السبت ١٣ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم شريف حتاتة

جولة بين الأطلال

كانت الساعة قد قاربت على السابعة والنصف عندما هبطت من سيارتي "الأسكودا". سرت على قدمي في الشارع باحثاً في ضوء المصابيح الخافت عن " قصر الثقافة السينمائية " " بجاردن سيتي ". وجدته في شارع ضيق أمام مبنى محاط بسور أبيض عال يحرس بوابته شرطي وحيد .

عند باب القصر الحديدى وقف ثلاثة من الرجال أحسست أنهم غالباً من صغار الموظفين . كانوا منهمكين في الحديث ، فاستأذنتهم لكي يفسحوا لي الطريق حتى أدخل من الباب ، ثم صعدت فوق درجات السلم العالى لأجد نفسي مطلاً على صالة فسيحة جرداء ، خالية من الأثاث ، ما عدا لوحة إعلانات قديمة ، تعلن عن أحداث تخطتها الأيام. عند آخر الصالة أسفل سلم خشبي يقود إلى الدور الأعلى لمحت مكتباً تجمع حوله بعض الأشخاص فاقتربت . كان أحدهم رجل مسن ، نحيل الجسد تبرز عظامه من تحت طبقة للجلد صفراء اللون مثل الورق الذي بات في المخازن سنوات. كان يرتدي قميصاً ، وبنطالاً و"صديري" نحل قماشه ، ويقلب في سجل من السجلات الضخمة التي تهواها الإدارات الحكومية . إلى جواره انتصبت امرأة سمراء البشرة لفت رأسها وجسمها المنتفخ في خمار سمني اللون . كانت تتحدث بصوت زاعق مع امرأة أخرى مختفية في الممر الذي يقود إلى المكاتب الداخلية .

في ذلك المساء كنت أسعى إلى مشاهدة فيلم بولندي اسمه " الحياة مرض مميت" قرأت عنه في البرنامج الذي صدر بمناسبة مهرجان الفيلم الأوروبي نظمته وزارة الثقافة بالتعاون مع المفوضية الأوروبية.
في السنين الأخيرة أصبحت قليل الخروج من البيت لكن أغراني على هذه الخطوة النادرة تلك الأفلام التي استمتعت برؤيتها أثناء مهرجان الفيلم الأوروبي الذي عرضت أفلامه في سينما " جالاكسي " أثناء شهر سبتمبر الماضي.

عندما رآني الرجل توقف عن تقليب أوراق السجل ليلقى إلى بنظرة متشككة قائلاً " رايح فين يا باشا " فسألته " مش فيلم "الحياة مرض مميت" معروض هنا الليلة " ؟
قال : "أيوه يا باشا لكن لسه فاضل عليه نص ساعة قبل ما يبتدي . اتفضل فوق أؤعد في الصالة . بدل ما تقف هنا عشان لما ييجي غيرك يطلع علطول" .

لم ترقني الفكرة . تخليت نفسي جالساً وحدي بين صفوف من المقاعد الخالية محاطاً بجدران كئيبة مشبعة ببرد الشتاء . فقلت " سأعود في الثامنة " ، وقبل أن أنصرف التقطت نسخة من برنامج المهرجان وضع مع أشياء أخرى متناثرة فوق المكتب وهبطت على سلم المدخل إلى الشارع . كان الرجال الثلاث لا يزالون يتبادلون أطراف الحديث أمام الباب الحديدي الخارجي فاستأذنتهم مرة أخرى ليفسحوا لي الطريق .

كان الجو صافياً ، والبرودة منعشة تغريني بالمشي . بدا لي المكان أليفاً كأنني عرفته في حياة أخرى عشتها منذ سنين . على يساري ينتصب مبنى نقابة الأطباء لم أدخله منذ أن رحل " عبد الناصر " فتحولت المجموعة التي كانت مسيطرة على المجلس من التأييد المطلق لسياساته إلى التأييد المطلق لسياسات " السادات " لتأتي بعدها سيطرة الإخوان . إلى جواره عمارة عالية لها مدخلان ، باب خلفي يطل على حي "جاردن سيتي " وباب أمامي يقود إلى شارع القصر العيني .

توقفت قرب الباب الخلفي قليلاً فتخيلت أنني أرى شبح رجل يتجه للدخول في العمارة . أحسست أنه يشبهني إلى حد كبير . نفس الانحناءة في الكتفين . نفس الخطوة المتأنية التي فيها شيء كالتصميم ، نفس " حردة " الرأس يغطيه شعر أبيض خفيف يطيره الريح . فهذه العمارة سكن فيها أبي عندما تزوج امرأة أخرى غير أمي ، فترك لها شقتنا في الزمالك لتعيش فيها .

سرت خلف الشبح لألحق به لكنه اختفى قبل أن أصل إليه . بحثت عن البواب لكنه لم يكن جالساً على الدكة الموضوعة على عتبة بين المدخلين ، تذكرت أن أبي يسكن في الدور الرابع فدخلت في المصعد وضغطت على المفتاح لأصعد إليه . خرجت منه عندما توقف واتجهت ناحية اليمين باحثاً عن الشقة رقم 11 بابها داكن ، كما هو يلمع في ضوء المصابيح . الآن أصبحت له عين سحرية ولوحة من النحاس لم أتبين الإسم المكتوب عليها.

تأهبت للضغط على مفتاح الجرس . لكني فجأة تنبهت أن أبي مات سنة 1976 عندما كنت أعمل في الهند فعدت إلى اللحظة التي أنا موجود فيها واقفاً أمام الباب . عندما فحصت لوحته النحاسية ثانياً قرأت اسماً مكتوباً بالأحرف الأجنبية يقول " دينا بدرخان " ودينا هي ابنة زوجة أبي الثانية . كانت آنذاك بنتاً صغيرة عيناها خضراوتان أو رماديتان ووجهها حزين . فأخرجت بطاقة من جيبي وكتبت عليها . " تحياتي كنت ماراً بالصدفة" ثم هبطت على السلم إلى الشارع من جديد بعد أن ثبتتها في الباب " .

أمام باب العمارة الخلفي وجدت مبنى اتحاد المهن الطبية . توجهت إليه ، وما زال وجه أبي ماثلاً أمام عيني . جئت إليه متأخراً ، بعد ثمانية وثلاثين سنة من رحيله . لن أرى عينيه وهنت مع الأيام . لكن عندما يفتح الباب ويراني يضيئها البريق . لن أسمعه يقول " جئت يا بني " والابتسام يحرك شفتيه.

سنة 1964 كنت أعمل في شركة القاهرة للأدوية ، وكانت إدارة الشركة في عمارة أخرى قريبة من عمارة أبي تفصل بينها وبين الاتحاد مسافة أمتار . كنا نعقد اجتماعات " لجنة الأطباء الاشتراكيين " في مبنى الاتحاد فنظل نتناقش حتى ساعة متأخرة من الليل حول تطوير مهنة الطب لتلبي احتياجات المرضى دون استغلالهم ، حول التعاون بين الأطباء وهيئات التمريض ليكونوا فريقاً متجانساً ، وحول تحسين الخدمات الصحية وتوفيرها للكادحين من الناس في المدينة والريف .

كان مبنى الاتحاد في الأصل قصراً أقامه أحد الأثرياء من الإيطاليين . كانت له حديقة واسعة فيها نافورة محاطة بحوض مبطن " بالموزايكو " تسبح فيه الأسماك ، ومساحات من السندس الأخضر، وأحواض للزهور ، ونخيل وأشجار أخرى نادرة . أما مبنى القصر نفسه فكانت حوائطه منقوشة برسومات بديعة ، ومزودة بكرانيش وبمساحات من الفسيفساء ، والمرمر ، والرخام . حجراته واسعة فيها أثاث مصنوع من خشب الورد والتيك ، ومقاعد مغطاة بأقمشة ملونة ثمينة .

في تلك الأيام كان يوجد في المبنى مطعم صغير يقدم وجبات جيدة في ساعة الغداء، والعشاء ، ومشروبات وحلويات بسيطة كلها منخفضة الأسعار ، وكنا نتناول وجباتنا فيه عندما يحول انشغالنا دون العودة إلى البيت ، فنلتقي هناك مع الزملاء ، وننجز أعمالاً في جو من الأمل والنشاط .

دخلت من الباب الخارجي مدفوعاً برغبة في رؤية المكان الذي قضيت فيه لحظات لا تنسى . وجدت حديقة تحولت إلى مساحة جرداء جف فيها كل شيء، ومات. عند الطرف البعيد مبنى قبيح من دورين يحتوي عدداً من المكاتب ، وكافيتريا بائسة فيها مقاعد بلاستيك، وموائد متهالكة مرصوصة أمام كشك تخرج منه الطلبات.

توجهت إلى السلالم المفضية إلى مبنى القصر سبقني إليها رجل ضخم الجثة يرتدي جلباباً متسخاً ويتكئ على عصاة من المعدن كتلك التي يستخدمها مرضى العظام . أخذ يصعد السلم بصعوبة شديدة . أسمع أنفاسه اللاهثة، وأنينه وهو يرفع جسده من درجة للدرجة التي تعلوها . التفت إلى بنظرة فيها ضيق تطل من عينيه الجاحظتين وسألني " رايح فين " ، فأدركت أنه من العاملين في الاتحاد. قلت " أريد أن أرى المكان الذي لم أره منذ سنين " فقال : " لا يوجد شيء سوى مكاتب ، ولا يوجد أحد في المكاتب " . قلت " أريد أن أرى المكان، ولا أريد أن أقابل أحداً " ثم مررت إلى جواره بعد أن وصل إلى العتبة ، ودخلت . توفقت ودرت بعيني لأجد خرابة مهجورة ، قذرة . الأرض خشبية مغطاة بالتراب ، كالحة اللون ، والجدران آخذة في التهدم تتدلى منها العناكب المتجمعة في الأركان . الصالة الفسيحة خالية تماماً ما عدا كنبة قديمة مائلة على جانب، ضاع من قماشها معالم الرسومات التي كانت تتخلله في يوم ما . كل شيء في المكان يوحي بالاضمحلال ، بأنه مكان لا صاحب له ، أو له صاحب فاقد الضمير، فاقد الإحساس بالمسئولية ، فاقد معنى الثقافة ، واحترام العمل، ومعنى الجمال. حصيلة سنين ما سمي " بتحرير الاقتصاد " تلته سنين من سيطرة تيار ديني على نقابة الأطباء، وعلى الاتحاد ، تيار عاجز عن التخلص من التخلف الفكري والإنساني، منكب على المصالح المادية الضيقة بينما يدعي أنه حارس القيم والروحانيات .

كانت الساعة اقتربت من الثامنة فعدت مسرعاً إلى " قصر الثقافة السينمائية ". دخلت إلى صالة العرض احتل مقاعدها القليلة عدد من الرواد لم يبد على أحد منهم علامات الابتهاج بهذه المناسبة الفنية ، بما فيهم زائرين أجنبيين غالب الظن أنهما كانا من البولنديين المرتبطين بالفيلم .

كان الفيلم مسجلاً على اسطوانة "دى.فى.دى D.V.D " التي من المفترض أن تتيح مستوىً رفيعاً من العرض ، لكن العكس هو الذي حدث . الصور كانت غير واضحة، ألوانها باهتة غطتها خطوط بالطول والعرض ، مثل شبكات السلك التي توضع على النوافذ للحيلولة دون دخول الذباب . الصوت يعلو وينخفض ، وكلمات الترجمة تنتقل من أعلى إلى أسفل ، ومن أسفل إلى أعلى فأظل أطاردها من مكان إلى مكان . بين الحين والآخر يفتح الباب الصالة فيخرج أحد المشاهدين ، أو يدخل أحد الموظفين ليتحدث مع غيره بصوت عال ثم يخرج مغلقاً الباب وراءه بعنف كأنه غاضب . أسمع زعيقه في الخارج وهو يقول " فين المطبوعات يا جدع هو أنت وديتهم فين " .

كان الفيلم عن طبيب أصيب بالسرطان ، فظللنا طوال العرض تقريباً نشاهده وهو يتألم ، ويتدهور ويموت تدريجياً . وأثناء هده المحنة الطويلة كان يتحفنا بكلمات وحوارات فلسفية ساخرة عن معنى الحياة ، والموت ، والإيمان ، وعدم الإيمان . ربما رداءة العرض، والصالة والأصوات جعلتني عاجزاً عن إدراك الفن الذي أدى إلى منح الفيلم جائزة كبرى في مهرجان " موسكو " لسنة 2000 ولم يتعدل مزاجي حتى عندما أعطى الرجل المحتضر مفاتيح شقته لاثنين من العشاق الشباب ليمارسا غراماً حرما من ممارسته لضيق الإمكانيات .
خرجت من باب " قصر الثقافة السينمائية " المزعوم قرب الساعة العاشرة . كان الجو في الخارج صافياً ، فاستنشقته بعمق كأنني عائد إلى الحياة.

كانت أمسية قضيتها مع الموت والأطلال مع الأشياء التي تفنى دون أن نستطيع حتى الآن أن نوقف الاحتضار الذي نشهده في كل مكان ، احتضار لا تخفف منه الفنادق الفاخرة ، وعمارات ترتفع فوق أعمدة من الرخام ، و " مارينا " ، وزيارة "بيل جيتس" ، أو مسلسلات التلفزيون أو عواميد كبار الكتاب .

لكني قلت لنفسي وأنا سائر أن البناء الجديد الذي سنقيمه في يوم من الأيام لابد أن ينشأ على أطلال القديم ، فهذا هو قانون الحياة .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى