الخميس ١٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم محمد الإحسايني

ثرثرة في حقبة الهزيمة - الحس التاريخي

أي كاتب يتمتع بالحس التاريخي يعي بالضرورة دوره، وهو ينحي البنية الماضوية. لا يعني ذلك أن الرشد وحده كاف للاهتداء إلى قيم السوق الثقافية القائمة في الساحة؛ بل إن المبالغة في استعمال العقل مجردا من كل استيطيقا يؤدي إلى العكس عند عزله عن وظيفته التاريخية، وانغماسه الكلي في مكنكة الواقع.

الأصل في الاتجاهات العقلانية الأولية في العالم العربي أنها كانت تنصب بحمولتها النقدية المحدودة على نقد النظرية التي تعقلن الواقع- تبرره، وتجعله معقولاً بقصد تكريسه ـ أو تنغمس بكليتها في الجري وراء الاجترار. خير مثال على ذلك، ما كان ينادي به الكتاب الإقليميون: لويس عوض حسين فوزي ـ سندباد مصري ـ ، توفيق الحكيم.
وجد الكتاب العرب، في ظروف ما بعد النكسة، أنفسهم في مفترق الطرق: ركزوا على اللاوعي، على التراكم والخصوصية، لم يغلبوا واحدهما على الآخر، وإنما استثمروهما في حوارهم مع الفكر الإقليمي، فتجاوزوه عن اقتدار، نحو تعبئة شاملة دون السقوط في الاستلاب. فقد كان عليهم أن يختاروا. ووقع اختيارهم فعلاً وحصل. فالصراع مازال ممتداً، وينبغي له. ودن أن نقول: إنه سيفضي إلى المعجزة أو النجاح، يمكن مخالفة نجيب محفوظ: " لقد نجونا بأعجوبة... لم نفقد شيئاً يتعذر تعويضه ـ أو إصلاحه ـ " ـ شهر العسل ـ .

إنه خطاب يحمل شحنة إيديولوجية معينة لم تزد على أن ضللت جمهورا واسعاً غارقاً في التفاؤل: لكن، هل يكفي ذلك لإيقاف الصراع؟
الواقع أن الصراع بطبيعته، ينقاد، في غالب الأحيان، إلى ذاته، فيتأصل، ويتأبد في الرفض الدائم للانقياد، والإذلال، وكل مظاهر الازدراء. وعلى ذلك، تبقى الرؤية إلى الواقع راهناً، قضية فلسفية ككل، والمقصود بالكل،
الإنسان في كليته، والمجتمع المرتبط به ككل، والطبيعة المحيطة بهما ككل.

وبالرغم من ذلك، فهذا الرأي تقريبي، وتقابله الحلول التقليدية حول مسألة الوجود وشروطه، وعلاته...وهي حلول ظهرت عديمة الجدوى، وقليلة التأثير، بطروحاتها الجامدة اللاتاريخية. إلا أن حلول التغيير تدفعنا بدورها إلى الشك الذي يظهر حينئذ فوق الاختيار. فالمعاني من شأنها أن تخدع الحواس، فلا يمارس المبدع هنا إلا مهنة المشعبذ، أو المهرج، أو الحاوي.
على الأدب العربي أن يزيل الوهم، بعد أن وُجد في مفترق الطرق، يدق ناقوس الخطر تعبيراً عن تقهقر إنساني في العالم المعاصر أمام عدوانية الآلة، وجنون التكنولوجيا، وسيادة الأسلحة الفتاكة، وقد يتصدى الكاتب، في ثورة مضادة، في الوقت المناسب، وكأديب طلائعي، إلى الثورة التكنولجية والصناعة الحضرية. ومن هذا الموقف، قد يتسنى له، إذا ما بلغ هذا التقدم ذروته، و واكبه الإنسان حضارياً، أن يتصور مهمة " إزالة الوهم ." حينئذ يقال: إن الكاتب قد بلغ سن الرشد، حينما يدرك نفسه كذات متحررة وكذات أخلاقية.

لم يكن " إزالة الوهم " بالنسبة إلى الروائي، سوى جزء من الوعي النظري: لن نذهب مع بعض القائلين في حصره المكونات الأوتوبيوغرافية كلها في الحدود التي ينحصر فيها خبر صحفي عابر:" ماذا نقص كيف...
ولماذا... "

ببساطة، يمكن إلغاء تلك الحدود، أو جلها، على افتراض أن الإبداع لا يعود إلى الكتابة في التذاذ سري شاذ، ولا يتظاهر بالكلمات، شأن محرري شيكات بلا رصيد. لا نحتاج إلى اقتناع أن المبدعات لاتبحث دائماً عن قارئ لها عبر قنوات النقد والتنظير، فكثيراً ما يبرز صوت المبدعات من خلالها بالذات، كصيغة إيديولوجية تخاطب بدورها طبقة معينة لعلها الطبقة الساحقة، في حين أن النقد، من خلال سلطته الرمزية، يكتسي طابعاً فوقياً، في حواره مع الطرف النقيض له، ويملي شروطه حتى يعتقد الطرف المناقض له، أنه يستعرض عضلاته.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى