الأحد ١٨ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم بريهان قمق

جائزة الشارقة للابداع المسرحي تروح بمحبة

للفنان القدير د. سعد أردش ..

الجوائز تسبب ارتباك البوح ، ولكن ثمة اتفاق مبهج ،على أنها حق المبدع في حياته ،واعتراف المجتمع الاخلاقي بحقه ، لذا أتوقف بكثيرمن التقديرلاختيار اللجنة المكلفة باختيار الشخصية الابداعية للفوز بجائزة الشارقة للإبداع المسرحي في دورتها الأولى للعام الحالي 2007 والتي تروح للمسرحي الكبير د.سعد أردش . الجائزة على وجه الخصوص والتي تأتي في سياق جوائز إبداعية متعددة ودقيقة الانتقاء تنظمها دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة في مجال الإبداع والنشر والفنون ، تأتي تقديرا للجهود الابداعية والثقافية والفكرية طوال نصف قرن من ذاكرة المنصات العربية قد عايشها هذا الفنان القدير، كما علمنا بانه سوف يتسلم جائزته بحفل مهيب يليق به وبتجربته الطويلة الكبيرة في مراسم خاصة تواكب اليوم العالمي للمسرح والذي يصادف يوم 27 من الشهر الجاري ، حيث سيلقي الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم إمارة الشارقة رسالة المسرح في مقر اليونسكو بباريس ، بصفته كاتب مسرحي والشخصية العالمية التي جمعت بين السياسة والثقافة بتناغم مميز وانحياز يتبدى بوضوح في يوميات وأنفاس امارة الشارقة ، والتي تنحازللذاكرة ببهجة الروح المنطلقة الى العلن لازهار المسرح التي عمّرت لعقود عبر تجربة وخبرة ثرية للكاتب والمخرج والممثل والأكاديمي والباحث المبدع د. سعد عبد الرحمن قردش ،الذي اشتهر بسعد اردش والمولود عام 1924 ، محققا للثقافة العربية وللفن المسرحي رؤية حضارية أساسها معرفة وعلم وبحث واحساس بالأبعاد الجمالية والفنية التي تشكل هوية الخطاب المسرحي . حيث راح منخرطا بمرجعيات ثقافية متعددة ومدارس مسرحية عريقة بهدف هضم الخبرات الانسانية و تفعيل العمليات الابداعية التي تجعل من عالم المسرح ورموزه وعلاماته وفضاءاته ومن الاخراج ومن التنظير ومن النقد خرائط مميزة للإبداع المسرحي العربي ..

هذا المعلم المربي المبدع ، الذي تنقل عبرمواقع متعددة ما بين أستاذ ورئيس قسم التمثيل والإخراج بالمعهد العالى للفنون المسرحية ،ومن ثم مديرا لمسرح الجيب ، ومديرا لمسرح الحكيم ، و رئيسا لقطاع الفنون الشعبية والاستعراضية ، ورئيسا للبيت الفنى للمسرح، ظلّ على الدوام بمثابة الروح والرؤية داخل فضاء المسرح طوال ستة عقود مؤسسا حساسيات فنية مستجدة لواقعية مسرحية تسبر أغوار الإنسان وتصدعاته ، كما انه انهمك باحثا محللا فيما هو محيط بهذا الفرد – الذي كان منسيا في فضاء المسرح- عبر علاقاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتفاعلاته معها. وبذلك راح لتاسيس "المسرح الحر" ، ومن ثم "مسرح الجيب" والذي بدأ في وقت مبكر اشتغالاته التجريبية غير المسبوقة في مصر ساعيا إلى إيجاد حلول مسرحية مبتكرة ذات أبعاد جمالية مغايرة لما هو مألوف في العروض المسرحية الواقعية كفكر وتعبير وتفاعل مع المتغييرات السياسية والاجتماعية التي تزامنت وثورة يوليو في مصر ..

أحدث قبل نصف قرن باشتغالاته الابتكارية ثورة فنية عمّا كان متعارفا عليه وسائدا في الآداء المسرحي على شاكلة التمثيل بالصوت وحركة اليدين الافتعاليّة ، وراح عبر جملة اشتغالات على الممثل كطاقة ابداعيّة جوّانيّة فاتحا الطريق ظهورلحظات خلق متوهجة وممتلئة بالفكرة والاجتهادات والرؤى التي تشتغل في النفس والعقل والشعور فاسحا لها المجال لتحيي فضاءات المسرح وتنير خشبته المقدسة، معلنة تعبيرها الداخلي .ولملمة المكسور وتكوين ما ضاع ، فحضر الأداء التلقائي الصادق الممتليء بالشعر والمتوقد والصوت الداخلي العميق ، وتوهجت طاقات تمثيلية جديدة عبر تدريبات صارمة وأصوات وانفعالات انسانية ما كانت مألوفة وسط ضجة الانفعال المفتعل او العمل الارتجالي الذي كان سائدا كما اسلفت على خشبة المسرح مرحلة الخمسينيات من القرن العشرين .

تأثر سعد أردش بالمسرح البريشتي إلى أبعد الحدود ، وان كان لا يخفي إعجابه بسوفوكل وتشيخوف والحكيم وسارتر وبيراندللو ونعمان عاشور وسعد الدين وهبه والفريد فرج ويوسف ادريس ومحمود دياب وغيرهم ممن أحبهم وآمن بهم . انما الرؤية البريشتية للمسرح كأداة تثوير وتنوير واستفزاز وحوار للمجتمع ، أخذت بكيانه إلى فضاءات واسعة في مفهومه للغة المسرحية وهو ابن بيئة عالم الجنوب العالم النامي و المتخلف حيث الاشكالية الحضارية . ولعله بهذا الفهم ووفق ايدولوجيته اعتبر المدرسة البريشتية الثوروية التعليمية أداة تغييرية ضرورية لهذه المجتمعات التي تسعى للتحرر والبناء والتغيير. لذلك حاول أقصى طاقاته منذ السنة الأولى لإنشاء مسرح الجيب على العمل في المسرح التعليمي من خلال البرنامج الأول ، ثم تلاها بمسرحية الإنسان الطيب في مسرح الحكيم عام 1966 ثم دائرة الطباشير القوقازية في المسرح القومي 2007 ..

ظل لما يزيد عن نصف قرن يحرث في الأرض الملتبسة المضطربة ، راصدا الأوجاع والكوارث والاحلام التي لم تتحقق ، إلاّ انّه ظلّ وفيا للمبادئ التي اعتنقها . و قام بإخراج ما يزيد عن الخمسين عملا مسرحيا من التراثين العربي والعالمي في المجالين الدرامي والغنائي للمسرح المصري ، منها :-

في سبيل الحرية فكرة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر واعداد عبد الرحمن فهمي ، الأرض عن رواية عبد الرحمن الشرقاوي ، لعبة النهاية لصمويل بيكيت وترجمة علاء الديب /أول مسرحية عبثية في مصر ، سكة السلامة لسعد الدين وهبه ، انتيجون لسوفوكليس وترجمة طه حسين ، الذباب لجان بول سارتر ، البرجوازي لموليير ، الانسان الطيب من ستشوان لبرتولد بريخت واعداد صلاح جاهين ، دائرة الطباشير القوقازية لبرتولد بريخت واعداد صلاح جاهين ، ماهاجوني لبرتولد بريخت وترجمة يسري خميس ، الجنس الثالث ليوسف ادريس ، باب الفتوح لمحمود دياب ،الزير سالم لالفريد فرج ، النار والزيتون لالفريد فرج ، الحامي والحرامي لمحفوظ عبد الرحمن ، كاليجولا لالبير كامي وترجمة يوسف فرتسيس ،الفرس لاسكيلوس ، الحرافيش لعبد الرحمن شوقي واشعار صلاج جاهين ، حبيبتي يا مصر لسعد الدين وهبه واشعار صلاح جاهين ،يا طالع الشجرة لتوفيق الحكيم ، الشبكة لبرتولد بريخت ، وغيرها كثير ..

كما قام بتمثيل العديد من الشخصيات الفنية في المسرح والسينما والاذاعة والتلفزيون ببراعة ، واشتهر بصوته الرخيم العميق الحساس وبقدرته على تغلغل الشخصيات التي جسدها وبرهافة في الأداء ..

بالاضافة الى عمله الابداعي الاخراجي والتمثيلي والاداري ايضا ، فقد انشغل بمجال التاليف والترجمات ، وله العديد من المؤلفات الهامة منها : المخرج في المسرح المعاصر عام 1979 الذي يعد اليوم من أبرز المراجع الدقيقة عن التطور في الاخراج المسرحي في اوروبا .. بالإضافة الى كتاب المسرح الايطالي 1965 ، وله عشرات البحوث والدراسات العلمية في المسرح والحركة الاجتماعية المنشورة في المجلات المتخصصة في الثقافة المسرحية في مصر والعالم العربي . أمّا في مجال الترجمة فقد قام بترجمة اعمال مسرحية ايطالية مهمة للعربية منها : خادم سيدين و ثلاثية المصيف لكارلو جولديني ، جريمة في جزيرة الماعز و انحراف في قصر العدالة لاوجوبتي ، الحفلة التنكرية لالبرتومورافيا ، وبياتريس لتشنشي ، وغيرها ..

سعد أردش امتلأ بالمعرفة والعمل ، وظل تحت كل الظروف وكرامة الثبات على قيم الفن باعتباره اولا وأخيرا : فعل نبيل . فحاول جاهدا أن يجعل من المسرح مدرسة لتعزيز الوعي بالذات وبالمحيط الاجتماعي والسياسي ، وبمرارة شديدة كان السؤال : كيف يتحول مسرحنا المصري والعربي الى خلاعة وسطحية ..

رغم الخلاعة ورغم الانكسارات السياسية والاجتماعية والثقافية ورغم الظروف الضاغطة ووسط هيمنة المسرح التجاري – الفارغ من المضامين والاهداف- واكتساحه الثقافة العربية والذائقة المجتمعية ، ترفّع سعد أردش عن غرض الإلهاء والترفيه المسف مستندا على ما يكتنزه من ايمان بأن المسرح مؤسسة ثقافية تتبلور وظيفتها الاولى والرئيسية في نقد الواقع وكشفه من خلال الحوار مع الجمهور عمّا هو أفضل..

الجائزة ربما لن تضيف للواقع شيئا ولن تغير من بوصلة اللحظة وكل هذه الانكسارات ، ولكنها بالتاكيد عناق دافئ للقامة الحزينة ، همس المحبة واعتراف اننا بعد كل هذا الزمن بعد ما زلنا عالقين أسفل درجات سلم الدول النامية في الجنوب ، بعد ما زلنا بالكبرياء الجريح نحلم بالخبز والورد ..

المبدع سعد اردش لحظة اعتلائك المنصة كي تحمل جائزتك ستمتم شفاهي مرددة :
اتمنى ان يعود المسرح الى عصره الاغريقي الذي كانت فيه الاعراف تلزم مواطنيها ليشاهدوا ما يقدم على المسارح ..المسرح الذي في سلته نحن بكل تشظينا وانفراط عنقودنا ..نستنهض مدينتنا الفاضلة المؤجلة و نبحث عن نقطة ضوء ممكنة تدفعنا كي نتحاور نفكر بالبرهة عوضا عن استباحة دم بعضنا بعضا ..

للفنان القدير د. سعد أردش ..

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى