الأحد ٤ نيسان (أبريل) ٢٠١٠
بقلم فلاح جاسم

جدار الصمت 

مدّت شيماء يدها إلى يدي مصافحة، وددتُ أن أحتفظ بيدها إلى الأبد، لأني أحسست بأن جداراً بيننا بدأ ينهار قطعة قطعة، كمنظر جدار برلين، لكني سرعان ماقررتُ أن أحمي نفسي من ذلك الشعور وأتحصّن، فتلفعتُ بعباءة الصمت، كانت حديدية باردة، ثقيلة، كفيلة بترميم ماانهار من ذلك الجدار... 

وقفت مبحراً في عينيها العسليتين، بريقهما نقلني إلى الحقول في فصل الربيع عندما تتبلل حجارتها بماء المطر، فتبدو لامعة كأنها جواهر... وكنتُ وقتها أتخيل أني أملكها جميعا وأقدم مهرشيماء ؛ آمراً مرافقي: ياغلام أعطِ كيس الجواهر كله لوالدها، لأن جوهرتي أنفس من جميع كل مجوهرات الأرض، فيخيم صمت على الحضور، كأن على رؤوسهم الطير، من جرأتي ومن سذاجتي في نفس الوقت.. وكيف أتجرأ على فعل ذلك في بلاط السيد الوالد، الذي لم يعرف و لم يجشم نفسه السؤال عن إبنته وعن حالها.. حتى أنها أنهت دراستها الجامعية بمرتبة الإمتياز، والتحقت بدراسة الماجستير، وهو لايعرف إن سألته بأي مرحلة تدرس ابنته... لقد كان يفصل بينهما جدار بارد، مصنوع من الفولاذ، طيلة تلك السنين ؛ التي كانت أيامها ثقيلة على صدر شيماء وعقلها، تخترقه ضحكات السيد الوالد مع زوجته الأخرى وأخوته منها... كان نصيبها من الأبوة هو الزجر والتقريع والنهي، كتحذير من أخطاء متخيلة، ربما لاتقع أبدا. لأنها كانت تحلم بقلب يحقق لأولادها مالم يحققه لها والدها. 

اقتصر دور والدها في تلك الليلة على قرار الحكم بعدم صلاحيتي كعريس وذلك بسبب؛ «إنتفاء الكفاءة المالية والإجتماعية...»، مع أنني حائز على درجة الماجستير التي لم تشفع لي بشيء، فبادرني أبو شيماء قائلا: إنني اعتنيت بتربيتها وتدريسها، لتكون خيرمن يحمل اسم والدها جنباً إلى جنب مع إخوتها، ولم أبخل عليها بشيء طوال حياتي.. كنتُ أشيح بنظراتي بعيداً عنه وأنا أستمع لكلامه، خشية أن تقول له نظراتي:إنك تكذب. قمتُ فجأة وشكرته على تربيته المثالية وحرصه على المُثل والأخلاق التي قلّ نظيرها في هذا الزمن الأغبر. أجـِلتُ نظري في تلك اللحظة بحثـاً عن الباب كي أخرج من هذا الجو الخانق... وددتُ أن الباب يأتي إليّ لأضمن الإنصراف في أسرع وقت.
انصرفت وأنا أتخيل شيماء ؛ عيون تختفي وراء أهدابها الطويلة تنظر بعيدا فلاترى إلا غبار الحيرة وأشباح اليأس.. أصبحت شفاهها ضمأى حزينة، بيضاء جافة تعلوها طبقة من المرارة والملح...

كانت تحب وتكره... تضحك وتبكي..لاتعرف مايثير بكاءها وضحكها،عندما استيقظ الماضي 
في هذه اللحظة.. وجاء سيف الأمس ليغتال حاضرها الدافيء.. فبدا لها المستقبل حمامة بيضاء مضرجة بالدم.. تقبض بمنقارها على زهرة ياسمين.. ارتسمت صورتي في قعر قلبها الصامت، وخبأت كلماتي التي كانت تنساب من هاتفي إلى قلبها قبل أذنها.. خشيت من مصادرة تلك الذكريات الجميلة بتهمة عدم وجود ترخيص. وأن مجرد كشفها يكون سبباً بالزجّ بها لأول من يطلب الزواج منها.. ليكمل نصف دينه، ويبحث عن أخرى يتزوجها ليكمل بذلك دينه كله. لأول مرة تمنت بحياتها أن تكون إبنة زوجة أبيها ليتحقق لها أبسط حقوقها في الحياة.. 
 
لم تكن خبيرة بالجيولوجيا ولا بعلم البراكين، لكنها كانت تعرف بالضبط مقدار حرارة النار في قلبها وبأن مياه الفرات كلها غير قادرة على إخمادها.كانت تعلم أن بركانا بداخلها سيثور يوما ما، لكن لم تكن تعلم بموعد ثورانه، وإلى أين ستنتشر حممه، فقررت السير باتجاه معاكس، مع أن هذا في «علم السير» يعني مخاطرة مجنونة وغير محسوبة، ونسبة نجاحها ضئيلة جداً، لكنها كانت تقول: أحيانا يكون الجنون قمة التعقل.أحست كأن حبلاً غليظاً، خشناً يطبق على رقبتها، فصرخت مذعورة... استيقظت والدتها على صوتها، وحضنتها قائلة: «بسم الله عليك..»،أشارت لها شيماء بأن تناولها كوب الماء، وتفتح ستارة النافذة... تسلل هواء الفجر بارداً، وانزاح جدار الصمت من قلبها... 


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى