الأحد ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
بقلم أحمد الخميسي

جون شتاينبك ومنطق بيلون

في عقلي ممر مفتوح بين عالمي الأدب والسياسة ، وكثيرا ما أجدني وأنا مغيب في قراءة إحدى الروايات أعبر إلي دنيا الحروب والصراع ، أو بالعكس تقودني أخبار أزمة سياسية إلي استعادة عمل أدبي . مرات عدة يثب إلي ذاكرتي معنى من رواية جون كوتزي " في انتظار البرابرة " كلما تدهور وضع فلسطين، حيث يقول الروائي إن الطريق الوحيد لكي يستعيد الغزاة إنسانيتهم هي أن يرحلوا عن الوطن الذي احتلوه. والسبب في أنني أقطع ذلك الممر ذهابا وإيابا ، أن الأدب الحقيقي يعكس عبر الشخصيات والأحداث قوانين عامة أبعد من النص الأدبي ، قوانين صالحة لنرى على ضوئها حقائق أخرى اجتماعية وسياسية . هكذا قد يكشف لنا بناء إحدى الشخصيات الأدبية القانون الذي تتقنع به المصالح والحروب.

ومؤخرا صدرت عن أخبار اليوم سلسلة " شرق وغرب " رواية جون شتاينبك الشهيرة " تورتيلا فلات " ترجمة سيد جاد ، وهي أولى أعمال شتاينبك التي اجتذبت الأنظار إليه بقوة عام 1935 وأعلنت عن بزوغ كاتب عظيم في سماء الأدب الأمريكي . وأعقبتها روايات " رجال وفئران " 1937 ، ثم رائعته " عناقيد الغضب " في 1939 ، و" شارع السردين المعلب "، و" اللؤلؤة "، و" شرق عدن " و" مراعي الفردوس " وغيرها مما كتبه الروائي في كوخ منعزل بكاليفورنيا ، وصور فيها جانبا من حياته الشاقة وحياة شرائح المعدمين .

و " تورتيلا فلات " واحدة من عيون الأدب العالمي المشبعة بنظرة ساخرة رقيقة وتهكم متعاطف مع المهمشين . في الرواية استوقفتني شخصية بيلون المحتال، حين علم بالمصادفة أن أحد المساكين يخفي كنزا في الغابة ، وأراد بيلون أن يضع يديه على الكنز . ويقدم لنا شتايبنك منطق بيلون الذي يبرر به لنفسه الاستيلاء على ثروة الآخرين كالتالي : " قبل أن يتناول بيلون الموضوع راح يعد في ذهنه ترتيبات طويلة مدهشة ، شعر بالحزن الشديد من أجل ذلك المسكين ، وقال لنفسه : هذا المسكين الناقص النمو ، إن الله لم يمنحه كل العقل الذي ينبغي أن يكون له . ليس في مقدور هذا المسكين أن يعتني بأمر نفسه ، لأنه كما هو واضح يعيش في عشة دجاج قديمة قذرة ، ويتغذى بفتات الطعام الذي لا يصلح إلا للكلاب ، ويرتدي ملابس مهترئة، ولأن عقله غير ناضج فإنه يقوم بإخفاء نقوده . والآن بعد أن وضع بيلون للموضوع أساسا من الشفقة ، أخذ يمضي نحو الحل . فكر ، أليس من المحمود أن يؤدي المرء لهذا المسكين الأمور التي لا يستطيع هو أن يؤديها لنفسه ؟ مثل شراء ملابس ثقيلة له، وتغذيته بطعام يليق بالإنسان ؟ ثم قال لنفسه وقد تذكر : ولكن ليس معي نقود لأفعل هذه الأمور؟ ترى كيف يمكن إنجاز هذه الأعمال الخيرة ؟ . وصاح عقل بيلون : وجدتها . لدي هذا المسكين نقود ، ولكنه لا يملك العقل الذي يجعله يستفيد بها . وأنا لدي مثل هذا العقل. إذن سأقدم له عقلي حتى يستفيد بنقوده . سأقدم عقلي طوعا بلا مقابل . سيكون هذا عملي الخير نحو هذا الرجل الصغير المسكين الناقص النضج ".

هكذا وضع بيلون الأساس النظري لنهب الآخر : إنه يقدم عقله للآخرين ليرشدهم إلي طريق الحياة الأفضل! وذلك يسلتزم الاستيلاء على ثرواتهم ! هكذا أصبح النهب رسالة إنسانية ! وقد ذكرني منطق بيلون بكل الأكاذيب الأمريكية التي تدعي أن لأمريكا رسالة إنسانية ، وأنها بغزوها للعراق أرادت تحريره وتقديم " عقلها الحضاري " للمساكين هناك لتدلهم على أفضل الطرق لإدارة أوطانهم بنهب ثروات تلك الأوطان!

في العام الماضي ، وقف تيم راين أصغر أعضاء الكونجرس الأمريكي سنا في تاريخ أمريكا وخاطب الكونجرس بقوله : " ليست هناك كلمة واحدة صحيحة قيلت لنا عن الحرب في العراق ، لقد كذبوا علينا حين قالوا لنا إننا محررون ولسنا غزاة " .

يمكن لبيلون ، أوللرئيس جورج بوش ، أن يتقنع بالأكاذيب من أجل النهب والسرقة ، ولكن الحقيقة سرعان ما تتقدم وتتضح في السياسة والأدب ، وفي ذلك الممر الذي تقفز فيه الصور الأدبية من عالم جون شتاينبك إلي الحرب الأمريكية على العراق .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى