الجمعة ٨ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم أحمد الخميسي

ثورة يوليو والثقافة

بمناسبة مرور ستة وخمسين عاما على ثورة يوليو تجدد الكلام عن علاقة الثورة بالثقافة سلبا وإيجابا. وفي كل ما قرأته، سواء أكان دفاعا أم هجوما، كانت الثقافة التي يدور الحديث عنها هي الكتب والسينما والشعر والرواية والمسرح، تلك هي الثقافة التي انتفعت أو تضررت سنوات الثورة، والمثقفون هم المشتغلون في دوائر الإبداع الذين عانوا من بطش الثورة أو عاشوا في نعيمها. ومن هذا المنظور يجري طرح علاقة الثورة بالثقافة.

إلا أن هناك قصورا شديدا في ذلك الفهم، لأن الثقافة على الأقل كما عرفها طه حسين تبدأ من التعليم، فالتعليم عنده هو " مستقر الثقافة"، فإذا أردنا أن نحسب ما للثورة وما عليها في علاقتها بالثقافة، وجبت الإشارة أولا إلي دور الثورة في فتح أبواب التعليم بالمجان لأبناء الشعب، وتطويره، والدخول به إلي مجالات جديدة، وبتلك الخطوة الثقافية الحاسمة " تثقف " مئات الآلاف من أبناء الشعب. تطوير الثقافة يحتم أيضا وجود بنية ومؤسسات ومراكز بحث وغير ذلك، وفي هذا المجال سنجد أن الثورة هي التي أقامت كل الأبنية التي مازالت تعمل بدءا من قصور الثقافة والمجلس الأعلى وأكاديمية الفنون ووزارة الثقافة التي كانت عند إنشائها الوزارة الثامنة من نوعها في العالم. أما المعيار الثالث والأخطر، والذي يتم تجاهله عادة، فهو معيار ومفهوم " الثقافة المادية "، فنحن نخطيء كثيرا حين نتصور أن الثقافة هي فقط ما يتعلق بالقسم المعنوي، الروحي، الذهني. فعندما تبزغ الثورة في مجتمع زراعي، وتقيم المصانع والمعامل والسدود، فإنها تنشر في واقع الأمر ثقافة جديدة، لأن الأدوات والمنجزات المادية تستدعي معها ثقافتها. وشتان بين فلاح ينتظر المطر ليروي أرضه، وفلاح آخر يتحكم في المياه بالسدود، فلابد أن تتشكل للفلاح الأول ثقافة الإيمان بالقدر، بينما تتبلور لدي الثاني ثقافة الإيمان بقدرة الإنسان.

وعندما تأتي الثورة وتقيم السد العالي وتبني بكهربائه المصانع، فإنها تنشر بتلك المصانع ثقافة أخرى في مواجهة ثقافة الحقول، وعندما تصبح الطاقة الكهربائية متاحة ويعم معها استخدام الأدوات المختلفة كالثلاجة والتلفزيون وغيرها، فإن ثقافة أخرى تكنولوجية تعم وتروج وتخلق إنسانا آخر بعقلية أخرى.

لقد ثقفت الثورة الشعب المصري بالسد العالي، والمصانع، والكهرباء، والتعليم، وغيرت مفاهيمه القديمة وبدلتها فيما يتعلق بأدق القضايا وأكثرها عمومية. ومازلت أذكر أغنية لنجاة الصغيرة من تلحين محمد عبد الوهاب كانت كلماتها تقول " كانوا بيقولوا الست ح تفضل زي ما هي.. ييجوا يشوفوا الست أهي صبحت ميه ميه ". فالمصانع، وتفتيت الإقطاع، استوجب معه ثقافة المرأة العاملة بالضرورة، واستدعى معه ثقافة احترام المرأة، وتقدير دورها. ولم يكن ذلك كله موجودا. أخيرا ألم يكن إلغاء الألقاب ثقافة ؟ ألم يكن وقف مخاطبة الآخرين ب " معالي الباشا " و" سعادة البك " ثقافة أخرى ترسخ مفهوم المساواة بين البشر؟. ألم يكن دعم حركات التحرر تثقيفا للشعب يرسخ في ضميره أن هموم البشر وقضايا الحرية كل لا يتجزأ ؟. هذا كله بالطبع إذا جعلنا من مفهومنا للثقافة مفهوما أكبر من " ثقافة النخبة التي تخلقها صفوة مبدعة ".

وحتى بمعيار ثقافة النخبة، سنظل نذكر لسنوات الثورة، أننا حين كان تعداد الشعب المصري نحو ثلاثين مليون نسمة، كانت لدينا عشرات المجلات المتخصصة منها مجلة " القصة "، والآن ونحو نناهز الثمانين مليون نسمة ليس لدينا مجلات متخصصة للثقافة ! وسنظل نذكر للثورة – حتى بمفهوم ثقافة النخبة – أنها لم تضيق على أحد في مجال الأدب، فقد نشرت في حينه رواية نجيب محفوظ " أولاد حارتنا "، ومسرحية " بنك القلق " لتوفيق الحكيم، و" شيء من الخوف " لثروت أباظة التي تحولت إلي فيلم، والكثير مما بدا في حينه خصما للثورة. لقد ضيقت الثورة على الحريات السياسية تضييقا شديدا، واعتقلت الكثيرين من المثقفين الذين حركهم الهم السياسي، لكنها لم تضيق على حرية المبدعين تحديدا في مجال الأدب والفكر، كما أنها طورت الثقافة المصرية إلي أبعد مدى إذا نظرنا للثقافة بمفهومها الاجتماعي العام، الأبعد من حدود " الروايات والشعر والمسرح والسينما ".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى