الخميس ٢٣ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٦
بقلم عبد المجيـد إبراهيـم قاسـم

توظيف التراث في أدب الأطفال

إن الثقافة - بمفهومها العام - ما هي إلا مرآة الشعوب ، وإحدى أهم معالم الحضارة الإنسانية ، والتراث بدوره يشكِّل الأساس المتين للثقافة وعلى أرضيته الخصبة تُزهر مختلف صنوف الآداب والفنون .

والتراث في اللغة يعني ما يتركه الإنسان لمن يخلفه أو يأتي بعده ، ولقد كان على مرِّ العصور من أهم الينابيع التي رفدت نهر الأدب بالعطاء المتدفِّق والإمداد المستمر ، إلا أن توظيفه يصبح ذا مكانة أكثر تميُّزاً عندما يتعلَّق الأمر بأدب الأطفال ، وذلك لتنوّع أشكال التوظيف والاستثمار فيه ، وقد اُعتمد التوظيف مع بدايات ظهور أدب الأطفال وكان أهم المصادر لكتّاب الأطفال في العالم أمثال "لافونتين" و ("تشارلز بيرو" و "فرانسيس أوزبور" و "روبرت سامبر" و "هانز أندرسون" ) وتمكَّن أدب الأطفال بفعله من تحقيق نهضة متكاملة في تاريخه الحديث .

وتوظيف التراث في أدب الأطفال يعني استحضار فترات محدَّدة من التاريخ "سواءً من خلال مواقف أو حوادث أو شخصيات" ، أو استلهام قصص وحكايات وقصائد وفكاهات ونوادر وأمثال من التراث الشعبي ، أو استغلال كتب تراثية عالمية ككتابي "كليلة دمنه" و" ألف ليلة وليلة" ) - الّلذين يحتويان على الكثير من الحكم والمواعظ ، وأجواء من السحر والدهشة ، والمرح والفكاهة - بما تتضَّمنه من المعاني الإنسانية ، ثم انتقاء ما هو مناسب للطفولة ، واختيار النماذج التي تستحق أن تكون مثلاً للأطفال ، ثم العمل على إعادة صياغتها وتحويلها إلى قصص ومسرحيات مبسَّطة وإلى قصائد شعر وأغان وإكسائها لوناً يتناسب وروح العصر الذي يعيشه الطفل
وينجذب الأطفال بشكل كبير نحو الأعمال التي تتخذ طابعاً تراثياً ، وتبلغ فيهم مبلغ العقل والوجدان ، كونهم يتعايشون مع الطقوس الشعبية أولاً ، ولأنها تحمل النكهة الساحرة واللغة الجميلة ثانياً .

ويمكن تبسيط المادة التراثية على شكل قصة أو قصيدة أو مسرحية أو مقالة ، ومن صوره مثلاً : أن نعرِّف الأطفال بشخصية تاريخية هامة ، ونجعلها تتحدث عن نفسها ، وعن مولدها ونشأتها وإنجازاتها ، مع استعراض لنماذج من إبداعاتها وأعمالها بأسلوب مبسَّط ومناسب ، ويعتبر الشعر أكثر الأجناس الأدبية طواعية لاستثمار التراث ، وأكثرها مقدرة على استلهامه .
وتكمن أهداف التوظيف في أن يطّلِع الأطفال على تراثهم ، وأن يتعرَّفوا على الشخصيات الهامة في تاريخ أمتهم ، كما يهدف إلى غرس القيم والمثل في نفوسهم ، حيث تترسخ في الأذهان من خلال العبرة التاريخية ، بالإضافة إلى توسيع آفاق معارفهم ، وإكسابهم الخيال الخصب .

إلا أن هذه العملية تحتاج إلى شروط معيَّنة لتحقِّق أهدافها ، وأهم عنصرين للتعامل مع التراث كما يحدِّدها الشاعر "سليمان العيسى" هما : ( الرؤية الجديدة واللغة الجديدة فالرؤية الجديدة تعني الحاضر ، وتبعث الحياة فيه ، وتجعله دوماً جديداً في شرايينه ، واللغة الجديدة هي الوسيلة التي تجعل من هذا الماضي البعيد شيئاً قريباً إلينا ومألوفاً منا ) إذاً : لابدَّ لنجاح عملية التوظيف من قراءة التراث قراءة جيدة ، وفهمه فهماً سليماً وتقديمه برؤى وعاطفة جديدة ؛ يستطيع التأثير في المستقبل وتغيره نحو الأفضل ، أي قراءة معاصرة للتاريخ ضمن معادلة دقيقة ، ومزج ساحر بين الأصالة والمعاصرة في وعاء رائع وجميل ، وهذا لا يعني التغير في صلب الموضوع ، أو تحويله عن حقيقته ، كما أنه في الوقت عينه لا يعني اعتماد الجمود والتكرار والاكتفاء بالتقليد واجترار الماضي ؛ بل عملية منظَّمة ومدروسة ، يُستوحى منها ما يخدم الحاضر والمستقبل دون الإساءة للماضي
كما لابدَّ أن يحقِّق هذا التوظيف الأهداف التربوية والأهداف الفنية معاً .

وكما سبق ذكره فإن التراث يمثِّل اللوحة الأكثر وضوحاً في التعبير عن أصالة الشعوب ، وأحد أهم مقومات وجودها وبقائها ، لذالك فإن من الضروري توظيف هذا الجانب الهام من حياتها ، توظيفاً يتيح للنشئ التعرُّف على تراثه كما يجب ، ويطَّلع على الفترات المشرقة من ماضي أسلافه .

بالإضافة إلى استغلال الأدب الشعبي
كلُّ ذلك بصياغتها في موضوعات تتناسب مع مدارك الأطفال ، وتنسجم مع مستوى نضجهم - العقلي والانفعالي واللغوي - بعد أن تتناسب فيها الحوادث المنطقية ، وبشكل لا يُغفل فيها معطيات العصر الذي يعيشه الطفل ، ثم تُعرض بأساليب مشوِّقة ومثيرة تحفّز خيال الطفل وتستثير عواطفه ، وتعمل على تعميق انتمائه الإنساني ، وإلى غرس قيم جميلة في أعماقه ، وتنمية ذائقته الجمالية ، وليكتمل عنصريّ " الموضوعية والتشويق " في المادة المستلهمة ، وتتحقق بالتالي الغايات التربوية والترفيهية .


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى