السبت ١٧ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم أنس الفيلالي

ثقافة شامخة، وإبداع باذخ

بدعم من المجلس البلدي لمدينة شفشاون، وفعاليات المجتمع المدني ، نظمت جمعية شمس الأندلس مؤخرا ـ بتنسيق مع إدارة الحي الجامعي و نادي السلام للثقافة والفن بالحي ـ ملتقى ثقافيا كبيرا دام أربعة أيام متتالية تحت شعار "شفشاون: ثروة الماضي في ذاكرة الحاضر"، و ذلك انسجاما مع المشروع الثقافي الذي خططه مبدعو النادي للموسم الجامعي الحالي.

و قد جمع الملتقى المنظم بين أرخبيلات فكرية وأدبية وفنية مختلفة، اجتمعت في أكاديميتها واحترافيتها في تناول كل ما هو جميل حر وخلاق، يقتفي أثر منبع السويقة أو حبها العميق لمدينة شفشاون، هاته القصيدة الجميلة بألوانها الرحبة الخافتة الزرقة في دواوين القدماء والمحدثين، إنها الحياة التي تجري شمال المغرب وجنوبه، ومخيلة كل المبدعين الأصلاء الذين فتنهم عبق هذا الكائن البلوري الذي يُلْهِبُ البعيد والقريب حبا وجمالا وحياة. هذا اللهيب الذي لا يعرف الانطفاء أبدا، خاصة إذا كان بين جنبات وغرف و فضاءات الحي الجامعي بتطوان.

لقد افتتحت الندوة بآيات بينات من الذكر الحكيم، من روح جامعية شابة، فرضت الخشوع داخل القاعة وخارجها، تلتها كلمة مدير الحي الجامعي الأستاذ صالح الراغي، عبر فيها عن ترحابه الشديد بهذه الوفود من الضيوف التي حضرت من كل حدب وصوب، مشيدا بكل حماس وصدق بهذا المستوى العالي من الاحترافية في التنظيم بالحي، معلنا الانغماس في الروح التي يجب أن يكون عليها الطالب في المكان الذي يجب أن يكون عليه، تاركا الكلمة للطالب يونس أهلال بالنيابة عن أعضاء نادي السلام للثقافة والفن، شاكرا كل المساهمين على الرقي الجميل بهذا العرس وبهذا المستوى الذي استعرض برنامجه بدقة في خطابة بلاغية لا مثيل لها وسط الحرم الجامعي.

ولعل أول ما فتن الروح الجامعية الجامحة في الملتقى المذكور، الندوة العلمية التي افتتح النادي أعماله بها، والتي شارك فيها أساتذة أكاديميون أجلاء، و مبدعون متميزون، أكدوا من خلال الندوة وقبلها على احترافية أكاديمية عميقة في تناول المواضيع، في جميع سياقاتها الإبداعية وتحليلها العلمي في نكهته الجمالية التي تليق به. .

و قد لعب دور التنسيق بين أرخبيلات وحساسيات الأساتذة المتدخلين و المشاركين في فعاليات الندوة، الأستاذ زين العابدين بن طاهر الذي يمشي كعادته في الأمكنة التي يزورها أو يحط فيها، على خارطة ليلكية بهدير نسيم الليل و هوى الأسر في مكنونات الحب والحرية، مشيدا روح التواصل بين الأساتذة المتدخلين والجمهور الغفير الذي ملأ جنبات فضاء القاعة، ليترك المجال لمؤرخ مدينة شفشاون الأستاذ علي الريسوني، الذي يعتبر وعاء من أوعية العلم التاريخي الذي يزخر بهم المغرب خاصة في مدينة كمدينة شفشاون، هذا الكائن البلوري الذي تأتيه وفود من الباحثين في أهاديل نهرية وبحرية لاقتفاء الكلمات والحروف الدالة على جمالية شفشاون في المكان و الزمان، ليكون أول من يفتتح الندوة ، مستعرضا في مداخلته بحرفية عالية في العرض والاستعراض والنبش في المصادر التاريخية المعتمدة حين يتعلق الأمر بتأسيس مدينة شفشاون حيث استطاع تَقفّي ذلك في كتب التاريخ، وكنانيش الأحباس ، والكراسات والتقييدات والصحافة والمواثيق والمستندات، وأخيرا الصور الفوتوغرافية.

أما الدكتور محمد جبرون، حيث يتوارى لك الهدير بين المكان المنقوش بحمى العاشقين لمدى العلوم المتخصصة في تاريخ الأندلس وحضارته، فقد استعرض في تدخله جردا مدققا لمراحل تأسيس مدينة شفشاون، فاعتبر أن الماضي لا يزال حاضرا فيها سواء في أنماط العيش أو العمران، مستطردا في موجز تاريخ تأسيس المدينة، الذي كان أواخر القرن الخامس عشر وبالضبط في سنة 1471، بشكل متزامن مع الانطلاقة الحضارية في أروبا ، فقد كان المغرب آنذاك محكوما من طرف الدولة الوطاسية، التي كانت تعيش أشكال الضعف في مركزيتها وفي تفكك أطرافها، فقد كانت ثغورها مقسمة بين ما هو اسباني وما هو برتغالي. و اعتبر أن سبب تأسيس هذه المدينة العابقة التاريخ يرجعه المؤرخون إلى الجانب الجهادي والعسكري ضد النصارى. و أن المؤسس هو الحسن ابن أبي جمعة العلمي المنحدر من الشرفاء العلميين من ذرية القطب الرباني مولاي عبد السلام بن مشيش. هذا الذي كون جيشا من المتطوعين الأندلسيين والأخماس والغماريين قبل أن يقتل ويكمل مهمته مولاي علي بن راشد .مؤكدا في خاتمة تدخله على أهمية الزوايا والمتصوفة آنذاك، و كذا الشبهة التي أثيرت بخصوص عودة الشرفاء العلميين.

أما المداخلة التي تلتها، فقد كانت للدكتور ياسين الهبطي، هذا العاشق الآخر وإن كان في صمت أريب، فلا أحد يعرف العشق لحليب وشمس شفشاون أكثر من زاويته العلمية، فقد أفرد في جمالية مداخلته تاريخ المقاومة المسلحة والحركة الوطنية بمدينة شفشاون، معتبرا أن موقعها الاستراتيجي فرض عليها أن تكون في عمق الصراع الذي شملها، بداية من أحمد ابن ريسون، ومرورا بمحمد بن عبد الكريم الخطابي، إلى المحتل الأجنبي الإسباني، الذي اعتبر الأخيرة عمق منطقة جبالة. كما أكد الهبطي في مداخلته على أن شفشاون كانت آخر المدن المحتلة بالمنطقة سنة 1920، وأول مدينة حررت سنة 1924، فقد تعرضت لقصف ثلاثي فرنسي إسباني وأمريكي، استعملت فيها القوى الثلاث أبشع ما كان من مكونات وأشكال الأسلحة الكيماوية، والغازات السامة غير المعلنة. هذا من جهة، و من جهة أخرى ركز الهبطي على أن الحركة الوطنية في شفشاون كانت تعمل على مستويات محلية وجهوية ووطنية قومية، مذيلا مداخلته بوسائل عمل الحركة الوطنية في الشمال، ومن ضمنها التعليم والصحافة و العرائض و الإضرابات.

أما الشاعر والناقد محمد بن يعقوب، هذا الذي يحمل أنسجة الحرف والروح الجميلين بريحان مراياه المتوهجة بعبق وريح وجرح شفشاون ، فقد تركزت حول العمل الجمعوي في عهد الحماية، مؤكدا على أن العمل الجمعوي تبلور في مدينة شفشاون سنة 1954، ومركزا على ثلاثة نماذج من الجمعيات، المتعددة التوجهات والأهداف والتثقيف، والتصوف.

وفي كلمة ختام لمقرر أشغال الندوة، قبل النقاش الذي شهدته القاعة بين الحضور الذي تشكل غالبا من الطلبة والأساتذة الباحثين ومتتبعي للشأن الثقافي والإبداعي بمدينة شفشاون، خرج الطالب محمد بودن في كلمة استظهر فيها كل حيثيات التدخلات والنقاش الذي خرج بأمسية علمية متميزة كالتي افتتح بها الشفشاونيون ملتقاهم الجميل هذا.

وإذا كانت الندوة قد بدأت بحس شفشاون ونبض عبقها التاريخي بمكنونات مؤرخ شفشاون الأستاذ علي الريسوني، فقد أنهى طالب جامعي من الحضور الكثيف الذي ملأ جنبات فضاء القاعة المخصصة للعروض الثقافية، بقصيدة جميلة عن الريسوني ومنجزاته العلمية لاقت إعجاب وابتهاج كل من كان بالقاعة، كما فرضت على الريسوني حسر ماء الحب الذي ذرفته عيناه البعيدتان. ولا غرابة وهو الذي يطوق ذاكرته بالحرق والنزيف الذي يضيء على مخيلة العشق، حبرا يطارده حيث شفشاون واقفة لاستقبال الجمال، في أيما مكان.

أما اليوم الموالي، فلم يقل عن سابقه من حيث الحس الجمالي الفريد، والنبض الفاتن لمخيلة طلبة شفشاون بالحي الجامعي، النبض الذي يضئ مخيلة كل ما هو شفشاوني في بقاع المعمور، فقد أدهش الحضور بمعرض تشكيلي وعلمي فريد، يتمثل في المنسوجات والمصنوعات التقليدية الشفشاونية المختلفة الأشكال والأنواع، وكذا المصنوعات التي تبين مدى جمالية الثقافة والتقاليد الشفشاونية التي لم تهرأ برياح التاريخ ولا الزمان ، وفي أغلبها الساحق ما يزال يتردد على بيوت وأزقة شفشاون في الأيام العادية وكذا الأعياد والمناسبات الدينية والوطنية التي لا يتميز بها الشفشاونيون عن غيرهم من المغاربة ، كما تم عرض أغلب الكتب التاريخية التي أرخت لمدينة شفشاون أو كتب أنجزها أبناء هذه المدينة، والتي تتسم بالغنى والتنوع في الأشكال الإبداعية والعلمية والتراثية . وأعقب ذلك كلمة للدكتور حسن الزباخ نائب رئيس جامعة عبد المالك السعدي بتطوان، عبر فيها عن سعادته بهذا اللقاء الجامح الذي يعيد الروح الوطنية للوطن الصغير لكل طالب في الجامعة المغربية، مشيدا بالطلبة المنظمين للقاء، و معربا عن استعداد الجامعة لدعم مثل هذه الأنشطة و الملتقيات الثقافية الجميلة بكل الوسائل المتاحة. أما السيدان المهدي الزواق المندوب الجهوي لوزارة الثقافة، وعبد الحفيظ السكاكي عميد الكلية المتعددة التخصصات، فعبرا هما أيضا على سعادتهما بهذا اللقاء الذي يثلج الصدر، و ينعش النفس ، خاصة وأنه لطلبة الحي الجامعي.

و قد افتتح في اليوم الموالي المعرض بطرق زاهية جديدة، نالت إعجاب الحضور الذين فاق عددهم العدد المسموح به والمتوقع، فعبر من خلال ذلك المبدع رشيد الزباخ رئيس نادي السلام للثقافة والفن، هذا الذي يضيء بمخيلته الحسية والإبداعية الفاتنة جمال شفشاون، المدينة التي لا تغيب عنه في كل لقاءاته والملتقيات التي ينظمها أو يشارك فيها، في شفشاون أو خارج شفشاون، عن سعادته القصوى بالإقبال الذي شهده ملتقاه الذي نظمه مع خيرة أبناء مدينة شفشاون، والنجاح الذي شهده دون سابق إشعار، تاركا الكلمة للإعلامي المقتدر، والمبدع الفذ الأستاذ إسماعيل البشير العلمي رئيس جمعية شمس الأندلس الذي أكد عن سعادته كذلك باللقاء والتنظيم، مع الفعاليات المنظمة، آملا ألا يكون الأخير له في هذا الفضاء الجامعي التطواني بالحس الشفشاوني داخل الحي . إنه جمال فني يوشي في أزقة العبور والمدى إلى فوضوية جمال وعبق شفشاون الروحي في أبنائها البررة الذين قدموا عرقهم قربانا لهذا الملتقى الموحي إلى حبيبتهم الباقية والخالدة أبدا في أحضان الجبال.

وقد قدمت في اليوم الأخير مجموعة من الفرق الفنية بشفشاون، أمسية فنية وإبداعية ختامية للملتقى المذكور، والتي تجسد نبض تاريخ وثقافة شفشاون الشعبية، استهلتها فرقة شمس الأندلس للمديح والسماع برئاسة الفنان عمر بنعلو بنبض غار فيه كل الحضور الذين ذهبوا في انسياق المد الإسلامي أيام المرابطين والموحدين والمرينيين والانتصارات الإسلامية في الأندلس، وكذا انتصارات المسلمين على الصعيد الحضاري هناك، فالتشابه الحضاري والمعماري بين شفشاون وغرناطة ألقى بظلاله على الفن الجميل بين المدينتين، بداية بفرقة شمس الأندلس، مرورا بفرقة الحضرة الشفشاونية برئاسة الفنانة الجميلة ماجدة غلولي التي ألهبت لوعة السحر الإسلامي الأندلسي بالحي الجامعي بتطوان في مستهل الألفية الثالثة، لتأتي فرقة الطائفة العيساوية في الأخير برئاسة الفنان عبد العالي عبد الصمد بالسفر مع طلبة الحي بهاجسها الروحي في أمكنة جمالية متوزعة في أزقة و شوارع و دروب مدينة شفشاون إلى العالم بأسره .

و قد تم في هذا السياق استعراض أنشطة النادي المنظم للملتقى خلال هذه السنة، كما تم تكريم الأندية الأخرى ومدير حيها، وتكريم المبدع رشيد الزباخ، الذي تنهد كسابقه في هذا المساء بعبقه البلوري، يسكب كأسا من الحب الذي استقاه بعطش مدينة شفشاون. واستمر الحفل إلى حدود الساعة الرابعة ، بحضور العديد ممن غاصت بهم جنبات فضاء قاعة المطالعة، من طلبة باحثين وشعراء وتشكليين وفعاليات المجتمع المدني الشفشاوني.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى