخَاطَا أَوْرَاقَ تِينٍ وَصَنَعَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ. 8وَسَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلَهِ مَاشِياً فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإِلَهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ. 9فَنَادَى الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ: «أَيْنَ أَنْتَ؟». 10فَقَالَ: «سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ»" (تكوين/ 3). ترى أهذا إله أم عُمْدَة من عُمَد الريف عندنا فى مصر خرج لتفقد حقوله بعد غفوة القيلولة وهبوب نسمة العصارى؟ ثم أى إله هذا الذى يختبئ منه عباده فلا يستطيع أن يعرف أين اختبأوا فيُضْطَرّ إلى رفع صوته يسألهم أين يختبئون؟

"1وَحَدَثَ لَمَّا ابْتَدَأَ النَّاسُ يَكْثُرُونَ عَلَى الأَرْضِ وَوُلِدَ لَهُمْ بَنَاتٌ 2أَنَّ أَبْنَاءَ اللهِ رَأُوا بَنَاتِ النَّاسِ أَنَّهُنَّ حَسَنَاتٌ. فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا. 3فَقَالَ الرَّبُّ: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ. لِزَيَغَانِهِ هُوَ بَشَرٌ وَتَكُونُ أَيَّامُهُ مِئَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً». 4كَانَ فِي الأَرْضِ طُغَاةٌ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ أَيْضاً إِذْ دَخَلَ بَنُو اللهِ عَلَى بَنَاتِ النَّاسِ وَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلاَداً - هَؤُلاَءِ هُمُ الْجَبَابِرَةُ الَّذِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ ذَوُو اسْمٍ. 5وَرَأَى الرَّبُّ أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ. 6فَحَزِنَ الرَّبُّ أَنَّهُ عَمِلَ الإِنْسَانَ فِي الأَرْضِ وَتَأَسَّفَ فِي قَلْبِهِ. 7فَقَالَ الرَّبُّ: «أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ: الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ. لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ»"(تكوين/ 6). هل سمع أحد من عقلاء البشر أو حتى مجانينه أن لله أولادا؟ فمَنْ أمُّهم يا ترى؟ ثم عندما ذهب أولاد الله ليخطبوا بنات الناس، هل أخذوه معهم ليفاتح آباءهن ويتفق معهم على الشبكة والمهر والشقة والأثاث والذى منه؟ ثم أى إله ذلك الذى يأسف ويندم على ما فعل؟ هذا ليس هو الله رب العالمين بل إله من آلهة الوثنيين البدائيين بلغ من غضبه وندمه أنْ تَشَوَّش عقله فلم يعد يستطيع أن يقوم بأتفه العمليات الحسابية، فمرة يقول لنوح: خذ من كل كائنٍ حىٍّ اثنين اثنين ذكرًا وأنثى، ثم ينسى ما قاله بعد قليل فيجعل العدد من الحيوانات الطاهرة ومن طير السماء سبعةً سبعةً ذكورًا وإناثًا، ليعود مرة أخرى إلى عدد الاثنين (تكوين/ 6/ 19- 20، و7/ 2- 3، 15- 16).
وبمناسبة الحديث عن أبناء الله نحب أن ننبه القارئ أن الكتاب المقدس لا يكتفى بهؤلاء الأبناء المذكورين هنا، بل يذكر له سبحانه أبناءً آخرين كآدم وإبراهيم وإسرائيل وداود وبنى إسرائيل جميعا. وفى هذا يقول القرآن الكريم: "وقالت اليهود والنصارى: نحن أبناءُ اللهِ وأحبّاؤه. قل: فلِمَ يعذّبكم بذنوبكم؟ بل أنتم بشرٌ ممن خَلَق. يغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء..." (المائدة/ )، "قل: يا أيها الذين هادوا، إنْ زعمتم أنكم أولياءُ لله من دون الناس فتمنَّوُا الموتَ إن كنتم صادقين* ولا يتمنَّونْه أبدا بما قدَّمت أيديهم، والله عليمٌ بالظالمين* قل: إن الموت الذى تفرّون منه فإنه ملاقيكم، ثم تُرَدّون إلى عالِم الغيب والشهادة فينبِّئكم بما كنتم تعملون" (الجمعة/ 6- 8). وطبعا يستطيع أى عاقل لم يتلوث فكرُه أو ضميرُه أو تأخذه العصبية عن رؤية الحق والشهادة به أن يدرك الفرق الرهيب بين النظرة الإسلامية الإنسانية التى تسوِّى بين البشر جميعا فى صلتها بالله وبين هذه الرؤية الأنانية المتعصبة المجنونة التى تزعم أن الله يفرّق بين عباده فيقرِّب بعضهم ويُقْصِى بعضهم لا على أساس من إيمانهم وعملهم، بل محاباةً عمياءَ هوجاءَ لا تليق بأى إنسان حكيم، بَلْهَ إلهًا عظيمًا رحيمًا عادلاً كريمًا يعلو فوق العصبيات القبلية والوطنية والقومية والعرقية واللونية، ببساطة لأنه خالق الكلّ ويرحم الكلّ ويرزق الكلّ ويريد الخير والهداية للكلّ، ولا مقياس عنده للتفاضل غير النية الطيبة والإيمان المستقيم والعمل الصالح والطاعة والإخبات! ومرة أخرى لا يكتفى الكتاب المقدس بهذا، بل يجعل له سبحانه زوجة. ولم لا، والأولاد لا يأتون (كما نعرف) من أكمام الحاوى، بل لا بد من زوج وزوجة! جاء فى "المزامير" على لسان داود مخاطبًا الله تعالى: "وقفتْ زوجتُك عن يمينك، وعِقَاصُها من ذهب. أيتها الابنة، اسمعى وميلى بأذنيك، وأبصرى وانْسَىْ عشيرتك وبيت أبيك فيهواك الملِك، وهو الربّ والله، فاسجدى له طوعا". كان هذا فى النسخة التى فى يد ابن حزم رضى الله عنه، ثم غيَّر مترجمو البروتستانت فى العصر الحديث ذلك فحذفوا كلمة "زوجتك" ووضعوا مكانها لفظة "المَلِكة"، كما استبدلوا بعبارة "وهو الرب والإله" قولهم: "لأنه هو سيدك"! (انظر المزمور 45/ 9- 11، وقارن بالترجمة القديمة الموجودة فى "الفِصَل فى الملل والأهواء والنِّحَل" لابن حزم/ تحقيق د. محمد إبراهيم نصر ود. عبد الرحمن عميرة/ مكتبات عكاظ/ 1402هــ- 1982م/ 1/ 307- 308).

ولعل هنا المكان المناسب لنعرِّف القارئ الطيب القلب بطبيعة العلاقة بين الله سبحانه وتعالى وزوجته كما يصورها مؤلفو الكتاب المقدس. إنه زوج مسكين (أستغفره سبحانه وأبرأ إليه من هذا الرجس، ولكن ماذا نفعل؟ ما باليد حيلة، فإن الأحقاد تأكل قلوب القوم فلا يرتاحون إلا بالتطاول على سيد المرسلين، وهم لن يرتاحوا أبدا، فما كان الحقد يوما بمريحٍ صاحبه، فيضطروننا من ثم إلى الرد عليهم من واقع كتبهم التى يرفعونها فى وجه نبينا الكريم متصورين أنهم يمكن أن يُجْلِبوا على القارئ الطيب الذى ليس عنده فكرة عما يقولون فيظن، لسلامة طويته، أنهم لا يكذبون)، نعم إنهم يصورونه، تباركت أسماؤه، بصورة الزوج المسكين الذى تمرِّغ زوجته كل يوم شرفه فى الرَّغَام فيهدد ويتوعد ويملأ الدنيا بصراخه وشتائمه، ثم لا يفعل شيئا سوى العودة إليها صاغرًا راغمًا وتجرُّع كأس المذلة من جديد!: "2[يَا ابْنَ آدَمَ, عَرِّفْ أُورُشَلِيمَ بِرَجَاسَاتِهَا 3وَقُلْ: هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ لأُورُشَلِيمَ: مَخْرَجُكِ وَمَوْلِدُكِ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ. أَبُوكِ أَمُورِيٌّ وَأُمُّكِ حِثِّيَّةٌ. 4أَمَّا مِيلاَدُكِ يَوْمَ وُلِدْتِ فَلَمْ تُقْطَعْ سُرَّتُكِ, وَلَمْ تُغْسَلِي بِـالْمَاءِ لِلتَّنَظُّفِ, وَلَمْ تُمَلَّحِي تَمْلِيحاً, وَلَمْ تُقَمَّطِي تَقْمِيطاً. 5لَمْ تُشْفِقْ عَلَيْكِ عَيْنٌ لِتَصْنَعَ لَكِ وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ لِتَرِقَّ لَكِ. بَلْ طُرِحْتِ عَلَى وَجْهِ الْحَقْلِ بِكَرَاهَةِ نَفْسِكِ يَوْمَ وُلِدْتِ. 6فَمَرَرْتُ بِكِ وَرَأَيْتُكِ مَدُوسَةً بِدَمِكِ, فَقُلْتُ لَكِ: بِدَمِكِ عِيشِي. قُلْتُ لَكِ بِدَمِكِ عِيشِي. 7جَعَلْتُكِ رَبْوَةً كَنَبَاتِ الْحَقْلِ, فَرَبَوْتِ وَكَبِرْتِ وَبَلَغْتِ زِينَةَ الأَزْيَانِ. نَهَدَ ثَدْيَاكِ وَنَبَتَ شَعْرُكِ وَقَدْ كُنْتِ عُرْيَانَةً وَعَارِيَةً. 8فَمَرَرْتُ بِكِ وَرَأَيْتُكِ, وَإِذَا زَمَنُكِ زَمَنُ الْحُبِّ. فَبَسَطْتُ ذَيْلِي عَلَيْكِ وَسَتَرْتُ عَوْرَتَكِ, وَحَلَفْتُ لَكِ وَدَخَلْتُ مَعَكِ فِي عَهْدٍ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ, فَصِرْتِ لِي. 9فَحَمَّمْتُكِ بِـالْمَاءِ وَغَسَلْتُ عَنْكِ دِمَاءَكِ وَمَسَحْتُكِ بِـالزَّيْتِ, 10وَأَلْبَسْتُكِ مُطَرَّزَةً, وَنَعَلْتُكِ بِـالتُّخَسِ, وَأَزَّرْتُكِ بِـالْكَتَّانِ وَكَسَوْتُكِ بَزّاً, 11وَحَلَّيْتُكِ بِـالْحُلِيِّ, فَوَضَعْتُ أَسْوِرَةً فِي يَدَيْكِ وَطَوْقاً فِي عُنُقِكِ. 12وَوَضَعْتُ خِزَامَةً فِي أَنْفِكِ وَأَقْرَاطاً فِي أُذُنَيْكِ وَتَاجَ جَمَالٍ عَلَى رَأْسِكِ. 13فَتَحَلَّيْتِ بِـالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلِبَاسُكِ الْكَتَّانُ وَالْبَزُّ وَالْمُطَرَّزُ. وَأَكَلْتِ السَّمِيذَ وَالْعَسَلَ وَالزَّيْتَ, وَجَمُلْتِ جِدّاً جِدّاً فَصَلُحْتِ لِمَمْلَكَةٍ. 14وَخَرَجَ لَكِ اسْمٌ فِي الأُمَمِ لِجَمَالِكِ, لأَنَّهُ كَـانَ كَـامِلاً بِبَهَائِي الَّذِي جَعَلْتُهُ عَلَيْكِ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. 15[فَـاتَّكَلْتِ عَلَى جَمَالِكِ وَزَنَيْتِ عَلَى اسْمِكِ, وَسَكَبْتِ زِنَاكِ عَلَى كُلِّ عَابِرٍ فَكَانَ لَهُ. 16وَأَخَذْتِ مِنْ ثِيَابِكِ وَصَنَعْتِ لِنَفْسِكِ مُرْتَفَعَاتٍ مُوَشَّاةٍ وَزَنَيْتِ عَلَيْهَا. أَمْرٌ لَمْ يَأْتِ وَلَمْ يَكُنْ. 17وَأَخَذْتِ أَمْتِعَةَ زِينَتِكِ مِنْ ذَهَبِي وَمِنْ فِضَّتِي الَّتِي أَعْطَيْتُكِ, وَصَنَعْتِ لِنَفْسِكِ صُوَرَ ذُكُورٍ وَزَنَيْتِ بِهَا. 18وَأَخَذْتِ ثِيَابَكِ الْمُطَرَّزَةَ وَغَطَّيْتِهَا بِهَا وَوَضَعْتِ أَمَامَهَا زَيْتِي وَبَخُورِي. 19وَخُبْزِي الَّذِي أَعْطَيْتُكِ, السَّمِيذَ وَالزَّيْتَ وَالْعَسَلَ الَّذِي أَطْعَمْتُكِ, وَضَعْتِهَا أَمَامَهَا رَائِحَةَ سُرُورٍ. وَهَكَذَا كَـانَ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. 20[أَخَذْتِ بَنِيكِ وَبَنَاتِكِ الَّذِينَ وَلَدْتِهِمْ لِي وَذَبَحْتِهِمْ لَهَا طَعَاماً. أَهُوَ قَلِيلٌ مِنْ زِنَاكِ 21أَنَّكِ ذَبَحْتِ بَنِيَّ وَجَعَلْتِهِمْ يَجُوزُونَ فِي النَّارِ لَهَا؟ 22وَفِي كُلِّ رَجَاسَاتِكِ وَزِنَاكِ لَمْ تَذْكُرِي أَيَّامَ صِبَاكِ, إِذْ كُنْتِ عُرْيَانَةً وَعَارِيَةً وَكُنْتِ مَدُوسَةً بِدَمِكِ. 23وَكَانَ بَعْدَ كُلِّ شَرِّكِ. وَيْلٌ وَيْلٌ لَكِ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ, 24أَنَّكِ بَنَيْتِ لِنَفْسِكِ قُبَّةً وَصَنَعْتِ لِنَفْسِكِ مُرْتَفَعَةً فِي كُلِّ شَارِعٍ. 25فِي رَأْسِ كُلِّ طَرِيقٍ بَنَيْتِ مُرْتَفَعَتَكِ وَرَجَّسْتِ جَمَالَكِ, وَفَرَّجْتِ رِجْلَيْكِ لِكُلِّ عَابِرٍ وَأَكْثَرْتِ زِنَاكِ. 26وَزَنَيْتِ مَعَ جِيرَانِكِ بَنِي مِصْرَ الْغِلاَظِ اللَّحْمِ, وَزِدْتِ فِي زِنَاكِ لإِغَاظَتِي. 27فَهَئَنَذَا قَدْ مَدَدْتُ يَدِي عَلَيْكِ, وَمَنَعْتُ عَنْكِ فَرِيضَتَكِ, وَأَسْلَمْتُكِ لِمَرَامِ مُبْغِضَاتِكِ بَنَاتِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ اللَّوَاتِي يَخْجَلْنَ مِنْ طَرِيقِكِ الرَّذِيلَةِ. 28وَزَنَيْتِ مَعَ بَنِي أَشُّورَ إِذْ كُنْتِ لَمْ تَشْبَعِي فَزَنَيْتِ بِهِمْ, وَلَمْ تَشْبَعِي أَيْضاً. 29وَكَثَّرْتِ زِنَاكِ فِي أَرْضِ كَنْعَانَ إِلَى أَرْضِ الْكِلْدَانِيِّينَ, وَبِهَذَا أَيْضاً لَمْ تَشْبَعِي. 30مَا أَمْرَضَ قَلْبَكِ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ, إِذْ فَعَلْتِ كُلَّ هَذَا فِعْلَ امْرَأَةٍ زَانِيَةٍ سَلِيطَةٍ! 31بِبِنَائِكِ قُبَّتَكِ فِي رَأْسِ كُلِّ طَرِيقٍ, وَصُنْعِكِ مُرْتَفَعَتَكِ فِي كُلِّ شَارِعٍ. وَلَمْ تَكُونِي كَزَانِيَةٍ, بَلْ مُحْتَقِرَةً الأُجْرَةَ. 32أَيَّتُهَا الزَّوْجَةُ الْفَاسِقَةُ, تَأْخُذُ أَجْنَبِيِّينَ مَكَانَ زَوْجِهَا. 33لِكُلِّ الزَّوَانِي يُعْطُونَ هَدِيَّةً, أَمَّا أَنْتِ فَقَدْ أَعْطَيْتِ كُلَّ مُحِبِّيكِ هَدَايَاكِ, وَرَشَيْتِهِمْ لِيَأْتُوكِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ لِلزِّنَا بِكِ. 34وَصَارَ فِيكِ عَكْسُ عَادَةِ النِّسَاءِ فِي زِنَاكِ, إِذْ لَمْ يُزْنَ وَرَاءَكِ, بَلْ أَنْتِ تُعْطِينَ أُجْرَةً وَلاَ أُجْرَةَ تُعْطَى لَكِ, فَصِرْتِ بِـالْعَكْس! 35[فَلِذَلِكَ يَا زَانِيَةُ اسْمَعِي كَلاَمَ الرَّبِّ. 36هَكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ أُنْفِقَ نُحَاسُكِ وَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُكِ بِزِنَاكِ بِمُحِبِّيكِ وَبِكُلِّ أَصْنَامِ رَجَاسَاتِكِ, وَلِدِمَاءِ بَنِيكِ الَّذِينَ بَذَلْتِهِمْ لَهَا, 37لِذَلِكَ هَئَنَذَا أَجْمَعُ جَمِيعَ مُحِبِّيكِ الَّذِينَ لَذَذْتِ لَهُمْ, وَكُلَّ الَّذِينَ أَحْبَبْتِهِمْ مَعَ كُلِّ الَّذِينَ أَبْغَضْتِهِمْ, فَأَجْمَعُهُمْ عَلَيْكِ مِنْ حَوْلِكِ, وَأَكْشِفُ عَوْرَتَكِ لَهُمْ لِيَنْظُرُوا كُلَّ عَوْرَتِكِ. 38وَأَحْكُمُ عَلَيْكِ أَحْكَـامَ الْفَاسِقَاتِ السَّافِكَـاتِ الدَّمِ, وَأَجْعَلُكِ دَمَ السَّخَطِ وَالْغَيْرَةِ. 39وَأُسَلِّمُكِ لِيَدِهِمْ فَيَهْدِمُونَ قُبَّتَكِ وَيُهَدِّمُونَ مُرْتَفَعَاتِكِ وَيَنْزِعُونَ عَنْكِ ثِيَابَكِ وَيَأْخُذُونَ أَدَوَاتِ زِينَتِكِ, وَيَتْرُكُونَكِ عُرْيَانَةً وَعَارِيَةً. 40وَيُصْعِدُونَ عَلَيْكِ جَمَاعَةً وَيَرْجُمُونَكِ بِـالْحِجَارَةِ وَيَقْطَعُونَكِ بِسُيُوفِهِمْ, 41وَيُحْرِقُونَ بُيُوتَكِ بِـالنَّارِ وَيُجْرُونَ عَلَيْكِ أَحْكَـاماً قُدَّامَ عُيُونِ نِسَاءٍ كَثِيرَةٍ. وَأَكُفُّكِ عَنِ الزِّنَا, وَأَيْضاً لاَ تُعْطِينَ أُجْرَةً بَعْدُ. 42وَأُحِلُّ غَضَبِي بِكِ فَتَنْصَرِفُ غَيْرَتِي عَنْكِ فَأَسْكُنُ وَلاَ أَغْضَبُ بَعْدُ. 43مِنْ أَجْلِ أَنَّكِ لَمْ تَذْكُرِي أَيَّامَ صِبَاكِ بَلْ أَسْخَطْتِنِي فِي كُلِّ هَذِهِ, فَهَئَنَذَا أَيْضاً أَجْلِبُ طَرِيقَكِ عَلَى رَأْسِكِ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. فَلاَ تَفْعَلِينَ هَذِهِ الرَّذِيلَةَ فَوْقَ رَجَاسَاتِكِ كُلِّهَا" (حزقيال/ 16).
"2حَاكِمُوا أُمَّكُمْ حَاكِمُوا لأَنَّهَا لَيْسَتِ امْرَأَتِي وَأَنَا لَسْتُ رَجُلَهَا لِتَعْزِلَ زِنَاهَا عَنْ وَجْهِهَا وَفِسْقَهَا مِنْ بَيْنِ ثَدْيَيْهَا 3لِئَلاَّ أُجَرِّدَهَا عُرْيَانَةً وَأَوْقِفَهَا كَيَوْمِ وِلاَدَتِهَا وَأَجْعَلَهَا كَقَفْرٍ وَأُصَيِّرَهَا كَأَرْضٍ يَابِسَةٍ وَأُمِيتَهَا بِـ/لْعَطَشِ. 4وَلاَ أَرْحَمُ أَوْلاَدَهَا لأَنَّهُمْ أَوْلاَدُ زِنًى. 5«لأَنَّ أُمَّهُمْ قَدْ زَنَتِ. الَّتِي حَبِلَتْ بِهِمْ صَنَعَتْ خِزْياً. لأَنَّهَا قَالَتْ: أَذْهَبُ وَرَاءَ مُحِبِّيَّ الَّذِينَ يُعْطُونَ خُبْزِي وَمَائِي صُوفِي وَكَتَّانِي زَيْتِي وَأَشْرِبَتِي. 6لِذَلِكَ هَئَنَذَا أُسَيِّجُ طَرِيقَكِ بِـ/لشَّوْكِ وَأَبْنِي حَائِطَهَا حَتَّى لاَ تَجِدَ مَسَالِكَهَا. 7فَتَتْبَعُ مُحِبِّيهَا وَلاَ تُدْرِكُهُمْ وَتُفَتِّشُ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَجِدُهُمْ. فَتَقُولُ: أَذْهَبُ وَأَرْجِعُ إِلَى رَجُلِي الأَوَّّلِ لأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَانَ خَيْرٌ لِي مِنَ الآنَ. 8«وَهِيَ لَمْ تَعْرِفْ أَنِّي أَنَا أَعْطَيْتُهَا الْقَمْحَ وَالْمِسْطَارَ وَالزَّيْتَ وَكَثَّرْتُ لَهَا فِضَّةً وَذَهَباً جَعَلُوهُ لِبَعْلٍ. 9لِذَلِكَ أَرْجِعُ وَآخُذُ قَمْحِي فِي حِينِهِ وَمِسْطَارِي فِي وَقْتِهِ وَأَنْزِعُ صُوفِي وَكَتَّانِي اللَّذَيْنِ لِسَتْرِ عَوْرَتِهَا. 10وَالآنَ أَكْشِفُ عَوْرَتَهَا أَمَامَ عُيُونِ مُحِبِّيهَا وَلاَ يُنْقِذُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. 11وَأُبَطِّلُ كُلَّ أَفْرَاحِهَا: أَعْيَادَهَا وَرُؤُوسَ شُهُورِهَا وَسُبُوتَهَا وَجَمِيعَ مَوَاسِمِهَا. 12وَأُخَرِّبُ كَرْمَهَا وَتِينَهَا اللَّذَيْنِ قَالَتْ: هُمَا أُجْرَتِي الَّتِي أَعْطَانِيهَا مُحِبِّيَّ وَأَجْعَلُهُمَا وَعْراً فَيَأْكُلُهُمَا حَيَوَانُ الْبَرِّيَّةِ. 13وَأُعَاقِبُهَا عَلَى أَيَّامِ بَعْلِيمَ الَّتِي فِيهَا كَانَتْ تُبَخِّرُ لَهُمْ وَتَتَزَيَّنُ بِخَزَائِمِهَا وَحُلِيِّهَا وَتَذْهَبُ وَرَاءَ مُحِبِّيهَا وَتَنْسَانِي أَنَا يَقُولُ الرَّبُّ. 14«لَكِنْ هَئَنَذَا أَتَمَلَّقُهَا وَأَذْهَبُ بِهَا إِلَى الْبَرِّيَّةِ وَأُلاَطِفُهَا 15وَأُعْطِيهَا كُرُومَهَا مِنْ هُنَاكَ وَوَادِي عَخُورَ بَاباً لِلرَّجَاءِ. وَهِيَ تُغَنِّي هُنَاكَ كَأَيَّامِ صِبَاهَا وَكَيَوْمِ صُعُودِهَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. 16وَيَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَقُولُ الرَّبُّ أَنَّكِ تَدْعِينَنِي «رَجُلِي» وَلاَ تَدْعِينَنِي بَعْدُ «بَعْلِي»" (هوشع/ 2)... ونكتفى بهذين النصين، وهناك نصوص أخرى غيرهما لمن يفتح الكتاب المقدس ويقرأ ولا يكتفى بثقافة الأذن كأذناب الغرب من بيننا الذين يحلو لهم، بسبب غبائهم وسلاطة ألسنتهم، أن يعيبوا "الإسلام" بأنه "ثقافة البعير". وفاتهم، لحماقتهم وسفالتهم، أن المشكلة ليست فى "ثقافة البعير"، بل فيما رُكِّب فى رؤوسهم من "عقول الحمير"!
أما فى النص التالى فإن كاتبه يرتكب التزييف بغباء ليس بعده من غباء، فقد رزق الله خليله إبراهيم بإسماعيل، ثم مكث عليه السلام بعد ذلك عدة أعوام قبل أن يرزقه أيضا بإسحاق، ومع هذا نقرأ فى الكتاب المسمى بـ"المقدس" أَمْرَ الله له بأن يأخذ ابنه "وحيده" ليقدمه له ضحية. ويقول المنطق والعقل ونصوص الكتاب المقدس ذاتها إن الكلام لا يمكن أن يكون إلا عن إسماعيل، لأنه هو الذى يمكن أن يطلَق عليه: "وحيد إبراهيم"، إذ مكث (كما قلنا) عدة أعوام قبل أن يلحق به إسحاق، أما إسحاق فلم يكن وحيد أبيه يوما! لكنْ مهلاً أيها القارئ، فأنت مع "الكتاب المقدس" ذى التفانين والتعاجيب، وعلى هذا فلا تستغرب أن يصادم مؤلفُ هذا السِّفْر المنطقَ والعقلَ والكلامَ الذى كتبه هو قبل ذلك بيده التى سيأكلها الدود فى القبر وتحرقها النار يوم القيامة، فيقول على لسان الله سبحانه: "خذ ابنك وحيدك الذى تحبه: إسحاق..." (تكوين/ 22/ 1- 13). فماذا كان إسماعيل إذن يا ترى؟ ألعلّه كان ابن الجيران؟ أم ترى نَسِىَ اللهُ عزّ وجلّ أنه كان قد وهب إبراهيمَ قبل عدة أعوام ابنًا اسمه إسماعيل؟ ثم يأتى فى آخر الزمان صُوَيْحِبُنا هذا ويجد فى نفسه الجرأة ليكذّب رسولنا بهذه الطريقة السفيهة!

وإذا قرأنا قصة ولادة موسى وما فعلته أمه بعد أن لم تستطع الاستمرار فى إخفائه عن عيون رجال فرعون الموكَّلين بقتل الرُّضَّع من بنى إسرائيل، نجد كاتب القصة يقول إنها أخذت سَفَطًا من البردى وطَلَتْه بالحُمَر والزفت وأرقدت فيه الطفل، ثم وضعته بين الحلفاء على حافة النهر حيث التقطته ابنة فرعون. وواضح أن التابوت، حسب هذه الرواية، لم يُلْقَ فى الماء. وإننا لنتساءل: فلم إذن طلتْه أم موسى بالحُمَر والزفت، وهما المادتان اللتان تُطْلَى بهما القوارب لمنع دخول الماء فيها حتى لا تغرق؟ فإذا مضينا فى القراءة فوجئنا بأن ابنة فرعون تسمى الطفل: "موسى" قائلة: "إنى انتشلتُه من الماء" (خروج/ 2/ 2- 4، 10). وهكذا يتبين لنا مما يقوله كاتب السفر نفسه أن السَّفَط كان قد أُلْقِىَ فى النهر ولم يوضع على الحلفاء فوق الشطّ. ومعنى هذا بكل بساطة ووضوح أن القصة تتناقض مع نفسها، أما القرآن فقد قال قولا واحدا إن الله سبحانه قد ألهم أم الرضيع أن تلقى به فى تابوت ثم تقذف به فى اليَمّ (طه/ 38- 39، والقصص/ 7).

وفى سفر "الخروج" (23/ 20) نقرأ قول الرب لموسى: "لا تقدر أن ترى وجهى، لأن الإنسان لا يرانى ويعيش"، وإن قيل عقب ذلك إن من الممكن أن ينظر موسى وراء الله بعد أن يجتاز، وكأن لله خلفًا وقدامًا، وظَهْرًا ووجهًا بالمعنى المادى المألوف. ونسى كاتب السفر أنه قال فى موضعٍ آخرَ إن الله كان يكلم موسى "وجهًا لوجهٍ كما يكلم الرجلُ صاحبَه" (خروج/ 33/ 11)، وهو ما أكده سفر "العدد"، إذ جاء فيه (12/ 7- 8): "وأما عبدى موسى فليس هكذا، بل هو أمين فى كل بيتى. فمًا إلى فمٍ وعِياتًا أتكلم معه لا بالألغاز"، وقاله موسى نفسه حسبما جاء فى سفر "التثنية" (5/ 4): "وجهًا لوجهٍ تكلم الرب معنا من وسط النار". ليس ذلك فحسب، بل رأى اللهَ، مع موسى، هارونُ ونادابُ وأبيهو وسبعون من شيوخ بنى إسرائيل كما مرّ من قبل.

كذلك يجد القارئ الطيب فى الكتاب المقدس، لو أراد، قصصا عن الأنبياء تشيب لهولها الوِلْدان (والبنات أيضا، أليس لهن نفس؟): فهذا لوط تنام فى أحضانه ابنتاه بعد أن سقتاه خمرا وتمارسان الفحشاء معه بالدور، كل واحدة فى ليلة خاصة بها، حتى تحبلا ويكون لهما ذرية! وهذا إبراهيم يقدِّم زوجته للملك مقابل بعض الماشية، وكاد الملك أن يرتكب معها الفاحشة لولا رؤيا رآها فى المنام عرف منها أن المرأة ليست أختًا لإبراهيم، بل زوجته! وهذا داود يرى من فوق سطح قصره امرأة قائده العسكرى يوريا الحثى، وهى تستحم فى فناء بيتها عارية كما ولدتها أمها، فتقع طبعا فى نفسه ويرسل فيحضرها ويزنى بها، ثم لا يكتفى بهذا، بل يدبر بكل نذالةٍ مؤامرةً للتخلص من زوجها القائد العسكرى المخلص، ويتم له المراد فيُلْحِق المرأة بحريمه بعد أن تنتهى من مدة الحداد (والله فيه البركة!). وهذه المرأة هى أم سليمان عليه السلام حسبما يقول مزيفو الكتاب المقدس، أما سليمان ذاته فينظم نشيدا فى الغزل الشهوانى لا يستطيع نزار قبانى ولا ستون واحدا كنزار قبانى أن ينظمه، وكلّه فى الأعكان اللدنة والسُّرَر المدوَّرة والأثداء الممتلئة والأفخاذ الملفوفة والتنهدات الحارة والأحضان الملتهبة واللقاءات الليلية الدنسة! ولم لا؟ أليس ابنَ بَتْشَبَع، التى لم يكن فى قصر زوجها (يا حبّة عينى!) مكان تتوارى فيه عن الأنظار وهى تستحم، فكانت تغتسل فى الفناء على طريقة راقصات الإستربتيز؟ وهذا... وهذا... وهذا... وأستغفر الله على نقل هذا الكلام، ولكن ما العمل، وما باليد حيلةٌ إزاء السفالات التى يغادينا ويماسينا بها القوم بكل وقاحة، وكأنهم يمسكون على سيدنا رسول الله زلّة؟ فإذا جئت تكلمهم وتقول لهم إن أنبياءكم، حسب شهادتكم أنتم لا غيركم، فعلوا كذا وكذا كان ردُّهم: "إنهم بشر، والله قد غفر لهم"! طيب يا أولاد الأفاعى (كما قال فيكم السيد المسيح عليه السلام حسب روايات الأناجيل)، لم لا تنظرون بنفس العين إلى ما تدَّعونه على سيد البشر كذبا، وهو لا يبلغ واحدا على الألف مما تقولون أنتم بعظمة لسانكم إن أنبياءكم قد ارتكبوه؟ أم تراكم تقولون إن عفو الله حين بلغ محمدا قد نَفِد وانتهى، ولم يعد من الممكن التعاقد على "طلبيّة" أخرى منه لأن خطوط الإنتاج فى "مصانع العفو والمغفرة" قد أُغْلِقَتْ، وبيعت المصانع نفسها "خُرْدَة" لمقاول من مقاولى القطاع الخاص إياهم؟ غنى عن البيان أن القرآن لا يعترف بمثل هذه الحكايات المجرمة الكافرة، فالأنبياء فيه رجالٌ بلغوا الذروة فى الإيمان القويم والخلق الكريم، لأن الله قد اصطفاهم من خيرة خلقه وصَنَعهم على عينه، ولم يَلُمّهم من شُذّاذ الحوارى ومتشرِّدى الأزقة!
إن الكتاب المقدس مملوء بالعِبَر، ومن يقلّب صفحاته يجد العجب، ولو تركتُ لنفسى حبلها على غاربها فلن تتوقف، ولن يخذلها أيضا الكتاب المقدس المملوء بالخرافات والروايات التى تُضْحِك الثَّكْلَى إضحاكا. لكنى أستسمح القارئ أن أحكى له هذه الطُّرْفة وأَعِدُه أنها ستكون آخر طرفة فى هذا السياق: ففى سفر "أخبار الأيام الثانى" نجد أن يهورام الملك حين ارتقى سدة الحكم كان عمره اثنتين وثلاثين سنة، وظل يحكم ثمانى سنوات، ثم مات. فماذا كان عمره حينذاك؟ أربعين سنة طبعا. لكننا نفاجأ بكاتب السفر بعد ثلاثة أسطر يقول لنا إن ابنه أخزيا، الذى تولى الحكم بعده مباشرة، كان عمره اثنتين وأربعين سنة (21/ 20، و22/ 1- 2). وليس لهذا من معنى إلا أن الولد كان يكبر أباه بسنتين!!! انتهت النكتة!!!

إن صاحبنا يريد أن يوهم القارئَ بأن المشكلة إنما تكمن فى الرسول، فهو لم يكن مطلعا على التوراة، بل كانت معرفته بها شذرات من طريق العوام من هنا وههنا، ومن ثم كانت معلوماته عنها خاطئة، ولم يكن يطيق أن يصحح اليهود له أخطاءه، فكان ينقم عليهم ويشعر بالحقد تجاههم. عظيم! خلِّنا وراء الكذاب لحد باب الدار! فماذا يكون جوابه إذن لو بيَّنَّا للقارئ أن ما قاله القرآن والرسول فى حَقّ اليهود (كَسْر حُقِّهم!) أخفّ كثيرا جدا مما يقوله العهد القديم وأنبياؤهم هم أنفسهم فيهم؟ ولْنبدأ بالمسيح، الذى كان إسرائيليا مثلهم وتربى فى وسطهم وتعلم كتابهم وسمع أحبارهم وتردد على معبدهم، والذى كثيرًا ما صبَّ لعناته فوق رؤوسهم النجسة ودعا عليهم بالويل والثبور ووسمهم بــ"المرائين" و"قتلة الأنبياء وراجمى المرسلين" و"أولاد الأفاعى" و"خراف بنى إسرائيل الضالة" و"فاعلى الإثم" و"الشعب الصُّلْب الرقبة" و"الجيل الشرير" و"لصوص المغارة"... وهلمّ جرًّا مما لا يُعَدّ ما وصفهم القرآن به شيئا يُذْكَر! أم تراه سيعترض بأنهم لا يعترفون به عليه السلام نبيا؟ فلننتقل إذن إلى غيره، ولنأخذ زكريا وإرميا وعزرا وموسى على سبيل المثال، وسنختار النصوص التالية مجرَّد عيِّنة ليس إلا: " 1فِي الشَّهْرِ الثَّامِنِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِدَارِيُوسَ كَانَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ إِلَى زَكَرِيَّا بْنِ بَرَخِيَّا بْنِ عِدُّو النَّبِيِّ: 2قَدْ غَضِبَ الرَّبُّ غَضَباً عَلَى آبَائِكُمْ. 3فَقُلْ لَهُمْ: [هَكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: ارْجِعُوا إِلَيَّ يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ فَأَرْجِعَ إِلَيْكُمْ يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ. 4لاَ تَكُونُوا كَآبَائِكُمُ الَّذِينَ نَادَاهُمُ الأَنْبِيَاءُ الأَوَّلُونَ: هَكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: ارْجِعُوا عَنْ طُرُقِكُمُ الشِّرِّيرَةِ وَعَنْ أَعْمَالِكُمُ الشِّرِّيرَةِ. فَلَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُصْغُوا إِلَيَّ" (نبوءة زكريا/1)، "8وَكَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى زَكَرِيَّا: 9[هَكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ: اقْضُوا قَضَاءَ الْحَقِّ وَاعْمَلُوا إِحْسَاناً وَرَحْمَةً كُلُّ إِنْسَانٍ مَعَ أَخِيهِ. 10وَلاَ تَظْلِمُوا الأَرْمَلَةَ وَلاَ الْيَتِيمَ وَلاَ الْغَرِيبَ وَلاَ الْفَقِيرَ وَلاَ يُفَكِّرْ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَرّاً عَلَى أَخِيهِ فِي قَلْبِهِ. 11فَأَبُوا أَنْ يُصْغُوا وَأَعْطُوا كَتِفاً مُعَانِدَةً وَثَقَّلُوا آذَانَهُمْ عَنِ السَّمْعِ. 12بَلْ جَعَلُوا قَلْبَهُمْ مَاساً لِئَلاَّ يَسْمَعُوا الشَّرِيعَةَ وَالْكَلاَمَ الَّذِي أَرْسَلَهُ رَبُّ الْجُنُودِ بِرُوحِهِ عَنْ يَدِ الأَنْبِيَاءِ الأَوَّلِينَ. فَجَاءَ غَضَبٌ عَظِيمٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْجُنُودِ. 13فَكَانَ كَمَا نَادَى هُوَ فَلَمْ يَسْمَعُوا كَذَلِكَ يُنَادُونَ هُمْ فَلاَ أَسْمَعُ قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. 14وَأَعْصِفُهُمْ إِلَى كُلِّ الأُمَمِ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوهُمْ. فَخَرِبَتِ الأَرْضُ وَرَاءَهُمْ لاَ ذَاهِبَ وَلاَ آئِبَ. فَجَعَلُوا الأَرْضَ الْبَهِجَةَ خَرَاباً]." (نبوءة زكريا/ 7).

"1كَيْفَ جَلَسَتْ وَحْدَهَا الْمَدِينَةُ الْكَثِيرَةُ الشَّعْبِ؟ كَيْفَ صَارَتْ كَأَرْمَلَةٍ الْعَظِيمَةُ فِي الأُمَمِ؟ السَّيِّدَةُ في الْبُلْدَانِ صَارَتْ تَحْتَ الْجِزْيَةِ! 2تَبْكِي في اللَّيْلِ بُكَاءً وَدُمُوعُهَا علَى خَدَّيْهَا. لَيْسَ لَهَا مُعَزٍّ مِن كُلِّ مُحِبِّيهَا. كُلُّ أَصْحَابِهَا غَدَرُوا بِهَا. صَارُوا لهَا أَعْدَاءً. 3قَد سُبِيَتْ يَهُوذَا مِنَ الْمَذَلَّةِ وَمِنْ كَثْرَةِ الْعُبُودِيَّةِ. هِيَ تَسْكُنُ بَيْنَ الأُمَمِ. لاَ تَجِدُ رَاحَةً. قَدْ أَدْرَكَهَا كُلُّ طَارِدِيهَا بَيْنَ الضِّيقَاتِ. 4طُرُقُ صِهْيَوْنَ نَائِحَةٌ لِعَدَمِ الآتِينَ إِلَى الْعِيدِ. كُلُّ أَبْوَابِهَا خَرِبَةٌ. كَهَنَتُهَا يَتَنَهَّدُونَ. عَذَارَاهَا مُذَلَّلَةٌ وَهِيَ فِي مَرَارَةٍ. 5صَارَ مُضَايِقُوهَا رَأْساً. نَجَحَ أَعْدَاؤُهَا لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَذَلَّهَا لأَجْلِ كَثْرَةِ ذُنُوبِهَا. ذَهَبَ أَوْلاَدُهَا إِلَى السَّبْيِ قُدَّامَ الْعَدُوِّ. 6وَقَدْ خَرَجَ مِنْ بِنْتِ صِهْيَوْنَ كُلُّ بَهَائِهَا. صَارَتْ رُؤَسَاؤُهَا كَأَيَائِلَ لاَ تَجِدُ مَرْعًى فَيَسِيرُونَ بِلاَ قُوَّةٍ أَمَامَ الطَّارِدِ. 7قَدْ ذَكَرَتْ أُورُشَلِيمُ فِي أَيَّامِ مَذَلَّتِهَا وَتَطَوُّحِهَا كُلَّ مُشْتَهَيَاتِهَا الَّتِي كَانَتْ فِي أَيَّامِ الْقِدَمِ. عِنْدَ سُقُوطِ شَعْبِهَا بِيَدِ الْعَدُوِّ وَلَيْسَ مَنْ يُسَاعِدُهَا. رَأَتْهَا الأَعْدَاءُ. ضَحِكُوا عَلَى هَلاَكِهَا. 8قَدْ أَخْطَأَتْ أُورُشَلِيمُ خَطِيَّةً مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَتْ رَجِسَةً. كُلُّ مُكَرِّمِيهَا يَحْتَقِرُونَهَا لأَنَّهُمْ رَأُوا عَوْرَتَهَا وَهِيَ أَيْضاً تَتَنَهَّدُ وَتَرْجِعُ إِلَى الْوَرَاءِ. 9نَجَاسَتُهَا فِي أَذْيَالِهَا. لَمْ تَذْكُرْ آخِرَتَهَا وَقَدِ انْحَطَّتِ انْحِطَاطاً عَجِيباً. لَيْسَ لَهَا مُعَزٍّ". (مراثى إرميا/ 1/ 8- 9).
"1وَلَمَّا كَمُلَتْ هَذِهِ تَقَدَّمَ إِلَيَّ الرُّؤَسَاءُ قَائِلِينَ: [لَمْ يَنْفَصِلْ شَعْبُ إِسْرَائِيلَ وَالْكَهَنَةُ وَاللاَّوِيُّونَ مِنْ شُعُوبِ الأَرَاضِي حَسَبَ رَجَاسَاتِهِمْ مِنَ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْحِثِّيِّينَ وَالْفِرِزِّيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ وَالْعَمُّونِيِّينَ وَالْمُوآبِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ. 2لأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا مِنْ بَنَاتِهِمْ لأَنْفُسِهِمْ وَلِبَنِيهِمْ وَاخْتَلَطَ الزَّرْعُ الْمُقَدَّسُ بِشُعُوبِ الأَرَاضِي. وَكَانَتْ يَدُ الرُّؤَسَاءِ وَالْوُلاَةِ فِي هَذِهِ الْخِيَانَةِ أَوَّلاً]. 3فَلَمَّا سَمِعْتُ بِهَذَا الأَمْرِ مَزَّقْتُ ثِيَابِي وَرِدَائِي وَنَتَّفْتُ شَعْرَ رَأْسِي وَذَقْنِي وَجَلَسْتُ مُتَحَيِّراً. 4فَاجْتَمَعَ إِلَيَّ كُلُّ مَنِ ارْتَعَدَ مِنْ كَلاَمِ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ مِنْ أَجْلِ خِيَانَةِ الْمَسْبِيِّينَ وَأَنَا جَلَسْتُ مُتَحَيِّراً إِلَى تَقْدِمَةِ الْمَسَاءِ. 5وَعِنْدَ تَقْدِمَةِ الْمَسَاءِ قُمْتُ مِنْ تَذَلُّلِي وَفِي ثِيَابِي وَرِدَائِي الْمُمَزَّقَةِ جَثَوْتُ عَلَى رُكْبَتَيَّ وَبَسَطْتُ يَدَيَّ إِلَى الرَّبِّ إِلَهِي 6وَقُلْتُ: [اللَّهُمَّ إِنِّي أَخْجَلُ وَأَخْزَى مِنْ أَنْ أَرْفَعَ يَا إِلَهِي وَجْهِي نَحْوَكَ لأَنَّ ذُنُوبَنَا قَدْ كَثُرَتْ فَوْقَ رُؤُوسِنَا وَآثَامَنَا تَعَاظَمَتْ إِلَى السَّمَاءِ. 7مُنْذُ أَيَّامِ آبَائِنَا نَحْنُ فِي إِثْمٍ عَظِيمٍ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ. وَلأَجْلِ ذُنُوبِنَا قَدْ دُفِعْنَا نَحْنُ وَمُلُوكُنَا وَكَهَنَتُنَا لِيَدِ مُلُوكِ الأَرَاضِي لِلسَّيْفِ وَالسَّبْيِ وَالنَّهْبِ وَخِزْيِ الْوُجُوهِ كَهَذَا الْيَوْمِ. 8وَالآنَ كَلُحَيْظَةٍ كَانَتْ رَأْفَةٌ مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ إِلَهِنَا لِيُبْقِيَ لَنَا نَجَاةً وَيُعْطِيَنَا وَتَداً فِي مَكَانِ قُدْسِهِ لِيُنِيرَ إِلَهُنَا أَعْيُنَنَا وَيُعْطِيَنَا حَيَاةً قَلِيلَةً فِي عُبُودِيَّتِنَا. 9لأَنَّنَا عَبِيدٌ نَحْنُ وَفِي عُبُودِيَّتِنَا لَمْ يَتْرُكْنَا إِلَهُنَا بَلْ بَسَطَ عَلَيْنَا رَحْمَةً أَمَامَ مُلُوكِ فَارِسَ لِيُعْطِيَنَا حَيَاةً لِنَرْفَعَ بَيْتَ إِلَهِنَا وَنُقِيمَ خَرَائِبَهُ وَلْيُعْطِيَنَا حَائِطاً فِي يَهُوذَا وَفِي أُورُشَلِيمَ. 10وَالآنَ فَمَاذَا نَقُولُ يَا إِلَهَنَا بَعْدَ هَذَا لأَنَّنَا قَدْ تَرَكْنَا وَصَايَاكَ 11الَّتِي أَوْصَيْتَ بِهَا عَنْ يَدِ عَبِيدِكَ الأَنْبِيَاءِ قَائِلاً: إِنَّ الأَرْضَ الَّتِي تَدْخُلُونَ لِتَمْتَلِكُوهَا هِيَ أَرْضٌ مُتَنَجِّسَةٌ بِنَجَاسَةِ شُعُوبِ الأَرَاضِي بِرَجَاسَاتِهِمِ الَّتِي مَلَأُوهَا بِهَا مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ بِنَجَاسَتِهِمْ. 12وَالآنَ فَلاَ تُعْطُوا بَنَاتِكُمْ لِبَنِيهِمْ وَلاَ تَأْخُذُوا بَنَاتِهِمْ لِبَنِيكُمْ وَلاَ تَطْلُبُوا سَلاَمَتَهُمْ وَخَيْرَهُمْ إِلَى الأَبَدِ لِتَتَشَدَّدُوا وَتَأْكُلُوا خَيْرَ الأَرْضِ وَتُورِثُوا بَنِيكُمْ إِيَّاهَا إِلَى الأَبَدِ. 13وَبَعْدَ كُلِّ مَا جَاءَ عَلَيْنَا لأَجْلِ أَعْمَالِنَا الرَّدِيئَةِ وَآثَامِنَا الْعَظِيمَةِ - لأَنَّكَ قَدْ جَازَيْتَنَا يَا إِلَهَنَا أَقَلَّ مِنْ آثَامِنَا وَأَعْطَيْتَنَا نَجَاةً كَهَذِهِ 14أَفَنَعُودُ وَنَتَعَدَّى وَصَايَاكَ وَنُصَاهِرُ شُعُوبَ هَذِهِ الرَّجَاسَاتِ؟ أَمَا تَسْخَطُ عَلَيْنَا حَتَّى تُفْنِيَنَا فَلاَ تَكُونُ بَقِيَّةٌ وَلاَ نَجَاةٌ؟ 15أَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ أَنْتَ بَارٌّ لأَنَّنَا بَقِينَا نَاجِينَ كَهَذَا الْيَوْمِ. هَا نَحْنُ أَمَامَكَ فِي آثَامِنَا لأَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَقِفَ أَمَامَكَ مِنْ أَجْلِ هَذَا]" (عزرا/ 9).

"1وَلَمَّا رَأَى الشَّعْبُ أَنَّ مُوسَى أَبْطَأَ فِي النُّزُولِ مِنَ الْجَبَلِ اجْتَمَعَ الشَّعْبُ عَلَى هَارُونَ وَقَالُوا لَهُ: «قُمِ اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا لأَنَّ هَذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لاَ نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ». 2فَقَالَ لَهُمْ هَارُونُ: «انْزِعُوا أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِ نِسَائِكُمْ وَبَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ وَأْتُونِي بِهَا». 3فَنَزَعَ كُلُّ الشَّعْبِ أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِهِمْ وَأَتُوا بِهَا إِلَى هَارُونَ. 4فَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَصَوَّرَهُ بِالْإِزْمِيلِ وَصَنَعَهُ عِجْلاً مَسْبُوكاً. فَقَالُوا: «هَذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ!» 5فَلَمَّا نَظَرَ هَارُونُ بَنَى مَذْبَحاً أَمَامَهُ وَنَادَى هَارُونُ وَقَالَ: «غَداً عِيدٌ لِلرَّبِّ». 6فَبَكَّرُوا فِي الْغَدِ وَأَصْعَدُوا مُحْرَقَاتٍ وَقَدَّمُوا ذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ. وَجَلَسَ الشَّعْبُ لِلأَكْلِ وَالشُّرْبِ ثُمَّ قَامُوا لِلَّعِبِ. 7فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «اذْهَبِ انْزِلْ! لأَنَّهُ قَدْ فَسَدَ شَعْبُكَ الَّذِي أَصْعَدْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. 8زَاغُوا سَرِيعاً عَنِ الطَّرِيقِ الَّذِي أَوْصَيْتُهُمْ بِهِ. صَنَعُوا لَهُمْ عِجْلاً مَسْبُوكاً وَسَجَدُوا لَهُ وَذَبَحُوا لَهُ وَقَالُوا: هَذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ». 9وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «رَأَيْتُ هَذَا الشَّعْبَ وَإِذَا هُوَ شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةِ. 10فَالآنَ اتْرُكْنِي لِيَحْمَى غَضَبِي عَلَيْهِمْ وَأُفْنِيَهُمْ فَأُصَيِّرَكَ شَعْباً عَظِيماً». 11فَتَضَرَّعَ مُوسَى أَمَامَ الرَّبِّ إِلَهِهِ وَقَالَ: «لِمَاذَا يَا رَبُّ يَحْمَى غَضَبُكَ عَلَى شَعْبِكَ الَّذِي أَخْرَجْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ بِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ وَيَدٍ شَدِيدَةٍ؟ 12لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ الْمِصْرِيُّونَ قَائِلِينَ: أَخْرَجَهُمْ بِخُبْثٍ لِيَقْتُلَهُمْ فِي الْجِبَالِ وَيُفْنِيَهُمْ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ؟ ارْجِعْ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِكَ وَانْدَمْ عَلَى الشَّرِّ بِشَعْبِكَ. 13اُذْكُرْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَإِسْرَائِيلَ عَبِيدَكَ الَّذِينَ حَلَفْتَ لَهُمْ بِنَفْسِكَ وَقُلْتَ لَهُمْ: أُكَثِّرُ نَسْلَكُمْ كَنُجُومِ السَّمَاءِ وَأُعْطِي نَسْلَكُمْ كُلَّ هَذِهِ الأَرْضِ الَّتِي تَكَلَّمْتُ عَنْهَا فَيَمْلِكُونَهَا إِلَى الأَبَدِ». 14فَنَدِمَ الرَّبُّ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي قَالَ إِنَّهُ يَفْعَلُهُ بِشَعْبِهِ. 15فَانْصَرَفَ مُوسَى وَنَزَلَ مِنَ الْجَبَلِ وَلَوْحَا الشَّهَادَةِ فِي يَدِهِ: لَوْحَانِ مَكْتُوبَانِ عَلَى جَانِبَيْهِمَا. مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَا كَانَا مَكْتُوبَيْنِ. 16وَاللَّوْحَانِ هُمَا صَنْعَةُ اللهِ وَالْكِتَابَةُ كِتَابَةُ اللهِ مَنْقُوشَةٌ عَلَى اللَّوْحَيْنِ. 17وَسَمِعَ يَشُوعُ صَوْتَ الشَّعْبِ فِي هُتَافِهِ فَقَالَ لِمُوسَى: «صَوْتُ قِتَالٍ فِي الْمَحَلَّةِ». 18فَقَالَ: «لَيْسَ صَوْتَ صِيَاحِ النُّصْرَةِ وَلاَ صَوْتَ صِيَاحِ الْكَسْرَةِ. بَلْ صَوْتَ غِنَاءٍ أَنَا سَامِعٌ». 19وَكَانَ عِنْدَمَا اقْتَرَبَ إِلَى الْمَحَلَّةِ أَنَّهُ أَبْصَرَ الْعِجْلَ وَالرَّقْصَ. فَحَمِيَ غَضَبُ مُوسَى وَطَرَحَ اللَّوْحَيْنِ مِنْ يَدَيْهِ وَكَسَّرَهُمَا فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ 20ثُمَّ أَخَذَ الْعِجْلَ الَّذِي صَنَعُوا وَأَحْرَقَهُ بِالنَّارِ وَطَحَنَهُ حَتَّى صَارَ نَاعِماً وَذَرَّاهُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَسَقَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. 21وَقَالَ مُوسَى لِهَارُونَ: «مَاذَا صَنَعَ بِكَ هَذَا الشَّعْبُ حَتَّى جَلَبْتَ عَلَيْهِ خَطِيَّةً عَظِيمَةً؟» 22فَقَالَ هَارُونُ: «لاَ يَحْمَ غَضَبُ سَيِّدِي! أَنْتَ تَعْرِفُ الشَّعْبَ أَنَّهُ شِرِّيرٌ. 23فَقَالُوا لِيَ: اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا. لأَنَّ هَذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لاَ نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ. 24فَقُلْتُ لَهُمْ: مَنْ لَهُ ذَهَبٌ فَلْيَنْزِعْهُ وَيُعْطِنِي. فَطَرَحْتُهُ فِي النَّارِ فَخَرَجَ هَذَا الْعِجْلُ». 25وَلَمَّا رَأَى مُوسَى الشَّعْبَ أَنَّهُ مُعَرًّى (لأَنَّ هَارُونَ كَانَ قَدْ عَرَّاهُ لِلْهُزْءِ بَيْنَ مُقَاوِمِيهِ) 26وَقَفَ مُوسَى فِي بَابِ الْمَحَلَّةِ وَقَالَ: «مَنْ لِلرَّبِّ فَإِلَيَّ!» فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ جَمِيعُ بَنِي لاَوِي. 27فَقَالَ لَهُمْ: «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ: ضَعُوا كُلُّ وَاحِدٍ سَيْفَهُ عَلَى فَخِْذِهِ وَمُرُّوا وَارْجِعُوا مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ فِي الْمَحَلَّةِ وَاقْتُلُوا كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ». 28فَفَعَلَ بَنُو لاَوِي بِحَسَبِ قَوْلِ مُوسَى. وَوَقَعَ مِنَ الشَّعْبِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نَحْوُ ثَلاَثَةِ آلاَفِ رَجُلٍ. 29وَقَالَ مُوسَى: «امْلَأُوا أَيْدِيَكُمُ الْيَوْمَ لِلرَّبِّ حَتَّى كُلُّ وَاحِدٍ بِابْنِهِ وَبِأَخِيهِ فَيُعْطِيَكُمُ الْيَوْمَ بَرَكَةً». 30وَكَانَ فِي الْغَدِ أَنَّ مُوسَى قَالَ لِلشَّعْبِ: «أَنْتُمْ قَدْ أَخْطَأْتُمْ خَطِيَّةً عَظِيمَةً. فَأَصْعَدُ الآنَ إِلَى الرَّبِّ لَعَلِّي أُكَفِّرُ خَطِيَّتَكُمْ». 31فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ وَقَالَ: «آهِ قَدْ أَخْطَأَ هَذَا الشَّعْبُ خَطِيَّةً عَظِيمَةً وَصَنَعُوا لأَنْفُسِهِمْ آلِهَةً مِنْ ذَهَبٍ. 32وَالآنَ إِنْ غَفَرْتَ خَطِيَّتَهُمْ - وَإِلاَّ فَامْحُنِي مِنْ كِتَابِكَ الَّذِي كَتَبْتَ». 33فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: «مَنْ أَخْطَأَ إِلَيَّ أَمْحُوهُ مِنْ كِتَابِي. 34وَالآنَ اذْهَبِ اهْدِ الشَّعْبَ إِلَى حَيْثُ كَلَّمْتُكَ. هُوَذَا مَلاَكِي يَسِيرُ أَمَامَكَ. وَلَكِنْ فِي يَوْمِ افْتِقَادِي أَفْتَقِدُ فِيهِمْ خَطِيَّتَهُمْ». 35فَضَرَبَ الرَّبُّ الشَّعْبَ لأَنَّهُمْ صَنَعُوا الْعِجْلَ الَّذِي صَنَعَهُ هَارُونُ" (خروج/ 32).

14وَقَال الرَّبُّ لِمُوسَى: «هُو َذَا أَيَّامُكَ قَدْ قَرُبَتْ لِتَمُوتَ. ادْعُ يَشُوعَ وَقِفَا فِي خَيْمَةِ الاِجْتِمَاعِ لِكَيْ أُوصِيَهُ». فَانْطَلقَ مُوسَى وَيَشُوعُ وَوَقَفَا فِي خَيْمَةِ الاِجْتِمَاعِ 15فَتَرَاءَى الرَّبُّ فِي الخَيْمَةِ فِي عَمُودِ سَحَابٍ وَوَقَفَ عَمُودُ السَّحَابِ عَلى بَابِ الخَيْمَةِ. 16وَقَال الرَّبُّ لِمُوسَى: «هَا أَنْتَ تَرْقُدُ مَعَ آبَائِكَ فَيَقُومُ هَذَا الشَّعْبُ وَيَفْجُرُ وَرَاءَ آلِهَةِ الأَجْنَبِيِّينَ فِي الأَرْضِ التِي هُوَ دَاخِلٌ إِليْهَا فِي مَا بَيْنَهُمْ وَيَتْرُكُنِي وَيَنْكُثُ عَهْدِي الذِي قَطَعْتُهُ مَعَهُ. 17فَيَشْتَعِلُ غَضَبِي عَليْهِ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ وَأَتْرُكُهُ وَأَحْجُبُ وَجْهِي عَنْهُ فَيَكُونُ مَأْكُلةً وَتُصِيبُهُ شُرُورٌ كَثِيرَةٌ وَشَدَائِدُ حَتَّى يَقُول فِي ذَلِكَ اليَوْمِ: أَمَا لأَنَّ إِلهِي ليْسَ فِي وَسَطِي أَصَابَتْنِي هَذِهِ الشُّرُورُ!. 18وَأَنَا أَحْجُبُ وَجْهِي فِي ذَلِكَ اليَوْمِ لأَجْلِ جَمِيعِ الشَّرِّ الذِي عَمِلهُ إِذِ التَفَتَ إِلى آلِهَةٍ أُخْرَى. 19فَالآنَ اكْتُبُوا لأَنْفُسِكُمْ هَذَا النَّشِيدَ وَعَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيل إِيَّاهُ. ضَعْهُ فِي أَفْوَاهِهِمْ لِيَكُونَ لِي هَذَا النَّشِيدُ شَاهِداً عَلى بَنِي إِسْرَائِيل. 20لأَنِّي أُدْخِلُهُمُ الأَرْضَ التِي أَقْسَمْتُ لآِبَائِهِمِ الفَائِضَةَ لبَناً وَعَسَلاً فَيَأْكُلُونَ وَيَشْبَعُونَ وَيَسْمَنُونَ ثُمَّ يَلتَفِتُونَ إِلى آلِهَةٍ أُخْرَى وَيَعْبُدُونَهَا وَيَزْدَرُونَ بِي وَيَنْكُثُونَ عَهْدِي. 21فَمَتَى أَصَابَتْهُ شُرُورٌ كَثِيرَةٌ وَشَدَائِدُ يُجَاوِبُ هَذَا النَّشِيدُ أَمَامَهُ شَاهِداً لأَنَّهُ لا يُنْسَى مِنْ أَفْوَاهِ نَسْلِهِ. إِنِّي عَرَفْتُ فِكْرَهُ الذِي يُفَكِّرُ بِهِ اليَوْمَ قَبْل أَنْ أُدْخِلهُ إِلى الأَرْضِ كَمَا أَقْسَمْتُ». 22فَكَتَبَ مُوسَى هَذَا النَّشِيدَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ وَعَلمَ بَنِي إِسْرَائِيل إِيَّاهُ. 23وَأَوْصَى يَشُوعَ بْنَ نُونَ وَقَال: «تَشَدَّدْ وَتَشَجَّعْ لأَنَّكَ أَنْتَ تَدْخُلُ بِبَنِي إِسْرَائِيل الأَرْضَ التِي أَقْسَمْتُ لهُمْ عَنْهَا وَأَنَا أَكُونُ مَعَكَ». 24فَعِنْدَمَا كَمَّل مُوسَى كِتَابَةَ كَلِمَاتِ هَذِهِ التَّوْرَاةِ فِي كِتَابٍ إِلى تَمَامِهَا 25أَمَرَ مُوسَى اللاوِيِّينَ حَامِلِي تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ: 26«خُذُوا كِتَابَ التَّوْرَاةِ هَذَا وَضَعُوهُ بِجَانِبِ تَابُوتِ عَهْدِ الرَّبِّ إِلهِكُمْ لِيَكُونَ هُنَاكَ شَاهِداً عَليْكُمْ. 27لأَنِّي أَنَا عَارِفٌ تَمَرُّدَكُمْ وَرِقَابَكُمُ الصُّلبَةَ. هُوَذَا وَأَنَا بَعْدُ حَيٌّ مَعَكُمُ اليَوْمَ قَدْ صِرْتُمْ تُقَاوِمُونَ الرَّبَّ فَكَمْ بِالحَرِيِّ بَعْدَ مَوْتِي! 28اِجْمَعُوا إِليَّ كُل شُيُوخِ أَسْبَاطِكُمْ وَعُرَفَاءَكُمْ لأَنْطِقَ فِي مَسَامِعِهِمْ بِهَذِهِ الكَلِمَاتِ وَأُشْهِدَ عَليْهِمِ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ. 29لأَنِّي عَارِفٌ أَنَّكُمْ بَعْدَ مَوْتِي تَفْسِدُونَ وَتَزِيغُونَ عَنِ الطَّرِيقِ الذِي أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ وَيُصِيبُكُمُ الشَّرُّ فِي آخِرِ الأَيَّامِ لأَنَّكُمْ تَعْمَلُونَ الشَّرَّ أَمَامَ الرَّبِّ حَتَّى تُغِيظُوهُ بِأَعْمَالِ أَيْدِيكُمْ" (تثنية/31).

والآن، وبَعْد ذلك كله، أيستكثر الكاتب أن يقول القرآن عن اليهود إنهم "كالحمار يحمل أسفارا"؟ على أن صاحبنا يكذب هنا أيضا، إذ يزعم أن اليهود كانوا إذا أظهروا للنبى خطأه بذكر ما قالته التوراة مما يتعارض مع ما يقوله هو عنها وعنهم حَنِقَ عليهم وشتمهم قائلاً إنهم "كالحمار يحمل أسفارا". ووجه الكذب فى هذا الكلام أنه لم يحدث قَطّ أَنْ حاكَمَ اليهودُ الرسولَ عليه الصلاة والسلام إلى التوراة، بل هو الذى كان يحاكمهم إليها ويتحداهم أن يأتوا بها ويتلوا ما فيها مما يختلفون معهم حوله حتى يتبين مَنْ منهما على الحق، ومن على الباطل. وقد ذكر القرآن الكريم شيئا من ذلك حين اختلف الطرفان حول الحكم الإلهى فى بعض الأطعمة، إذ قال الرسول إن لحوم الإبل وألبانها حلال، بينما قال اليهود إنها حرام عندهم فى التوراة، فنزل قوله تعالى: "كُلُّ الطعام كان حِلاًّ لبنى إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيلُ على نفسه من قبل أن تُنَزَّل التوراة. قل: فَأْتُوا بالتوراة فاتْلوها إن كنتم صادقين* فمن افترى على الله الكَذِبَ من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون* قل: صَدَقَ الله، فاتَّبِعوا ملةَ إبراهيم حنيفا، وما كان من المشركين" (آل عمران/ 93- 94).
فهذه حادثة تدل على أن الذى طلب مراجعة التوراة هو النبى عليه السلام لا اليهود. وثمة حادثة أخرى تدل على الأمر نفسه، وهى مأخوذة من تفسير الطبرى للآية الرابعة والأربعين من سورة "المائدة": "عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: زَنَى رَجُل مِنْ الْيَهُود بِامْرَأَةٍ, فَقَالَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ: اِذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيّ، فَإِنَّهُ نَبِيّ بُعِثَ بِتَخْفِيفٍ, فَإِنْ أَفْتَانَا بِفُتْيَا دُون الرَّجْم قَبِلْنَاهَا وَاحْتَجَجْنَا بِهَا عِنْد اللَّه وَقُلْنَا: فُتْيَا نَبِيّ مِنْ أَنْبِيَائِك! قَالَ: فَأَتَوْا النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِس فِي الْمَسْجِد فِي أَصْحَابه, فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِم، مَا تَقُول فِي رَجُل وَامْرَأَة مِنْهُمْ زَنَيَا؟ فَلَمْ يُكَلِّمهُمْ كَلِمَة حَتَّى أَتَى بَيْت الْمِدْرَاس, فَقَامَ عَلَى الْبَاب, فَقَالَ: "أَنْشُدكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاة عَلَى مُوسَى، مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاة عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أُحْصِنَ؟" قَالُوا: يُحَمَّم وَيُجَبَّه وَيُجْلَد (وَالتَّجْبِيه: أَنْ يُحْمَل الزَّانِيَانِ عَلَى حِمَار تُقَابَل أَقْفِيَتهمَا, وَيُطَاف بِهِمَا). وَسَكَتَ شَابّ, فَلَمَّا رَآهُ سَكَتَ أَلَظَّ بِهِ النِّشْدَة, فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِذْ نَشَدْتَنَا, فَإِنَّا نَجِد فِي التَّوْرَاة الرَّجْم. فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَمَا أَوَّل مَا ارْتَخَصَ أَمْر اللَّه؟" قَالَ: زَنَى رَجُلٌ ذُو قَرَابَة مِنْ مَلِك مِنْ مُلُوكنَا فَأَخَّرَ عَنْهُ الرَّجْم, ثُمَّ زَنَى رَجُل فِي أُسْرَة مِنْ النَّاس, فَأَرَادَ رَجْمه, فَحَالَ قَوْمه دُونه وَقَالُوا: لا تَرْجُم صَاحِبنَا حَتَّى تَجِيء بِصَاحِبِك فَتَرْجُمه , فَاصْطَلَحُوا عَلَى هَذِهِ الْعُقُوبَة بَيْنهمْ. قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَإِنِّي أَحْكُم بِمَا فِي التَّوْرَاة". فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا". وهذا معنى قوله تعالى:"وكيف يُحَكِّمونك، وعندهم التوراة فيها حكم الله، ثم يتوَلَّوْن من بعد ذلك؟ وما أولئك بالمؤمنين". ‏وفى سنن أبى داود مثلا أن اليهود حين أحضروا التوراة بناءً على طلب الرسول ليقرأوا ما فيها من عقوبة الزانى جَعَل أحدُهم يضع يده على النص كما يفعل الأولاد الصغار، ظنا منه أنه بهذا يستطيع أن يخفى الكلام الذى يفضح كذبهم. وهذا هو الحديث المقصود: "حدثنا ‏ ‏عبد الله بن مسلمة ‏ ‏قال قرأت على ‏ ‏مالك بن أنس ‏ ‏عن ‏ ‏نافع ‏ ‏عن ‏‏ابن عمر ‏ ‏أنه قال: إن ‏اليهود ‏جاءوا إلى النبي ‏صلى الله عليه وسلم،‏ ‏فذكروا له أن رجلا منهم ‏ ‏وامرأة ‏ ‏زنيا، فقال لهم رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم: ‏‏ما تجدون في التوراة في شأن الزنا؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال ‏ ‏عبد الله بن سلام: ‏ ‏كذبتم! إن فيها الرجم. فأتَوْا بالتوراة فنشروها، فجعل ‏ ‏أحدهم ‏ ‏يده على ‏ ‏آية الرجم، ‏‏ثم جعل يقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له ‏عبد الله بن سلام: ‏ارفع يديك. فرفعها، فإذا فيها ‏آية الرجم، ‏فقالوا: صدق يا محمد، ‏‏فيها ‏‏آية الرجم. ‏‏فأمر بهما رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فرُجِما".

ومثل ذلك رَدُّ القرآن عليهم هم والنصارى حين ادَّعَى كل منهما أن إبراهيم عليه السلام كان على دينه، فنزل قوله سبحانه يسخِّف عقل الفريقين جميعا ويحيلهم مرة أخرى إلى التوراة والإنجيل، متهمًا إياهم فى أصل وجههم بأنهم إنما يخوضون فيما ليس لهم به علم: "يا أهل الكتاب، لِمَ تُحَاجّون فى إبراهيم، وما أُنْزِلت التوراة والإنجيل إلا مِنْ بعده؟ أفلا تعقلون؟* ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به عِلْم، فلِمَ تحاجّون فيما ليس لكم به علم؟ والله يعلم، وأنتم لا تعلمون* ماكان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولكن كان حنيفًا مُسْلِمًا، وما كان من المشركين" (آل عمران/ 65- 67). ومثله أيضا هاتان الآيتان اللتان تقرّعان اليهود على أنهم، فى الوقت الذى يتشددون فى التمسك بحكم التوراة الخاص بمفاداة أمثالهم من اليهود إذا وقعوا فى الأَسْر، فإنهم لا يتحرّجون فى معاونة الآخرين من حلفائهم غير اليهود عليهم وإخراجهم من ديارهم رغم أن ذلك مما تحرّمه شريعتهم نفسها، ومن ثم تحيلهم الآيتان إلى التوراة لتذكيرهم بما يتجاهلونه من أحكامها: "وإذ أخذنا ميثاقكم: لا تسفكون دماءكم ولا تُخْرِجون أنفسكم من دياركم، ثم أقررتم وأنتم تشهدون* ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتُخْرِجون فريقًا منكم من ديارهم، تَظَاهَرون عليهم بالإثم والعدوان. وإن يأتوكم أُسَارَى تُفادوهم، وهو محرّمٌ عليكم إخراجهم. أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزىٌ فى الحياة الدنيا، ويوم القيامة يُرَدّون إلى أشد العذاب. وما الله بغافلٍ عما تعملون" (البقرة/ 84- 85). فمن إذن الذى يخالف ما تقول به التوراة؟ ومن ذا الذى يحيل إليها ويستشهد بما جاء فيها ويتحدى الطرف الآخر به؟

أم ترى كان اليهود أوفياء لتوراتهم ويعرفونها أفضل من محمد ويتحاكمون إليها عندما جاءهم وثنيّو قريش يسألونهم أىّ الدينين هو الدين الحق: وثنيتهم أم الإسلام الذى جاء به محمد؟ فكان جوابهم أن الوثنية القرشية هى الدين الصحيح؟ يقول جل شأنه: "ألم تر إلى الذين أُوتُوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجِْبْت والطاغوت ويقولون للذين كفروا: هؤلاء أَهْدَى من الذين آمنوا سبيلا؟* أولئك الذين لعنهم الله. ومن يلعن اللهُ فلن تجد له نصيرا" (النساء/ 51- 52). إن الكاتب يعمِّى على حقائق التاريخ ويلتوى بها كعادة اليهود، لكن الحق أبلج، والباطل لجلج، والفضيحة له بالمرصاد مهما كذب ودلَّس وأطلق الاتهامات الباطلة ضد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم! أليس من الحق الذى لا يستطيع أن يجادل فيه من كان عنده ذرة من عقل وضمير أن الذين يجيبون هذا الجواب هم "كالحمار يحمل أسفارا"؟ هل يمكن أن يصل الحقد والحمق إلى هذا المدى عند بعض الناس فيَنْصُروا الوثنيةَ وعبدةَ الأصنام على الإسلام فى الوقت الذى يزعمون فيه أنهم القُوّام على التوحيد فى العالم وأنهم شعب الله المختار؟ لكن ماذا تقول فى اليهود، وهذه أسفار العهد القديم تدمدم بالغضب الإلهى عليهم وتفيض باللعنات المنصبة فوق رؤوسهم لكثرة ما نبذوا التوحيد وارتكسوا فى عبادة الأصنام والأوثان؟ بل إن تشتيت الله لهم فى الأرض وتسليطه الأمم الأخرى عليهم تسومهم الخسف والهوان والخزى هو، حسبما يقول الكتاب المقدس، نتيجة هذا الشرك الوثنى الذى لم تبرأ منه قلوبهم يومًا، فكانوا يرتدّون إليه كلما سنحت سانحة منذ العجل الذهبى الذى صنعوه، ولمّا تكن أقدامهم قد استراحت من عبور البحر بعد أن نجاهم الله منه وأغرق فيه فرعون وجنوده! إنها نفسيتهم وشخصيتهم الملتوية طوال العصور. ولقد شوهوا سيرة نبى الله هارون، إذ زعموا أنه هو الذى صنع العجل من حلىّ المصريين كى يعبده بنو إسرائيل أثناء غياب موسى فوق الجبل لتلقِّى الألواح، كما لطخوا بنفس الطريقة صورة نبى الله سليمان، الذى ادَّعَوْا عليه أنه تزوج من مئات النسوة الوثنيات وبنى لهن المذابح الوثنية فى بيته ليعبدنها على راحتهن دون أن يتجشمن مشقة الانتقال إليها، وعبدها هو أيضا مثلهن! لا عجب إذن أن يفعلوا ما فعلوه مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد فعلوا ما كانوا يفعلونه فى كل البلاد وبين كل الشعوب حتى لقد أصبحوا يمثلون مشكلة فى أى مكان يحلّون فيه وأى مجتمع يعيشون بين ظهرانَيْه، وصار هناك موضوع دائم مُلِحّ يطرقه المفكرون الذين يَخْبُرونهم اسمه: "المسألة اليهودية"!

أما الغزوات التى غزاها صلى الله عليه وسلم فيهم فلم تكن بسبب الحقد عليهم والطمع فى أموالهم كما قال الكاتب زورًا وبهتانًا، بل كانت بسبب غدرهم وانتقاضهم على ما كان بينهم وبينه عليه السلام من معاهدة على التعاون ضد من يريد أيًّا من الفريقين بشر: وكان أوّلَ من بدرت منه الخيانة بنو قينقاع، إذ ما إن انتصر المسلمون على المشركين فى بدر حتى دبت عقارب البغضاء فى قلوبهم فشرعوا يثيرون المشاكل ويلمزون الرسول والمسلمين ويحقّرون من شأن انتصارهم على الكفار ويتحدَّوْنهم قائلين إن القرشيين لا علم لهم بفن القتال، وإنه متى ما يشتبك المسلمون معهم فسوف يعلمون كيف تكون الحرب. ثم قَفَّوْا على ذلك بالتحرش بنساء المسلمين، إذ وفدت عليهم إحداهن فى سوقهم ببضاعةٍ تبيعها وجلست إلى صائغ منهم، فأرادوها على كشف وجهها لكنها أبت، فما كان منهم إلا أن عمدوا إلى حيلةٍ مجرمةٍ غادرةٍ مثلهم كشفوا بها لا وجهها بل سوأتها نفسها، وأخذوا يضحكون ويقهقهون عليهم لعنات الله، وهى تشعر بالهوان والعار شأن كل حرة عفيفة ليست من فاجرات يهود، فلم يتمالك أحد المسلمين الذين تصادف وجودُهم آنذاك فى السوق نفسَه من غليان دم الكرامة والحميّة فى عروقه، وضرب اليهودى فى ثورة غضبه فقتله، فقتله اليهود بدورهم. أى أنهم، بدلا من أن يكونوا إلبا مع الرسول ضد الكفار حسبما تقضى بنود الصحيفة، انقلبوا عليه وعلى المسلمين وأخذوا يثيرون لهم المشاكل، ويعتدون منهم على من يوقعهم سوء حظهم تحت رحمتهم، ويتآمرون ويحرّضون ويكشفون عن مخططاتهم الخيانية. ومع ذلك لم يأخذهم الرسول بغتة، بل نبذ إليهم أولاً العهد الذى كان بينه وبينهم فى الصحيفة رغم أن غدرهم كان كافيا وأكثر من كافٍ لأخذهم مباغتة، وطلب منهم الخروج من المدينة تاركًا لهم أموالهم وأثقالهم وأسلحتهم الخفيفة يحملونها معهم. أولو كان طامعا فى أموالهم كما يدّعى المدّعون الكذّابون، أكان يتركهم يخرجون بهذه الأموال بتلك السهولة؟

ونأتى لبنى النضير، وقد كانوا مُلْزَمين بنص المعاهدة التى كانت بينهم وبين المسلمين أن يتعاونوا معهم فى الحرب والديات وما إلى ذلك، ومن ثم كان يجب عليهم أن يشتركوا فى القتال جنبًا إلى جنبٍ معهم فى أُحُد ضد مشركى مكة، الذين أَتَوْا لمهاجمة يثرب، لكنهم تعللوا نفاقا وجبنا وكذبا وغدرا بالسبت، وهى نفس الحجة التى طالما تعللوا بها عند المسيح كى يَنْكِلوا عن أداء الواجب، وتهكَّم بسببها عليهم وعلى نفاقهم الذى يريدون أن يُلْبِسوه كسوة الإيمان الصارم (متى/ 12/1، ولوقا /6 /2، و14/ 3)، اللهم إلا واحدا منهم يسمَّى مُخَيْرِيق أبت عليه رجولته أن يخنس فى عهده مع الرسول، فاشترك فى الحرب معه عليه السلام حيث مات كريما شريفا. ثم حدث بعد ذلك أيضًا أن ذهب النبى إليهم بعد أُحُد فى دية بعض القتلى يطلب منهم المساهمة فى دفعها، فأجلسوه بجوار حائط لهم وأوهموه أنهم سيُحْضِرون له المال المطلوب حالا. ثم كلَّفوا أحدهم أن يصعد إلى أعلى الجدار ويلقى برَحًى ثقيلة على رأسه صلى الله عليه وسلم فتهشِّمه، لكن المؤامرة انكشفت فقام النبى من مكانه مغادرا فى الحال، ثم أرسل إليهم أن اخرجوا من المدينة. بَيْدَ أن المنافقين نفثوا فى رُوعهم أن يَبْقَوْا حيث هم وأكدوا لهم أنهم سوف يقفون بجانبهم ولن يتركوهم يخرجون، وإلا فلسوف يخرجون هم أيضا تضامنًا معهم. فانخدع اليهود بكلام المنافقين الجبان وبَقُوا فى حصونهم، مما اضطر المسلمين لمحاصرتهم حتى نزلوا على ما كانوا رفضوه من قبل بسبب التحريض النفاقى. وكان من يهود بنى النَّضِير زعيمٌ شاعرٌ دَأَب على نظم القصائد فى التشبيب بنساء المسلمات، فضلاً عن ذهابه هو وأمثاله من القادة النَّضِيريّين إلى المشركين فى مكة وتحريضهم على مهاجمة يثرب...وما إلى ذلك، وهو ابن أبى الحُقَيْق، الذى لم يجد من أبناء قبيلته من يفكر فى كفّه عن هذه المؤامرات المدمّرة ويذكّره بالعهد الذى كان بينهم وبين المسلمين ويقول له: "إن هذا لا يصح"، بل وجد بدلا من ذلك من يعمل على تشجيعه ويتعاون معه فى التآمر والخيانة والوقاحة ومعالنة الرسول والمسلمين بالعداء والتحالف مع مشركى مكة فى حربهم السافرة ضد الدولة التى يعيشون فى كنفها وتبسط عليهم جناح حمايتها، فكان مصيره هو المصير الذى يستحقه أمثاله، كما أصبحت مجاورة النَّضِيريين للمسلمين فى المدينة أمرا غير معقول ولا محتمل، فكان الإجلاء مثلما حدث من قبل لبنى قينقاع. ومرة أخرى نرى الرسول عليه السلام يصبر عليهم لآخر المدى ويرأف بهم رغم تكرر الغدر والسفالة والتآمر منهم، كما تركهم يخرجون بأموالهم ومتاعهم لم يصادره منهم، مع أنهم لو كانوا ظفروا بالمسلمين لكان انتقامهم مروِّعا حسبما تقضى شريعة العهد القديم وطبيعتهم الحاقدة على البشرية والرغبة فى إيذاء الآخرين المتأصلة فى نفوسهم حبًّا فى الإيذاء! ويشكك الكاتب فى موضوع مؤامرة الرَّحَى قائلا إن محمدا إنما لجأ إلى القول بأن الوحى هو الذى كشف له أمرها كى يوجد لنفسه العذر فى الغدر بهم طمعا فى أموالهم رغم أنه لم تكن هناك مؤامرة ولا يحزنون حسبما يقول! وهذا، والحق يقال، كلام العهرة، فقد ترك الرسول بنى النضير أيضا يخرحون بأموالهم ومتاعهم حتى لقد خلعوا أبواب دورهم وحملوها معهم على الإبل. بل إنه لم يَمَسّهم بأذى رغم كل ما فعلوه، ولو كان قد جَزَرَ رقاب طائفة من هؤلاء الخنازير ما لامه أحد، فالأمر أمر مصير دولة وأمة، وليس شروة طماطم. وكان عليه الصلاة والسلام قد سمح لهم، قبل أن يشمسوا بتحريض من المنافقين، بأن يأخذوا معهم كل ما يريدون وأن يحتفظوا كذلك ببساتينهم مع إقامة وكلاء عنهم فيها، إلا أن تماديهم فى العصيان والتحدى وعدم انتهاز الفرصة المواتية ورفض تلك الشروط اللينة المتسامحة قد جعلته صلى الله عليه وسم يتشدد فى شروط خروجهم عند استسلامهم الجبان الذليل فى آخر المطاف فيصادر منهم بساتينهم. ثم إنهم لم يكونوا لِيَسْكُتوا لو كان الرسول هو الذى اخترع هذه المؤامرة من عند نفسه، إلا أنهم قد خنسوا تماما فلم يفتحوا أفواههم النجسة ببنت شفة اعتراضًا أو توضيحًا أو تظلمًا أو حتى لتشويه صورة النبى الكريم الذى كانوا يكرهونه كراهية العمى والموت.

ونبلغ غزوة بنى قُرَيْظَة، الذين لم يتعظوا مما وقع لبنى قينقاع ولا لبنى النضير. ويبدو أن اللين الذى عامل به النبى هاتين القبيلتين من قبل قد أغرى القُرَظِيّين بأن يجربوا هم أيضا حظهم من الخيانة والغدر، وبخاصة أنهم قد اتخذوا من الإجراءات والتخطيطات ما جعلهم يعتقدون أنهم يستطيعون توجيه ضربة قاتلة لمحمد ولدينه هذه المرة، إذ ذهب وفد من زعمائهم إلى مكة فحرضوا القرشيين على غزو المدينة والقضاء على المسلمين ودخلوا معهم فى حلف أقسموا عليه عند أوثان الكعبة. ثم لم يكتفوا بذلك، بل شفعوه بالذهاب إلى قبائل عربية أخرى وثنية أيضًا وحرضوها بنفس الطريقة ومَنَّوْها بثروات المدينة وتحالفوا معهم كذلك على هذا. ثم إنهم، حين بلغ النبىَّ ما فعلوه وما انْتَوَوْه وأراد التثبت منه فأرسل إليهم من يفاتحهم فى المسألة ليعلم حقيقة أمرهم، كان ردهم فى غاية الوقاحة والسوء، وأعلنوا موقفهم بصراحة لا تحتمل أى لبس، وهددوا وتوعّدوا وأنكروا أن يكون بينهم وبينه أية معاهدة، أى أن عليه أن يبلّ الصحيفة ويشرب ماءها كما نقول فى لغتنا العامية! ولم يكتف الخونة بهذا، بل بدأوا بالتحرك والاتصالات بالغزاة منذ اللحظة الأولى وظهرت منهم علائم الخيانة والغدر فى وقت كانت ظروف المسلمين فى منتهى الحرج والصعوبة والضيق! ولولا أن الأقدار هيأت للإسلام فى ذلك الوقت العصيب نعيم بن مسعود الغطفانى، الذى أسلم سرًّا وأتى رسولَ الله وعرض عليه خطته فى إيقاع الشكوك بين الأحزاب وبين بنى قُرِيْظَة ووُفِّق فى تنفيذها لكان المسلمون قد ذهبوا أدراج الرياح إلى الأبد، ولما كان هناك إسلام ولا يحزنون. ثم هبت الريح العاصفة التى أرسلها الله على خيام الأحزاب فأطارتها وأوقعت الرعب فى قلوبهم فهبّوا إلى إبلهم فارّين لا يلوون على شىء. وعندئذ كان لا بد من العقاب لهؤلاء الأوغاد الخونة الذين لا يتعلمون الدرس أبدا ولا يتعظون ولا يقدرون على النظر أبعد من أنوفهم، فإذا شامُوا شيئًا من القوة فى أنفسهم، وهى فى العادة قوة مستعارة من الآخرين، فَجَرُوا وانتفشوا كما يفعلون هذه الأيام مع العرب والمسلمين اغترارًا بقوة أمريكا والغرب، غافلين عن أن الأمريكان والأوربيين إذا كانوا أقوياء اليوم، وكان العرب ضعفاء أذلاء بُلَداء، فإن الأمور لا يمكن أن تستقيم على هذه الحال إلى الأبد! المهم أن الرسول قد غزاهم وحاصرهم حتى استسلموا كالنعاج، فحوكموا على يد رجل من حلفائهم فى الجاهلية هو سعد بن معاذ، فحكم عليهم بقَتْل محاربيهم الغَدَرة الفَجَرة الكَفَرة، وسَبْى نسائهم وذرياتهم. وهنا يولول الكاتب ويصرخ متهما الرسول والمسلمين بالقسوة، وكأن الرحمة تقتضى صاحبها أن يكون، كالمسلمين فى هذه الأيام النَّحِسَات، أبلهَ غبيًّا لا يعرف أمور الحياة، فيُلْدَغ من الجحر الواحد مرات ومرات! أىّ رحمة يتكلم عنها الكاتب، وهو يعلم تمام العلم أن أسلافه الخائنين لو كانوا ظفروا بما خططوا له لما تركوا على ظهرها من بَشَرٍ أو دابّةٍ ولأبادوا محمدا وأتباعه وحيواناتهم تمام الإبادة على ما تأمرهم به شريعتهم التى تقول فى مثل هذا الموقف: "10«حِينَ تَقْرُبُ مِنْ مَدِينَةٍ لِتُحَارِبَهَا اسْتَدْعِهَا لِلصُّلحِ 11فَإِنْ أَجَابَتْكَ إِلى الصُّلحِ وَفَتَحَتْ لكَ فَكُلُّ الشَّعْبِ المَوْجُودِ فِيهَا يَكُونُ لكَ لِلتَّسْخِيرِ وَيُسْتَعْبَدُ لكَ. 12وَإِنْ لمْ تُسَالِمْكَ بَل عَمِلتْ مَعَكَ حَرْباً فَحَاصِرْهَا. 13وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ. 14وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالأَطْفَالُ وَالبَهَائِمُ وَكُلُّ مَا فِي المَدِينَةِ كُلُّ غَنِيمَتِهَا فَتَغْتَنِمُهَا لِنَفْسِكَ وَتَأْكُلُ غَنِيمَةَ أَعْدَائِكَ التِي أَعْطَاكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. 15هَكَذَا تَفْعَلُ بِجَمِيعِ المُدُنِ البَعِيدَةِ مِنْكَ جِدّاً التِي ليْسَتْ مِنْ مُدُنِ هَؤُلاءِ الأُمَمِ هُنَا. 16وَأَمَّا مُدُنُ هَؤُلاءِ الشُّعُوبِ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَصِيباً فَلا تَسْتَبْقِ مِنْهَا نَسَمَةً مَا 17بَل تُحَرِّمُهَا تَحْرِيماً... كَمَا أَمَرَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ" (تثنية/ 2/ 10- 16)، "15فالآن اذهب و اضرب عماليق و حرّموا كل ما له و لا تعف عنهم بل اقتل رجلا و امراة، طفلا ورضيعا، بقرا و غنما، جملا و حمارا" (صموئيل الأول/ 3).

فضلا عن أن ما اجترحه اليهود إنما هو الخيانة العظمى بلحمها وشحمها، وليس شيئًا أقل من ذلك. ثم من الذى كان يتطلع إلى أموال الآخر؟ إنهم ليسوا المسلمين بحال، بل اليهود الذين رأيناهم يمنّون المشركين بثروات المدينة قبل قليل! وتبقى غزوة خَيْبَر، هذه الواحة التى كانت قد أضحت معقلا للتآمر اليهودى بعد سقوط بنى قُرَيْظَة، كما كان زعماؤها ضمن اليهود الذين ذهبوا لتحزيب الأحزاب للهجوم على يثرب والقضاء النهائى على المسلمين ودينهم، فكان لا بد من كسر شوكتهم، وهو ما حدث. وقد أجلى الرسول الكريم الخطِرين منهم، وأقرّ الباقين فى ديارهم وأملاكهم على أن يدفعوا له نصف غلة أرضيهم وبساتينهم. ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام ذات المعاملة الكريمة التى لا يستحقها الخونة الأوغاد الذين لو قُدِّر لهم الظَّفَر بالمسلمين لما رَعَوْا فيهم إلاًّ ولا ذمّة!

والغريب أن يصدّع الكاتب، كعامّة المستشرقين والمبشرين، أدمغتنا بالكلام عن القسوة التى عامل النبى الكريم بها اليهود، ناسيًا أن كتابهم يذكر عنهم وعن قوادهم، بفخرٍ مجلجل،ٍ ما يدل على ما كانوا يعاملون به الآخرين من قسوة مفرطة ليس فيها أدنى مراعاة لضميرٍ أو قانونٍ، فضلاً عن أنه يَعْزوه إلى بركة الله ورضاه عن بنى إسرائيل: من ذلك مثلا ما جاء فى الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر "التكوين" على النحو التالى: "1وَخَرَجَتْ دِينَةُ ابْنَةُ لَيْئَةَ الَّتِي وَلَدَتْهَا لِيَعْقُوبَ لِتَنْظُرَ بَنَاتِ الأَرْضِ 2فَرَآهَا شَكِيمُ ابْنُ حَمُورَ الْحِوِّيِّ رَئِيسِ الأَرْضِ وَأَخَذَهَا وَاضْطَجَعَ مَعَهَا وَأَذَلَّهَا. 3وَتَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِدِينَةَ ابْنَةِ يَعْقُوبَ وَأَحَبَّ الْفَتَاةَ وَلاَطَفَها. 4فَقَالَ شَكِيمُ لِحَمُورَ أَبِيهِ: «خُذْ لِي هَذِهِ الصَّبِيَّةَ زَوْجَةً». 5وَسَمِعَ يَعْقُوبُ أَنَّهُ نَجَّسَ دِينَةَ ابْنَتَهُ. وَأَمَّا بَنُوهُ فَكَانُوا مَعَ مَوَاشِيهِ فِي الْحَقْلِ فَسَكَتَ يَعْقُوبُ حَتَّى جَاءُوا. 6فَخَرَجَ حَمُورُ أَبُو شَكِيمَ إِلَى يَعْقُوبَ لِيَتَكَلَّمَ مَعَهُ. 7وَأَتَى بَنُو يَعْقُوبَ مِنَ الْحَقْلِ حِينَ سَمِعُوا. وَغَضِبَ الرِّجَالُ وَاغْتَاظُوا جِدّاً لأَنَّهُ صَنَعَ قَبَاحَةً فِي إِسْرَائِيلَ بِمُضَاجَعَةِ ابْنَةِ يَعْقُوبَ. وَ«هَكَذَا لاَ يُصْنَعُ». 8وَقَالَ لَهُمْ حَمُورُ: «شَكِيمُ ابْنِي قَدْ تَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِابْنَتِكُمْ. أَعْطُوهُ إِيَّاهَا زَوْجَةً 9وَصَاهِرُونَا. تُعْطُونَنَا بَنَاتِكُمْ وَتَأْخُذُونَ لَكُمْ بَنَاتِنَا 10وَتَسْكُنُونَ مَعَنَا وَتَكُونُ الأَرْضُ قُدَّامَكُمُ. اسْكُنُوا وَاتَّجِرُوا فِيهَا وَتَمَلَّكُوا بِهَا». 11ثُمَّ قَالَ شَكِيمُ لأَبِيهَا وَلإِخْوَتِهَا: «دَعُونِي أَجِدْ نِعْمَةً فِي أَعْيُنِكُمْ. فَالَّذِي تَقُولُونَ لِي أُعْطِي. 12كَثِّرُوا عَلَيَّ جِدّاً مَهْراً وَعَطِيَّةً فَأُعْطِيَ كَمَا تَقُولُونَ لِي. وَأَعْطُونِي الْفَتَاةَ زَوْجَةً». 13فَأَجَابَ بَنُو يَعْقُوبَ شَكِيمَ وَحَمُورَ أَبَاهُ بِمَكْرٍ لأَنَّهُ كَانَ قَدْ نَجَّسَ دِينَةَ أُخْتَهُمْ: 14«لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَفْعَلَ هَذَا الأَمْرَ أَنْ نُعْطِيَ أُخْتَنَا لِرَجُلٍ أَغْلَفَ لأَنَّهُ عَارٌ لَنَا. 15غَيْرَ أَنَّنَا بِهَذَا نُواتِيكُمْ: إِنْ صِرْتُمْ مِثْلَنَا بِخَتْنِكُمْ كُلَّ ذَكَرٍ. 16نُعْطِيكُمْ بَنَاتِنَا وَنَأْخُذُ لَنَا بَنَاتِكُمْ وَنَسْكُنُ مَعَكُمْ وَنَصِيرُ شَعْباً وَاحِداً. 17وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوا لَنَا أَنْ تَخْتَتِنُوا نَأْخُذُ ابْنَتَنَا وَنَمْضِي». 18فَحَسُنَ كَلاَمُهُمْ فِي عَيْنَيْ حَمُورَ وَفِي عَيْنَيْ شَكِيمَ بْنِ حَمُورَ. 19وَلَمْ يَتَأَخَّرِ الْغُلاَمُ أَنْ يَفْعَلَ الأَمْرَ لأَنَّهُ كَانَ مَسْرُوراً بِابْنَةِ يَعْقُوبَ. وَكَانَ أَكْرَمَ جَمِيعِ بَيْتِ أَبِيهِ. 20فَأَتَى حَمُورُ وَشَكِيمُ ابْنُهُ إِلَى بَابِ مَدِينَتِهُِمَا وَقَالاَ لأَهْلَ مَدِينَتِهُِمَا: 21«هَؤُلاَءِ الْقَوْمُ مُسَالِمُونَ لَنَا. فَلْيَسْكُنُوا فِي الأَرْضِ وَيَتَّجِرُوا فِيهَا. وَهُوَذَا الأَرْضُ وَاسِعَةُ الطَّرَفَيْنِ أَمَامَهُمْ. نَأْخُذُ لَنَا بَنَاتِهِمْ زَوْجَاتٍ وَنُعْطِيهِمْ بَنَاتِنَا. 22غَيْرَ أَنَّهُ بِهَذَا فَقَطْ يُواتِينَا الْقَوْمُ عَلَى السَّكَنِ مَعَنَا لِنَصِيرَ شَعْباً وَاحِداً: بِخَتْنِنَا كُلَّ ذَكَرٍ كَمَا هُمْ مَخْتُونُونَ. 23أَلاَ تَكُونُ مَوَاشِيهِمْ وَمُقْتَنَاهُمْ وَكُلُّ بَهَائِمِهِمْ لَنَا؟ نُواتِيهِمْ فَقَطْ فَيَسْكُنُونَ مَعَنَا». 24فَسَمِعَ لِحَمُورَ وَشَكِيمَ ابْنِهِ جَمِيعُ الْخَارِجِينَ مِنْ بَابِ الْمَدِينَةِ. وَاخْتَتَنَ كُلُّ ذَكَرٍ - كُلُّ الْخَارِجِينَ مِنْ بَابِ الْمَدِينَةِ. 25فَحَدَثَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ إِذْ كَانُوا مُتَوَجِّعِينَ أَنَّ ابْنَيْ يَعْقُوبَ شِمْعُونَ وَلاَوِيَ أَخَوَيْ دِينَةَ أَخَذَا كُلُّ وَاحِدٍ سَيْفَهُ وَأَتَيَا عَلَى الْمَدِينَةِ بِأَمْنٍ وَقَتَلاَ كُلَّ ذَكَرٍ. 26وَقَتَلاَ حَمُورَ وَشَكِيمَ ابْنَهُ بِحَدِّ السَّيْفِ وَأَخَذَا دِينَةَ مِنْ بَيْتِ شَكِيمَ وَخَرَجَا. 27ثُمَّ أَتَى بَنُو يَعْقُوبَ عَلَى الْقَتْلَى وَنَهَبُوا الْمَدِينَةَ لأَنَّهُمْ نَجَّسُوا أُخْتَهُمْ. 28غَنَمَهُمْ وَبَقَرَهُمْ وَحَمِيرَهُمْ وَكُلَُّ مَا فِي الْمَدِينَةِ وَمَا فِي الْحَقْلِ أَخَذُوهُ. 29وَسَبُوا وَنَهَبُوا كُلَّ ثَرْوَتِهِمْ وَكُلَّ أَطْفَالِهِمْ وَنِسَاءَهُمْ وَكُلَّ مَا فِي الْبُيُوتِ. 30فَقَالَ يَعْقُوبُ لِشَمْعُونَ وَلاَوِي: «كَدَّرْتُمَانِي بِتَكْرِيهِكُمَا إِيَّايَ عِنْدَ سُكَّانِ الأَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ وَالْفِرِزِيِّينَ وَأَنَا نَفَرٌ قَلِيلٌ. فَيَجْتَمِعُونَ عَلَيَّ وَيَضْرِبُونَنِي فَأَبِيدُ أَنَا وَبَيْتِي». 31فَقَالاَ: «أَنَظِيرَ زَانِيَةٍ يَفْعَلُ بِأُخْتِنَا؟».

ومثله ما فعله كل من بنى بنيامين وبنى إسرائيل بالطرف الآخر رغم القرابة اللصيقة التى تربط بينهم، إذ أفنى كل منهم من خصمه عشرات الألوف، وأعمل السيف فى جميع سكان المدن التى دخلها، وكل ذلك بسبب اعتداء بضعة أشخاص من بنى بنيامين على سُرِّيَّة رجل من بنى إسرائيلِ (قضاة/ 19- 20). ولنقرأ فقط هذه الفقرة التى يختم بها المؤلف الرواية: "48 وَرَجَعَ رِجَالُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى بَنِي بَنْيَامِينَ وَضَرَبُوهُمْ بِحَدِّ السَّيْفِ مِنَ الْمَدِينَةِ بِأَسْرِهَا حَتَّى الْبَهَائِمَ حَتَّى كُلَّ مَا وُجِدَ وَأَيْضاً جَمِيعُ الْمُدُنِ الَّتِي وُجِدَتْ أَحْرَقُوهَا بِالنَّار". ومن ذلك الوادى ما فعله النبى إيليا حين ذبح كلَّ كهان البعل بالسيف، وعددهم أربعمائة وخمسون (كما جاء فى الفقرة 22 من الإصحاح التالى)، لم يُبْقِ منهم على أحد: "31ثُمَّ أَخَذَ إِيلِيَّا اثْنَيْ عَشَرَ حَجَراً، بِعَدَدِ أَسْبَاطِ بَنِي يَعْقُوبَ (الَّذِي كَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَيْهِ: [إِسْرَائِيلَ يَكُونُ اسْمُكَ]) 32وَبَنَى الْحِجَارَةَ مَذْبَحاً بِاسْمِ الرَّبِّ، وَعَمِلَ قَنَاةً حَوْلَ الْمَذْبَحِ تَسَعُ كَيْلَتَيْنِ مِنَ الْبِزْرِ. 33ثُمَّ رَتَّبَ الْحَطَبَ وَقَطَّعَ الثَّوْرَ وَوَضَعَهُ عَلَى الْحَطَبِ وَقَالَ: [امْلأوا أَرْبَعَ جَرَّاتٍ مَاءً وَصُبُّوا عَلَى الْمُحْرَقَةِ وَعَلَى الْحَطَبِ]. 34ثُمَّ قَالَ: [ثَنُّوا] فَثَنَّوْا. وَقَالَ: [ثَلِّثُوا فَثَلَّثُوا. 35فَجَرَى الْمَاءُ حَوْلَ الْمَذْبَحِ وَامْتَلَأَتِ الْقَنَاةُ أَيْضاً مَاءً. 36وَكَانَ عِنْدَ إِصْعَادِ التَّقْدِمَةِ أَنَّ إِيلِيَّا النَّبِيَّ تَقَدَّمَ وَقَالَ: [أَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَإِسْرَائِيلَ، لِيُعْلَمِ الْيَوْمَ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ فِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنِّي أَنَا عَبْدُكَ، وَبِأَمْرِكَ قَدْ فَعَلْتُ كُلَّ هَذِهِ الأُمُورِ. 37اسْتَجِبْنِي يَا رَبُّ اسْتَجِبْنِي، لِيَعْلَمَ هَذَا الشَّعْبُ أَنَّكَ أَنْتَ الرَّبُّ الإِلَهُ، وَأَنَّكَ أَنْتَ حَوَّلْتَ قُلُوبَهُمْ رُجُوعاً]. 38فَسَقَطَتْ نَارُ الرَّبِّ وَأَكَلَتِ الْمُحْرَقَةَ وَالْحَطَبَ وَالْحِجَارَةَ وَالتُّرَابَ، وَلَحَسَتِ الْمِيَاهَ الَّتِي فِي الْقَنَاةِ. 39فَلَمَّا رَأَى جَمِيعُ الشَّعْبِ ذَلِكَ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَقَالُوا: [الرَّبُّ هُوَ اللَّهُ! الرَّبُّ هُوَ اللَّهُ!]. 40فَقَالَ لَهُمْ إِيلِيَّا: [أَمْسِكُوا أَنْبِيَاءَ الْبَعْلِ وَلاَ يُفْلِتْ مِنْهُمْ رَجُلٌ]. فَأَمْسَكُوهُمْ، فَنَزَلَ بِهِمْ إِيلِيَّا إِلَى نَهْرِ قِيشُونَ وَذَبَحَهُمْ هُنَاكَ" (الملوك الأول/ 18). ومثلما صنع إيليا صنع أيضًا ياهو بن شافاط، الذى أقامه النبى أليشاع ملكا على بنى إسرائيل وحرّضه عى استئصال بيت أحْآب على بكرة أبيه، فقام بالواجب، ثم زاد فأباد جميع عبّاد البعل وكهنته بعد أن خدعهم وجمعهم فى المعبد الوثنى متظاهرا أنه هو أيضا من عبّاده ثم قتلهم لم يُفْلِت منهم رجلا (الملوك الثانى/ 9). ومنه ما فعله بنو إسرائيل ببنى يهوذا إخوتهم فى النص التالى من الإصحاح الثامن والعشرين من سفر "الأيام الثانى": "1كَانَ آحَازُ ابْنَ عِشْرِينَ سَنَةً حِينَ مَلَكَ وَمَلَكَ سِتَّ عَشَرَةَ سَنَةً فِي أُورُشَلِيمَ وَلَمْ يَفْعَلِ الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ كَدَاوُدَ أَبِيهِ 2بَلْ سَارَ فِي طُرُقِ مُلُوكِ إِسْرَائِيلَ وَعَمِلَ أَيْضاً تَمَاثِيلَ مَسْبُوكَةً لِلْبَعْلِيمِ. 3وَهُوَ أَوْقَدَ فِي وَادِي ابْنِ هِنُّومَ وَأَحْرَقَ بَنِيهِ بِالنَّارِ حَسَبَ رَجَاسَاتِ الأُمَمِ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. 4وَذَبَحَ وَأَوْقَدَ عَلَى الْمُرْتَفَعَاتِ وَعَلَى التِّلاَلِ وَتَحْتَ كُلِّ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ. 5فَدَفَعَهُ الرَّبُّ إِلَهُهُ لِيَدِ مَلِكِ أَرَامَ فَضَرَبُوهُ وَسَبُوا مِنْهُ سَبْياً عَظِيماً وَأَتُوا بِهِمْ إِلَى دِمَشْقَ. وَدُفِعَ أَيْضاً لِيَدِ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً عَظِيمَةً. 6وَقَتَلَ فَقْحُ بْنُ رَمَلْيَا فِي يَهُوذَا مِئَةً وَعِشْرِينَ أَلْفاً فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ - الْجَمِيعُ بَنُو بَأْسٍ - لأَنَّهُمْ تَرَكُوا الرَّبَّ إِلَهَ آبَائِهِمْ. 7وَقَتَلَ زِكْرِي جَبَّارُ أَفْرَايِمَ مَعْسِيَّا ابْنَ الْمَلِكِ وَعَزْرِيقَامَ رَئِيسَ الْبَيْتِ وَأَلْقَانَةَ ثَانِيَ الْمَلِكِ. 8وَسَبَى بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ إِخْوَتِهِمْ مِئَتَيْ أَلْفٍ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَنَهَبُوا أَيْضاً مِنْهُمْ غَنِيمَةً وَافِرَةً وَأَتُوا بِالْغَنِيمَةِ إِلَى السَّامِرَةِ". ومنه كذلك ما فعلته يهوديت الأرملة اليهودية الجميلة التى ذهبت إلى معسكر الأشوريين وعملت على إغراء قائدهم الحربى بما تغرى به الأنثى الرجال وسقته خمرا حتى فقد وعيه، ثم احتزَّت رأسه وهربت من المعسكر إلى قومها...إلخ. وبسببها انتصر بنو إسرائيل بعد أن كانوا قد أزمعوا الاستسلام لأولئك الأعداء كعادتهم فى كثير من الأحوال! (انظر سفر "يهوديت" فى النسخة الكاثوليكية من الكتاب المقدس). أَذْكُر هذا على عِلاّته بغض النظر عن تاريخية القصة أو خياليتها، فإن دارسى الكتاب المقدس يشكّون فى صحة هذه الواقعة ويَرَوْنها حكايةً مصنوعة (انظر مقدمة سفر "يهوديت" فى الترجمة الكاثوليكية للكتاب المقدس).

على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فهناك الأمنيات التى يتمنَّى بنو إسرائيل وقوعها بالأمم الأخرى، وهى أمنياتٌ بشعةٌ تكشف ما فى قلوبهم من أحقاد لا ينطفئ لها لَظًى. ولنأخذ فقط بعض ما ينوبنا نحن المصريين من هذا الحب، ولنقرأ ما جاء فى نبوءة أَشَعْيَا فى الإصحاح التاسع عشر: "1وَحْيٌ مِنْ جِهَةِ مِصْرَ: «هُوَذَا الرَّبُّ رَاكِبٌ عَلَى سَحَابَةٍ سَرِيعَةٍ وَقَادِمٌ إِلَى مِصْرَ فَتَرْتَجِفُ أَوْثَانُ مِصْرَ مِنْ وَجْهِهِ وَيَذُوبُ قَلْبُ مِصْرَ دَاخِلَهَا. 2وَأُهَيِّجُ مِصْرِيِّينَ عَلَى مِصْرِيِّينَ فَيُحَارِبُونَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ صَاحِبَهُ: مَدِينَةٌ مَدِينَةً وَمَمْلَكَةٌ مَمْلَكَةً. 3وَتُهْرَاقُ رُوحُ مِصْرَ دَاخِلَهَا. وَأُفْنِي مَشُورَتَهَا فَيَسْأَلُونَ الأَوْثَانَ وَالْعَازِفِينَ وَأَصْحَابَ التَّوَابِعِ وَالْعَرَّافِينَ. 4وَأُغْلِقُ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ فِي يَدِ مَوْلىً قَاسٍ فَيَتَسَلَّطُ عَلَيْهِمْ مَلِكٌ عَزِيزٌ يَقُولُ السَّيِّدُ رَبُّ الْجُنُودِ. 5«وَتُنَشَّفُ الْمِيَاهُ مِنَ الْبَحْرِ وَيَجِفُّ النَّهْرُ وَيَيْبَسُ. 6وَتُنْتِنُ الأَنْهَارُ وَتَضْعُفُ وَتَجِفُّ سَوَاقِي مِصْرَ وَيَتْلَفُ الْقَصَبُ وَالأَسَلُ. 7وَالرِّيَاضُ عَلَى حَافَةِ النِّيلِ وَكُلُّ مَزْرَعَةٍ عَلَى النِّيلِ تَيْبَسُ وَتَتَبَدَّدُ وَلاَ تَكُونُ. 8وَالصَّيَّادُونَ يَئِنُّونَ وَكُلُّ الَّذِينَ يُلْقُونَ شِصّاً فِي النِّيلِ يَنُوحُونَ. وَالَّذِينَ يَبْسُطُونَ شَبَكَةً عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ يَحْزَنُونَ 9وَيَخْزَى الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الْكَتَّانَ الْمُمَشَّطَ وَالَّذِينَ يَحِيكُونَ الأَنْسِجَةَ الْبَيْضَاءَ. 10وَتَكُونُ عُمُدُهَا مَسْحُوقَةً وَكُلُّ الْعَامِلِينَ بِالأُجْرَةِ مُكْتَئِبِي النَّفْسِ. 11«إِنَّ رُؤَسَاءَ صُوعَنَ أَغْبِيَاءَ! حُكَمَاءُ مُشِيرِي فِرْعَوْنَ مَشُورَتُهُمْ بَهِيمِيَّةٌ. كَيْفَ تَقُولُونَ لِفِرْعَوْنَ: أَنَا ابْنُ حُكَمَاءَ ابْنُ مُلُوكٍ قُدَمَاءَ. 12فَأَيْنَ هُمْ حُكَمَاؤُكَ؟ فَلْيُخْبِرُوكَ. لِيَعْرِفُوا مَاذَا قَضَى بِهِ رَبُّ الْجُنُودِ عَلَى مِصْرَ. 13رُؤَسَاءُ صُوعَنَ صَارُوا أَغْبِيَاءَ. رُؤَسَاءُ نُوفَ انْخَدَعُوا. وَأَضَلَّ مِصْرَ وُجُوهُ أَسْبَاطِهَا. 14مَزَجَ الرَّبُّ فِي وَسَطِهَا رُوحَ غَيٍّ فَأَضَلُّوا مِصْرَ فِي كُلِّ عَمَلِهَا كَتَرَنُّحِ السَّكْرَانِ فِي قَيْئِهِ. 15فَلاَ يَكُونُ لِمِصْرَ عَمَلٌ يَعْمَلُهُ رَأْسٌ أَوْ ذَنَبٌ نَخْلَةٌ أَوْ أَسَلَةٌ. 16فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَكُونُ مِصْرُ كَالنِّسَاءِ فَتَرْتَعِدُ وَتَرْجُفُ مِنْ هَزَّةِ يَدِ رَبِّ الْجُنُودِ الَّتِي يَهُزُّهَا عَلَيْهَا. 17«وَتَكُونُ أَرْضُ يَهُوذَا رُعْباً لِمِصْرَ. كُلُّ مَنْ تَذَكَّرَهَا يَرْتَعِبُ مِنْ أَمَامِ قَضَاءِ رَبِّ الْجُنُودِ الَّذِي يَقْضِي بِهِ عَلَيْهَا. 18«فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ فِي أَرْضِ مِصْرَ خَمْسُ مُدُنٍ تَتَكَلَّمُ بِلُغَةِ كَنْعَانَ وَتَحْلِفُ لِرَبِّ الْجُنُودِ يُقَالُ لإِحْدَاهَا «مَدِينَةُ الشَّمْسِ». 19فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِي وَسَطِ أَرْضِ مِصْرَ وَعَمُودٌ لِلرَّبِّ عِنْدَ تُخُمِهَا. 20فَيَكُونُ عَلاَمَةً وَشَهَادَةً لِرَبِّ الْجُنُودِ فِي أَرْضِ مِصْرَ. لأَنَّهُمْ يَصْرُخُونَ إِلَى الرَّبِّ بِسَبَبِ الْمُضَايِقِينَ فَيُرْسِلُ لَهُمْ مُخَلِّصاً وَمُحَامِياً وَيُنْقِذُهُمْ. 21فَيُعْرَفُ الرَّبُّ فِي مِصْرَ وَيَعْرِفُ الْمِصْريُّونَ الرَّبَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَيُقَدِّمُونَ ذَبِيحَةً وَتَقْدِمَةً وَيَنْذُرُونَ لِلرَّبِّ نَذْراً وَيُوفُونَ بِهِ. 22وَيَضْرِبُ الرَّبُّ مِصْرَ ضَارِباً فَشَافِياً فَيَرْجِعُونَ إِلَى الرَّبِّ فَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ وَيَشْفِيهِمْ. 23«فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ تَكُونُ سِكَّةٌ مِنْ مِصْرَ إِلَى أَشُّورَ فَيَجِيءُ الأَشُّورِيُّونَ إِلَى مِصْرَ وَالْمِصْرِيُّونَ إِلَى أَشُّورَ وَيَعْبُدُ الْمِصْرِيُّونَ مَعَ الأَشُّورِيِّينَ. 24فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ إِسْرَائِيلُ ثُلْثاً لِمِصْرَ وَلأَشُّورَ بَرَكَةً فِي الأَرْضِ 25بِهَا يُبَارِكُ رَبُّ الْجُنُودِ قَائِلاً: مُبَارَكٌ شَعْبِي مِصْرُ وَعَمَلُ يَدَيَّ أَشُّورُ وَمِيرَاثِي إِسْرَائِيلُ»".

هذه المادة اشترك فى كتابتها ثلاثة أشخاص، لكنى جريت على ما يجرى عليه الكلام فى مثل هذه الظروف عادة، إذ قلت: "الكاتب"، وليس "الكتّاب" على أساس أن كلا منهم استقلّ بجزء من المادة، فمناقشتى لأى شىء فيها إذن هو مناقشةٌ للكاتب الفرد الذى كتبه فقط لا لجميع من اشتركوا فى كتابة المادة كلها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى