الأربعاء ٣ حزيران (يونيو) ٢٠٠٩
بقلم عمر حكمت الخولي

جدَّتي

توضَّأَتْ
ما زِلْتُ أذكرُ المياهَ فَوْقَ وَجْهِها الموشَّى بالسِّنينْ
وأقبلَتْ على السَّماءِ
تنشدُ الرَّحمنَ في مواكبِ الحنينْ
سَأَلْتُها:
(يا جدَّتي، هلِ الإلهُ في السَّماءِ؟ هلْ يُجاوِرُ القَمَرْ؟)
ولَمْ تُجِبْ
عادتْ إلى صلاتِها على الأمينْ
(يا جدَّتي، مَنْ خَلَقَ الإلهَ في بدايةِ التَّكوينِ؟
هلْ همُ البَشَرْ؟)
ولَمْ تُجِبْ
صلَّتْ، وعادَتْ للصُّوَرْ
تبكي رحيلَ زَوْجِها حِيْنَ اخْتَبَرْ
معنى الأنينْ
(يا جدَّتي، هل ماتَ جدِّي؟ كَيْفَ ماتْ؟
وكَيْفَ ودَّعَ الحياةْ؟)
ولَمْ تُجِبْ
قامَتْ إلى مكتبةٍ تبوسُ آلافَ المصاحفِ الَّتي تعطَّرَتْ
مِنْ كلِّ دِينْ
(يا جدَّتي، هلِ الإلهُ قاتلٌ؟
هلْ مثلما قالَ أبي سيُحرقُ الإلهُ جِلْدَنا؟
سنصطلي بنارِهِ؟
سيخطفُ الحياةَ مِنْ بيوتِنا ليُنهيَ القَدَرْ؟)
ولَمْ تُجْبْ
بلْ أمسكَتْ سبحتَها
تغتالُ دمعةً تفتَّحَتْ كبُرعمِ الزَّهَرْ
مَشَتْ ببُطْءٍ، ثمَّ قالَتْ حسرةً
(هذي الحياةُ يا عُمَرْ)!.
 
وجدَّتي
سيِّدةٌ يهزُّها صَوْتُ العصافيرِ الَّذي يجتاحُ باحةَ الدِّيارْ
يقتلُها حبورُها إذا تفتَّحَتْ سلالُ وَرْدِها بَعْدَ انْتِظَارْ
تصلبُها أغنيةٌ لـ(أُمِّ كلثومَ)
وتُرديها بآخرِ النَّهارْ
وتختفي مِثْلَ السَّديمِ في مواطنِ النُّشوءِ
تختفي مِثْلَ الصَّلاةِ في مواكبِ الهدوءِ
تختفي في سهرةٍ مِنْ أَجْلِ إبريقٍ ونارْ!
وبَعْدَ لحظةٍ تقومُ حيَّةً مِنْ مَوْتِها
(قدْ أذَّنْ المغربُ، هاتوا لي الخمارْ)!
تخيَّلوا سيِّدةً تموتُ أَلْفَ مرَّةٍ في اليَوْمِ ثمَّ ترجعُ الأنفاسُ نَحْوَ صَدْرِها
كالياسمينِ في مواسمِ اعْتِذَارْ!
(يا جدَّتي قَطَفْتُ زهرةَ الحَبَقْ!)
بَكَتْ، وقالَتْ: (لا تَخَفْ
أريجُها الآنَ انْعَتَقْ)!.
 
وبَيْتُ جدَّتي كأيِّ منْزلٍ في موطني
ككلَّ بَيْتٍ يقتلُ التَّوقيتَ في مسارحِ النِّسيانْ
في غرفةِ الضُّيوفِ يجلسُ الرِّجالُ يرشفونَ القهوةَ التُّركيَّةَ الَّتي تُصاغُ كالذَّهَبْ
ويقرؤونَ أسطرَ القرآنْ
في المطبخِ الصَّغيرِ تقعدُ النِّساءُ كي يُجهِّزْنَ الحَطَبْ
ونَحْنَ في طفولةٍ نُقدِّسُ الإيوانْ!
(يا جدَّتي، هلْ يلعبُ الإلهُ مِثْلَنا بسكَّةِ القطارْ؟
وهلْ يزورُ بَيْتَنا؟ وهلْ يُسامِرُ الكبارْ؟)
ولَمْ تُجِبْ
فجدَّتي تعلمُ أنَّ بَيْتَها كغَيْرِهِ
يعيشُ في باحتِهِ الإلهُ كي يُبارِكَ الجدرانْ
ويختفي في ظلِّهِ الشَّيطانُ كي يُشاكِسَ الجيرانْ
وفي الشِّتاءِ
عندما يزورُنا الدُّوريُّ في الصَّباحِ
عندما نذوبُ في انْتِظَارِ رشفةِ الشَّايِ
وعندما تُغنِّي حبَّةُ الرَّمانْ
تقولُ جدَّتي لنا:
(لن تعرفوا بَيْتَاً كبَيْتي
فاشكروا الرَّحمنْ)!.
 
طفولتي كغَيْرِها
سَعْدٌ وحُزْنٌ، لَعِبٌ، وخبرةٌ معَ النِّساءْ
وجامعٌ معتَّقٌ
في العِيْدِ أعرفُ الطَّريقَ نَحْوَهُ
وفي العزاءْ!
وفي طفولتي، كثيراً ما أَرَدْتُ أنْ أُغيِّرَ القَدَرْ
أنْ أتعلَّمَ الغرامَ، أنْ أُمزِّقَ الحَجَرْ
ولَمْ أَزَلْ، أشاءُ أنْ أُعاقِرَ الهَوَى
وربِّي لا يشاءْ!
(يا جدَّتي، كَبُرْتُ جدَّاً، فاسرقي منِّي السِّنينَ
علِّميني ما الصَّلاةْ
وأخبريني مَنْ أنا، وكَيْفَ أبلغُ النَّجاةْ
 
وكَيْفَ أعرفُ المروقَ لوْ أَتَى بصورةٍ للأنبياءْ)
ولَمْ تُجِبْ!
لكنَّني حتَّى الأوانْ
حتَّى يُغادِرَ الزَّمانْ
أظلُّ أسألُ الجميعَ عَنْ مراسمِ العشاءْ
عَنِ الصَّلاةِ والخشوعِ والإلهِ والسَّماءْ
فجدَّتي لَمَّا تُجِبْني بَعْدُ عَنْ أسئلتي
لَمَّا تُجِبْ، فكَيْفَ ألجمُ الخيالْ؟
وكَيْفَ أرفضُ الضَّلالْ؟
أظنُّها لَمْ تعرفِ الإجابةَ الَّتي أَرَدْتُ فَهْمَها
لكنَّها كانتْ تُصلِّي كي تُقاوِمَ السُّؤالْ!.

 ديوان: عندما زرتُ القدر
 القصيدة الحائزة على امتياز في مسابقة كاستيللو دي دوينو العالمية للشعر في إيطاليا 2009م، تُرجمت إلى لغاتٍ عدة.

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى