السبت ٢٣ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم بشير خلف

جمالية اللون في القرآن الكريم والشعر

اللون من أهم وأجمل ظواهر الطبيعة، ومن أهمّ العناصر التي تشكل الصورة الأدبية لِما يشتمل عليه من شتى الدلالات الفنية، الدينية، النفسية، الاجتماعية الرمزية والأسطورية.

للون دوره الخاص في الصورة الفنية القرآنية لأن اللون قد وُظّــف ويوظّف في المستويات البنيوية والتعبيرية، الحسية، التزيينية والجمالية والرمزية للتصوير الفني القرآني. فاللون في القرآن قد يدل على القدرة الإلهية، والرحمة الربانية، والجمال الإلهي الذي تبارز وتظاهر في الطبيعة وقد يرمز إلى الحياة، أو الموت والأمل أو الخيبة والكفر، أو الإيمان، الهداية أو الضلالة، والنشاط أو الحزن و...

استُـــخدم اللون لشتى الدلالات فيما يدل عليه مباشرا كالأخضر والأصفر، والأبيض والأحمر، والأزرق والأسود، وما يدل عليه غير مباشر كالليل والنهار والنور والظلام.

إن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن الكريم، إذْ يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الطبيعة البشرية؛ ثم يرتقى بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية.

كما أن اللون من أهم الظواهر، والعناصر التي تشكل الصورة الأدبية لأن له ارتباطا وثيقا بجميع مجالات الحياة، وظواهر الكون، وله علاقة وطيدة بالعلوم الطبيعية وعلم النفس، الدين والثقافة والأدب، الفن والأسطورة و..هذا وقد يعمق اللون علاقة الأدب بفن الرسم لأنه كما يقول سيمونيدس الشاعر اليوناني:" الرسم شعرٌ صامت، والشعر تصوير ناطق."

الأديب يستثمر الألوان لخلق التوازن والتناسب، والوحدة والانسجام التي هي من أهم مباني علم الجمال؛ بحيث يعتقد بعض كبار الشعراء أنه لابد من تدمير الواقع الخارجي لخلق واقعية جديدة، ولحصول هذا الغرض لابد من الالتجاء إلى الألوان.(مجلة البلاغ..أدب وفن)

الكُتّاب العرب كتاباتهم شحيحة في الموضوع

لا أتصور مثلما يتصور غيري أن الحياة بكل مكوناتها يمكن أن تستمر دون الألوان.. أهمية الألوان تضاعفت في حياتنا المعاصرة التي سادت فيها الصورة الرقمية، والإشهار، والتصميم، أتساءل مثلما ربّما يتساءل غيري : لماذا المثقفون والكُتّاب العرب كتاباتهم قليلة في هذا الموضوع الهام، فالذين كتبوا فيه وألفوا كانت مؤلفاتهم أغلبها كتبٌ مدرسية، أو شبه مدرسية، أو في إطار موسوعات معرفية موجهة للتلاميذ والطلاّب، أمّا أن تكون في إطار معرفي ثقافي فهو نادر حسْب علمنا؛ ولعل من أوائل الكُتّاب الذين كتبوا في هذا الموضوع بمنهجية علمية صرفة هو المرحوم الدكتور أحمد زكي أول رئيس تحرير لمجلة العربي، عندما أفرد بابا مميّزا للألوان بعنوان" الألوان" في اثني عشر صفحة من الحجم الكبير، في موسوعته الموسومة " في سبيل موسوعة علمية" التي صدرت عن دار الشروق سنة؟؟..غير أنه صدر في السبعينيات من القرن الماضي.

الشاعر الفنان أحمد عبد الكريم تفرّد عن غيره

إلاّ أن من الكُتّاب الجزائريين وحسْب علمي، بل أوحدهم الذي تصدّى للكتابة في هذا الموضوع هو الشاعر الفنان، والكاتب الجزائري أحمد عبد الكريم الذي صدر له كتاب قيّمٌ جدا بعنوان:" اللون في القرآن والشعر" في السنة الفارطة عن جمعية البيت للثقافة والفنون بالجزائر.

الكتاب متوسط الحجم يقع في 154 صفحة يجلله غلاف توسّم بالخط العربي في عدة أشكال يشي بثقافة المؤلف، وتوجهاته، ورؤاه بحكم أنه شاعر وفنان تشكيلي.

إن الدارس ـ ولا أقول القارئ ـ لهذا الكتاب يحتاج لعدة قراءات حتى يُلمّ بما يتضمنه من أفكار ومعارف قيمة قد يمرّ بها سواء في تلاوته لآيات الذكر الحكيم، أو قصائد للشعر العربي، ولكن من خلال هذه الدراسة المعمّقة المتأنية لمواضيع الكتاب بدون ريْبٍ سيحصل على مفاتيح لذلك، ولا يسع هذا الدارس إلاّ أن يتماهى في النهاية مع رؤى أحمد عبد الكريم الصوفية، وزخم أفكاره المعرفية.

الكتاب بعد الديباجة التي تحدث فيها الكاتب عن بداية اهتمامه بموضوع الألوان، وكذا الممارسات التشكيلية المبكرة التي سرعان ما تخلّى عنها لفائدة الشعر..هذا الحسّ التشكيلي والشعري المزدوج هو الذي حكم ذائقته، وشغل جزءا كبيرا من اهتماماته، وأدّى به إلى البحث عن كل ما هو شعري في التشكيل؛ كما أن المؤلف يؤكد على أن الدراسات المثبتة في الكتاب ليست منهجا من المناهج المعروفة، ولا هي ذات طابع نقدي..إنما هي تأمّلات وأفكار ليس إلاّ؛وكذا المدخل الموسوم بـ " آيات الإعجاز اللوني" الذي ركز فيه الكاتب على حضور أهمية الألوان في الحياة الإنسانية بعامة، ووجودها وتأثيرها في حياتنا المعاصرة في كل مناحي الحياة كوسيلة إغراء، وإثارة، وأداة للتذوق والمتعة..بل كوسيلة فعالة للعلاج النفسي:

«إن حضور الألوان في الحياة الإنسانية أمر بالغ الأهمية، ذلك أنها تُضفي على الأشياء جمالا وسحرا أخّاذًا، ولنا أن نتصور العالم من حولنا مجرّدًا من الألوان، سيكون منظره بلا شكٍّ مثيرا للكآبة والملل،دون هذا الزخم اللوني الذي يشكل المصدر الأول للجمال، ممّا يبعث على البهجة والمتعة البصرية؛ لذلك لا نبالغ إذا قلنا بأن الألوان " فاكهة العين".

لقد طالت الألوان كل مناحي حياتنا المعاصرة، وتحولت إلى وسيلة إغراء وإثارة، وإلى لغة مُوحية تعبر عن نفسها بما تحمله من رموز، ومدلولات تتباين باختلاف الألوان وتأثيراتها، وصار للّون وظيفته في كل الأصعدة والمجالات، فدخلت الألوان مثلا عالم" الطب النفسي"، واستُخدمت لعلاج بعض الحالات النفسية المستعصية.ص:11»

مكوّنات الكتاب

الكتاب بعد الديباجة والمدخل يتكون من خمسة أقسام، وملاحق ضفْ إلى ذلك المصادر والمراجع.

القسم الأول: بلاغة اللون في القرآن والشعر.

القسم الثاني: شعريات اللون" المتنبي عاشقا للون الأسود، ذكرى اللون الأحمر في نونية أبي العلاء المعرّي، بشار بن برد وألوان البصيرة".

القسم الثالث: شاهد اللون " بلاغة اللون في أسرار البلاغة للجرجاني"

القسم الرابع: مقامات الحريري.. مقامات الواسطي.

القسم الخامس: تجارب جديدة في مقاربة الشعر تشكيليا.

ملاحــــــــــق : من حكايات ألف ليلة وليلة، حكايات الجواري المختلطة الألوان، وما وقع بينهن من المحاورة، من كتاب "مفرّح النفس" الباب الثالث: في اللذة المكتسبة للنفس من طريق حاسة البصر.

المصادر والمراجع:16 مرجعا..بطبيعة الحال القرآن الكريم، ويليه تفسير" التحرير والتنوير" للمرحوم الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور.

الكتاب عبارة عن دراسة وبحث فني، وجمالي، وفلسفي في حضور اللون في القرآن الكريم وفي النصوص الشعرية العربية.

إن الدارس للتراث العربي، وكما جاء في الكتاب يلحظ أن قاموس الألوان شديد التنوع والثراء؛ وقد استعملت الألوان في كل ذلك للدلالة على معانٍ نفسية، وفكرية، وفلسفية يمكن لنا إذا ما اجتهدنا أن نؤسس من خلالها رؤية خاصة نابعة من عمْـق تراثنا، وحضارتنا بعيدا عن الاستلاب الغربي الذي نجح في التحكم في أذواقنا الجمالية اللونية.

استطاع الأستاذ أحمد عبد الكريم أن يقرّب مفهوم الألوان للدارس بحنكة الباحث في القرآن الكريم، والشعر العربي، والتراث الفكري والصوفي.

الألوان في القرآن الكريم

لقد ازدانت الطبيعة بالألوان فكانت صنوًا للبهاء، وتلك واحدة من المعجزات الإلهية الباهرة، والآيات الكبرى التي تتجلّى فيها قدرة الخالق تبارك وتعالى في بديع صنعه، وخلقه، قال الله تعالى:

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) فاطر:27 ،28.

وبالرغم من أن البشر ينحدرون من أصل واحد، وهو آدم عليه السلام ، وله لون واحد، هو الأدمة من البياض المشوب بحُمرة، إلاّ أن نسله جاء مختلف الألوان، ولكن ذلك لا يعني اختلاف النوع، بل هو واحد، وإنما هي ألوان، وصفات عارضة ومكتسبة؛ ولذلك فإن لون الإنسان ليس بذي قيمة في الاعتبار الإلهي، لأن الله لا ينظر إلى الصور والألوان، ولكن يعنيه صفاء الجوهر، ونقاء السريرة.

إن اللون في القرآن الكريم أيضا يرتبط بالسيمات، وبالأوصاف، والسلوك، فإذا كان البشر يوسِمون بالبياض منْ كان طليق الوجه أبيضه، فإن الله خالق الإنسان والكون جعل البياض علامة على حُسْن المصير في الآخرة:

(يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) [ سورة آل عمران : 106 ـ 107 ]

الألوان في الشعر العربي
كما أن الشعر العربي في كل عصوره حفل باللون، ومن الشعراء من عُرفوا بألوان محددة أشار إليهم المؤلف في كتابه كالمتنبي، وبشار بن برد، وأبي العلاء المعري،وهم الشعراء العميان خصوصًا، وغيرهم كُثّرٌ في سفر ديوان العرب قديمه وحديثه.

بيض الوجوه كريمة أحسابهم
شمّ الأنوف من الطراز الأول
مهفهفة بيضاء غير مفاضة
ترائبها مصقولة كالسّجنْجل
إذا كان البياض لباس حزن
بأندلس فذاك من الصواب
ألم ترني لبستُ بياض شيبي
لأني قد حزنتُ على شبابي

كما أن من مشتقات اللون " التلون" وتعني هذه الكلمة لدى أغلبية الناس الإنسانَ الذي لا يثبت على سلوكات قيمة، وأخلاق محمودة فهو متقلب حُوّلٌ غريب الأطوار؛ و" التلوين" في اصطلاح المتصوفة هو تنقل العبد في أحواله، وهو عند بعضهم مقام ناقص، وإنْ كان محي الدين بن عربي يراه أكمل المقامات.

الألوان سمة الهُويّة الفردية والمجتمعية

وللفنان الشاعر الكاتب أحمد عبد الكريم آراء أخرى في غير هذا الكتاب تدعّم آراءه، وتثري مضمون كتابه منشورة كالتفضيل اللوني للناس في البيئة الواحدة، أو ما بين الشعوب، أو حتى ما بين اصطفاء ألوان على أخرى..وهو ما يشكل حيّزا مهمّا من هُويّة أمة ما، وقد ترتبط الألوان في توظيفها ضمن حيوات الناس اليومية من لباس، وأطعمة، وأدوات مادية بالمُناخ الطبيعي، وبالتضاريس الجيولوجية، وحتى بفلسفة الحياة..ومن أقوال شاعرنا ومبدعنا أحمد عبد الكريم في ذلك ما يلي:

« عندما قال الفيلسوف اليوناني القديم أفلاطون "اعرف نفسك "، فذلك يعني من ضمن ما يعنيه، أن يكون الإنسان مدركا لتفضيلاته اللونية وميوله تجاهها، ومن الغريب أن يُسأل الواحد منا عن لونه المفضل فلا يجد جوابا، أو يحار في الاختيار، لأنه ببساطة لم يخلُ بنفسه خُلوة حقيقية على طريقة السادة المتصوفة، تقوده إلى معرفة نفسه فيسألها عن اللون الذي تفضله انطلاقا من ميوله وشخصيته وتركيبته النفسية.

التفضيل اللوني أمر حيوي ومهم في حياتنا المعاصرة، لأنه جزء من ذائقة الفرد في التعامل مع حواسه ،مثله مثل تفضيل نوع معين من الأطعمة، أو نوع من الأزهار، أو العطور أو الموسيقى أوغيرها.. وهو يعبّــر عن شخصية الإنسان بشكل ما، ويُمكِّن من قراءة بُــعْــد من أبعاد شخصيته، حتى ليمكن القول "قل لي أي لون تفضل أقول لك من أنت". وعلينا أن نولي هذا الأمر الأهمية التي تليق به في الفترات المبكرة للتنشئة والتربية..

وإذا كان الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي يذهب إلى أن الحروف "أمّة من الأمم" ينسحب عليها ما ينسحب على البشر تماما من خصائص وصفات، فإننا نستطيع أن نذهب المذهب نفسه بالقول إن الألوان أمة من الأمم، ولكل واحد منها صفاته الحسيّة والمعنوية التي ينفرد بها، فتجعله متميزا عن غيره من الألوان.

هذا التفضيل الشخصي للألوان داخل مجتمع ما، يؤدي إلى تشكيل ذائقة عامة في التعاطي مع الألوان بما يجعل هذا المجتمع يختلف عن سائر المجتمعات الأخرى في تفضيله اللوني، وبما يشكل بُعدا من أبعاد هويته، وجزءا صميما من ملامحه الحضارية، لأن الثقافة اللونية بما يشوبها من تفضيل لوني للون على حساب آخر لا تولد بين عشية أوضحاها، بل هي وليدة تاريخ طويل يرتبط بأحداث ومراحل مرت بها تلك الأمم، وأكثر من ذلك قد يرتبط بالجانب العقائدي، فتكتسب الألوان قيما دينية أو اجتماعية .»(موقع جزائر س)

الكتاب إضافة ثمينة للمكتبة العربية

الكتاب الذي أبدعه الشاعر الفنان أحمد عبد الكريم،وسكب فيه من روحه الشفافة، وعقله الباحث عن المعرفة، وجلّله بشحناته الصوفية المستمدّة من بيئة غنية بالروحانية والموروث الديني الثري بالروافد، مدعّمًا بمواهبه، واهتماماته المتعددة في الإبداع الأدبي، والفن التشكيلي.

الكتاب قيّمٌ ولا أخال أن أيّ مثقف، أو مبدع، أو فنان تشكيلي، أو مشتغل في الفلسفة يستغني عن هذا العمل الرائد..هنيئا للشاعر والكاتب والفنان أحمد عبد الكريم على إصداره هذا..والمكتبة العربية والجزائرية بخاصة لفخورة بهذا الإنجاز.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى