الاثنين ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم ذكرى لعيبي

ثامنة بنات نعش

اتكأت على جذرها، ارتعش القلب وانتفضت الروح، كانت تصارع تماهيها مع ليل أبكم، لتخرج من سكونها الهامد

وأزمنة الحيف، إلى منارة رجاء تخطفها من آلهة الأولمب عنوة، حتى ولو بعد عذاب.

تقف مشدودة المقلة إلى أفق رحيم ورحيب، تفكر:

 أي الطرق أسلك؟
 لم يعد ذلك مهما فكل الطرق تؤدي إليهم
حاولت اقتحام ذلك الخوف اللئيم، أفزعتها مغامرة الولوج ثانية إلى العالم السفلي كي توقد سراج روحها، حاولت، حاولت ورنة حدسها تردد:
 بمقدورك ذلك يا بثينة، أنت امرأة لاتزرع الحماسة بل السرور.
 تعتقدين؟
 وبدون خسائر !
 لكن بتضحية
 بما تبقى !

في تلك الليلة أو في ذلك النهار، ربما في الساعة الخامسة والعشرين، لاتدري إذ ترسب في ذاكرتها أن الوقت غيوم دكناء، ربما لأنها كانت تنظر إلى الزمن بروحها المعذبة، وولجت إلى هناك::

كان المكان محتشدا بضجيج متنافر مخنوق، رائحة فاسدة لوثت خلايا الفضاء وتلافيف مخها، كاد رأسها يتفتت، أصابع متسخة، أياد ابليسية بأظافر طويلة، جدران بطلاء مموه كالحرباء، فضلات كارتون متعفنة متناثرة هنا وهناك، كان المكان حاوية فضلات في زقاق مظلم، العيون خائنة والألسن وسخة، كأنها تقذف ركام عفن مريب، كل ذلك أغلق على رئتيها منافذ أية نسمة لهواء عليل، ما جعل نفسها واهنة، حاولت أن تتكىء على صخرة سوداء، فاكتشفت أنها ليست من صلصال صلد، بل محض فضلات هشة سامة.

 ياربي.. أ كل شيء متواطيء مع الشيطان حتى الصلصال؟
 لا يابثينة، بمقدورك الفعل، حتى لو سدوا أفقك بحجارة من كذب ورياء، افتحي ثغرة وإن بمساحة شعرة رأس..
 آه لم يبق سوى رأسي بالفعل وان استشعره محطما.. مخروما كسد مأرب
 ليكن سلاحك إذا، لتقتلي تلك الفأرة العابثة أولا، ولتعيدي ترتيب حجارة خلاياك..

نعم اقتلي الفأرة، ودعي الماء يتدفق ثانية، جددي ارادتك، واحرثي ارض بلقيس أعيدي لأعمدتها زهو الرخاء، ولا تأخذك وشايات الهدهد، طلقي طيبة السذاجة، وحكايات النساء ومكرهن القديم.

 لكن.. ليس هناك من يحارب معي.. والوهم معركة خاسرة، تماما كوهم الخسارة بدعوى أنها نصر مبين.. ألم تمتلىء كتب التاريخ بكذب الاقوياء وخداع المستبدين، أية ريحانة بمقدورها أن تواجه الريح السموم وعصف الكذب، وأية يمامة بمقدورها التحليق بأجنحة بيض كالنقاء؟

 الوهم هو دثار هم المثقوب، والأمل قد تجدينه تحت الخرائب والأغبرة.. تحت طية أحزانك، فقط ابحثي بلا ياس، من يبحث يجد ! هيا.. اشعلي شمعة يقينك يا صبية القهر
رددت مع ضميرها ذلك اليقين، وهي تفكر بصوت مسموع، كمن يفز من كابوس مفزع، أو يفيق من نومة أبدية !

أوقدت شعلة بيضاء في عقلها وعلى هامتها القلعة وضعت سراجا منيرا ومضت.. تعثرت في البدء،، فتباطأت ثم راحت خطاها تسابق نبضها، أيقنت ألا بديل سوى الوصول، لتقطع الأصابع العابثة والألسن القذرة، لتعيد طلاء الجدران بلون الزهر وتخضب حواشيها بحناء النذور ودم محبتها، ولترش الأرض بماء الورد ولؤلؤ المقلة، لتسمر النظر في المشهد بلا مخاتلة أو خوف.

كانت الحدود ملتهبة بنار اللعنة وسنوات الضيم !

تعرف بثينة، ان هاجسا قويا رن في صوت ضميرها اسمه الموت، إن لم تعبر ممر النار والشكوك وكمائن الغدر، ستنتهي إلى محجة الآبدين، إنها تكره ان تقبر حية مثل بنت موؤدة، او تخسر رضاها المتناسق مثل سوناتا القمر.. تموت فقط حين تتوقف موسيقى حنوها الجميل وصدق نواياها !

أمها حذرتها ليلة زفافها كأنها ترددلازمة نواح ريف مكلوم:

 إن شكوت أو بكيت أو سمعت نبرة صوتك، فليس لك سوى الموت، هذه المرة أنت مسؤولة عن خياراتك، لاأحد منا يكون عند ضفتك، قاربك وحده في اليم ووحدك من يقود سفينة عمرك في تلك الغربة،، أ فهمتي؟؟

غلقت أمها في وجهها الخيارات

فهمت... ليس سوى الموت أو فإن كان لابد فلتمت مثل برحية الدار، مشرئبة العنق، ذلك أهون !
وتحت مظلة ذلك الإنهماك، عقلها ظل يغلي كمرجل حمام شعبي، قلبها وحده، قلبها قبل عقلها، كان دليلها تحدى آلامه وزاد من نبضه..

انتبذت ركن حقيقتها، أعادت ترتيب المسرات والأوجاع، وعند جذع البرحية، هزت نخلتها بحرقة المحتاج والمستجير، وهي تعلم أن عذوق الرطب الجني لاتسقط شتاءً.

بعد مخاض عسير جاءها الحدس الرائع كرطب جني:

 لمَ الموت؟ أ يرضى الخالق للمخلوق هذا البديل المعتم، وفي متسع الحياة منصة للقلب والأمل؟
هل تزفين إلى نفسك وقت الموت بهذه السهولة، وهناك وقت للحياة؟ أهي معركتك الأخيرة؟ يالك من متراخية خائبة بلهاء !

تسمرت قدماها وسمرت نظرتها في الأفق ثانية، صارت الرؤية أمامها جلية، تفقدت عثار الدرب وشعابه، ورأت إلى مفترقات المصير.

نبضها عاد يتسارع، دقت طبول وعيها، تشابكت الذكريات، وأطلت جردة الخسائر والخيبات منفتحة مثل دفتي كتاب مقروء أو مثل ملعقة مفرودة:

 يااااه.. كم أنا حسنة النية، وطيبة بلا طعم !

رددت بنبرة عجب، وتناهى لها صوت تفكيرها صادحاً:

 كم فاتتني أشياء وحقب وملاذات، وكم خدعتني مخاتلات التاريخ والبشر والعلاقات !!
ألقت الأسئلة عن كاهل فكرها، شعرت بأن الطريق ليس ما يُمشى، بل ما يكُتشف وإن الحل ليس في كتاب بلاغة الأسرار أو أسرار البلاغة، بل في مفتاح الجنان، بين ضلوع صادقة الحدب !
مدت كفها صوب كبدها، وجدته سليما لم يعد الغراب الأسود ينقر منه صباح مساء، ذلك العذاب القدري ولى، لملمت نظرتها وأطبقت هدبها السود فتراءت لها الأنهار والجبال والجنان بلا شح ولا شحوب، وعلى قمة جبل همومها لم ترَ سوى تلك الشعلة فتمسكت بنورها مثل راية بيت وأهل وعشير، فشعت فرحا،

وجدت كنزها ليس في الحلم بل بين ضلوع الواقع، تنور وجهها واصطبغ بنهارات لانهاية لها، تحسست الزمن، الوقت، بسمة اللحظة، فارتوت شفتها برضاب أنيس، يد حانية تمسح عن جبينها غبار ذلك الزمن الضنين ومرارة أيامه القاحلة، ووسط عنقها انسل من تلك التميمة الذهب، شعاع طمأنينتها ليغمر جسدها البردان كله ويدفىء حناياها، وعلى مقربة منها وقفت بثينتها الطيبة كأنها قادمة من سلالة براءة وسلف قديم ناء، تنظر إلى هذا التغيير، تجمدت صرخاتها العتيقة، الضحكات المرعوبة، ونحيب الغناء المر.

ترى إلى امرأة جديدة جردت سيف صفائها السعيد، أسرجت فرسها العندم وراحت تخب، تخب، تخب، فشقت نهر الأيام والمسرات والأوجاع، تطايرت موجات الدم والدموع، وليالي الأذى والأسى، مثل فلقتي نهر، خرج الرسول الخائف من جوفها وعبر، عبر جريئا كأنه رمح شجاع وهي في سفين حرقتها تندفع كأنها تعبر بين لجتين، لم تنظر خلفها لترى إلى جيش مخاوفها وخساراتها يطبق عليه اليم، قلبها وحده قادها، ارتعش ثم تصلد، طوت رداء الخوف القديم وألقته في اليم، انغمرت بنقاء التطهر، تماهت مع الشعلة البيضاء، اتحدت هامتها والقلعة وجبل إرادتها، صار قلبها وطنا تجلى بأناها وذاتها، اغتسلت بصحوة شمسها، هفت ورنت، وكأنها عنقاء تصاعد إلى العُلا من بحور طيوبها ورمادها، تكونت، تعالت، حلقت، حلقت حتى صارت حالة المستحيل الجميل!

وعلى درب التبانة كتبت الشموس حكاية امرأة يمامة أو عنقاء طردت ليل ضعفها بشمعة، وأوقدت نارها فوق هامة الجبل، تجاوزت الأفق، صعوداً، صعوداً، حتى صارت ثامنة بنات نعش!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى