الخميس ١٧ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم شاكر فريد حسن

ثلاث سنوات على غياب نزيه خير

قبل ثلاث سنوات فقدت الحياة الأدبية والثقافية الفلسطينية في هذه البلاد، الشاعر الكرملي نزيه خير، صاحب الصوت الشعري العذب الشجي والحضورالقوي، واحد ابرز اعلام القصيدة الفلسطينية الحديثة من الجيل الأدبي الثاني،الذي ظهر على ساحة الإبداع الفلسطيني في منتصف ستينات القرن الماضي.

عرفنا الراحل نزيه خير شاعراً رومانسياً جاداً ومبدعاً حقيقياً امتلك ناصية اللغة والكلمة، وتميز بقوة التعبير عن التجربة واللحظة الشعورية، وانساناً شهماً دمث الخلق، طيب السريرة، واسع القلب، رقيقاً في تعامله وعلاقته مع الناس، يفيض حيوية وطموحاً وانسانية، احب الحياة حتى الثمالة وكره الموت الذي تربص له وطواه في آخر المطاف.

كان يكره التعصب الديني والعرقي والطائفي، ويدعو إلى الوحدة والتآخي والمحبة الصادقة وصفاء القلوب والتعايش الحقيقي وارساء دعائم السلام العادل والراسخ المبني على الاعتراف بحق الشعبين في الحياة والوجود والتطور.

عرف نزيه خير بمواقفه التقدمية اليسارية، ولم يكن يوماً منتمياً او منضوياً تحت لواء الأحزاب والمؤسسات السياسية. وكان دائم الاهتمام بالحياة الثقافية والأدبية هنا وفي الوطن العربي، مشاركاً دائماً في الندوات والحلقات والورشات والمؤتمرات الأدبية والفكرية ومعارض الكتب، وحظي بصداقات مميزة مع شعرائنا ومبدعينا العرب الفلسطينيين، وفي طليعتهم: محمود درويش وسميح القاسم ومحمود عباسي ومحمد علي طه ونبيه القاسم ونعيم عرايدي وانطوان شلحت وفاروق مواسي وانطوان شماس، والراحلين حبيب زيدان شويري وميشيل حداد ونواف عبد حسن وجورج نجيب خليل وغيرهم كثيرون. كما جمعته علاقات أدبية حميمة ودافئة بالعديد من المثقفين والمبدعين العرب والفلسطينيين الكبار في العالم العربي كعبد الوهاب البياتي ونجيب محفوظ وسعدي يوسف ويوسف القعيد ورفعت السعيد وفوزي كريم ومريد البرغوثي وعز الدين المناصرة وفدوى طوقان ومحمد ابراهيم أبو سنة وعبد الرحمن الأبنودي وفريدة النقاش وسعاد الصباح وسواهم.

كان نزيه واحداً من قيادة الطلاب العرب الاكاديميين، وممن أسهموا في تأسيس حركة طلابية قطرية منخرطة في معارك البقاء والصراع اليومي والسياسي العام، ولازم نشاطه الأدبي مع نشاطه السياسي، ووظّف علاقاته الاجتماعية والسياسية لصالح النشاط الثقافي العام المتمثل في اقامة الفعاليات والندوات الأدبية والشعرية والثقافية.

وكان لنزيه خير دور هام وكبير في لم شمل وتوحيد صفوف الكتاب العرب وحملة القلم ومتعاطي الأدب من خلال موقعه كسكرتير اتحاد الكتاب العرب وعضو الهيئة الإدارية للاتحاد العام للكتاب العرب الفلسطينيين في اسرائيل.

بدأ نزيه خير بمطاردة القوافي والابحار في مياه الشعر منذ صباه المبكر، وعرف كيف تكون الكلمة وكيف يكون الشعر، وقد صدح بالاشعار ليبث صبابته وتباريح هواه، وغرد نشواناً هائماً بالكرمل والبحر والطبيعة وتراب الوطن وكنعان، وسجع فوق منابر الصبح شاكياً آلامه واحزانه وخطوبه. ورغم تأثره في البدايات بالشاعرين العراقيين بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي،وشاعر الحب والمرأة نزار قباني، وبالشاعر اللبناني فؤاد الخشن، الا أنه استطاع أن يشق له درباً خاصاً ومتفرداً، وحقق لنفسه صوته الخاص البعيد عن التقليد والوقوع أسير تجارب الآخرين، وفرض وجوده وحضوره واحترامه على الساحة الأدبية وتجاوز الحدود، ولشاعريته وجهاً عن كل شاعرية، والحانه رنة تعرف بها بين سائر الألحان، وفي كل ما جادت وفاضت به قريحته وروحه من اشعار نكهة تختلف عن نكهة الآخرين.

بعبارة اخرى كان نزيه خير في شعره شخصية لا تندغم في شخصية احد من الشعراء، ولذلك لاقت كتاباته الشعرية استحسان واعجاب اهل الأدب والقراء في الداخل والخارج، واشاد بابداعه وقرظه الكثير من النقاد والادباء في العالم العربي، من ابرزهم: غالي شكري، ادوار الخراط، ايمن ميدان، علي عقلة، بلند الحيدري، محمد الشحتات، وغير ذلك.

قصائد نزيه خير يغلب عليها مسحة الحزن والألم والاحساس بالغربة والضياع والقلق، وتعكس حرارة احاسيسه ومشاعره الذاتية والوطنية وهمسات روحه وخلجات قلبه. وفي هذه القصائد يناجي الطبيعة ويحاكيها ويلوذ إلى التأمل النفسي العميق، إنها تفيض بالوجد والحزن وتزخر بالعاطفة الجياشة الصادقة وتمتلئ بالذوب الانساني. وما يميز هذه القصائد تلك الأصالة الفنية والجمالية الواضحة وشفافية الروح وحلاوة التعبير، والصور الشعرية الخلابة المبتكرة، واللغة الصافية الرقراقة المنسابة،إلى جانب الوصف الجميل والتعبير بطريقة جذابة لافتة ومدهشة، والتفاعل مع الواقع الحي المعيش، والعودة إلى التراث والتاريخ بشخوصه ووقائعه، وتوظيف الحاضر من خلال استعادة الماضي.

يقول الناقد نبيه القاسم عن شعر نزيه خير:"اللفظة السهلة ذات الايقاع الهادئ الأخاذ هي التي ميزت شعر نزيه خير ولفتت إليه انتباه القارئ والناقد وحببت شعره للجميع وحفظت له مكانته في الساحة الأدبية المحلية فقد عرف كيف يختار الكلمات السهلة القريبة إلى اذن وقلب القارئ والسامع، وعرف كيف يختار ايقاعات الحروف وتوزيعها لتترك أثرها وتشد إليها، فهو لم يتحايل على الكلمة ولم يجهد نفسه في البحث عن اللفظة وإنما جاء بها عفوية لتلائم الفكرة والصورة والموضع في الجملة، وقد استطاع بتعابيره هذه ان يخلق الجو الخاص المشحون بالعواطف والملفع بالضبابية المحببة.. فيسحر ويشد ويأسر".

قدم نزيه خير خلال رحلة العمر اعمالاً شعرية وإبداعية وهي:"اغنيات صغيرة،قراءة جديدة لسورة الياسمين، كتاب دموي لأبي تمام، رائحة المطر، ذاكرة المطر،مسافة من القلب واخرى من الذاكرة، ثلج على كنعان، ورثت عنك مقام النهوند".

تنوعت موتيفات وموضوعات نزيه خير الشعرية وأشكال شعره وقوالبه، وتراوحت في نصوصه الأبعاد والنزعات الرومانسية والذاتية والوجدانية والوطنية والقومية والانسانية والأممية، فتغنى بالحب والجمال والوطن وكتب عن الحزن والرحيل والاغتراب والألم الانساني، والخريف والليل والنهار ولهف الحنين، وكتب عن القرية والحارة والارض والغزاة والحرب والانتفاضة والعراق وبغداد الرشيد، وعن القضايا الانسانية والعربية الحارقة، وانشد للسلم والاخاء، ومن جميل شعره قصيدة "جيكور" التي كتبها تخليداً لذكرى شاعر المطر بدر شاكر السياب.. وفيها يقول:

من شمس غارت بسمتها
عن افق العودة يا جيكور
ما زالت انشاد المطر
تهتز
تثور.. تثور
ما زال الفجر بموعده
وطريق الخطوة نور
لم يرحل (بدرك)يا غيلان

ومن اجواء شعره النابضة المعطرة باريج الكرمل،الذي يعج بالوطنية والعروبة والحب الانساني، قوله في قصيدة له من ديوان "ثلج على كنعان":

ساعطيك مفتاح بيتي.. ومفتاح قلبي
وكل الطيوب التي ورثتها
عليه ذات الخمار لاهل الجنوب
سأعطيك موجاً.. وأعطيك حيفا
وأعطيك من نرجس الروح عودا
وأعطيك عقداً..وأعطيك وعداً.

نزيه خير شاعر الأحزان والدمعة المنسكبة على المآقي، شاعر رهيف، شجي بنغمته، اثيرياً بخياله، جذاباً بحزنه، ناعماً بلمسته للروح والوجدان، وخفيفاً بنقره على اوتار القلب. فيا زنبقة الدالية وصنوبرة الكرمل نم في ثراك الطهور، فأنت أكبر من الدمعة وأكبر من كل الكلمات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى