السبت ٢١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم ناصر الحجيلان

حاجة المؤلفات العربية إلى المراجعة والتحرير

كثيرة هي المنغصات التي تكدّر على قارىء بعض المؤلفات العربية، ولعل أحدها كثرة الأخطاء الطباعية واللغوية، إضافة إلى ركاكة الأسلوب وغموض الأفكار أو تكرارها أو عدم ترابطها. وهذه المشكلات تمثل عقبة لدى القارىء تحول بينه وبين إتمام قراءة الكتاب فضلا عن فهمه والتعرف على محتواه.

وقد مرّت علينا في السعودية وربما في بعض دول الخليج العربي فترة كنّا نعتقد فيها أن تلك الكتابات الغامضة أو الملتبسة أو المعقّدة إنما هي كذلك بسبب قصور فهمنا عن إدراك مضامينها. ولكن الواقع كشف أن تلك الكتابات الغامضة تعود إما إلى غموض الفكرة ذاتها في ذهن كاتبها أو كاتبتها، وإما إلى مشكلات لغوية وتواصلية مع المتلقي يعاني منها المؤلف نفسه.

ويمكن التعرف على طبيعة غموض الفكرة عند المؤلف عند توجيه سؤال محدد له مفاده: ماذا تريد أن تقول بالضبط؟ فهذا السؤال مزعج للشخص الذي يعاني من مشكلات لغوية تواصلية مع الناس، فتجده سرعان ما يرتبك ويخلط الأمور وربما ينفعل ويزعم أنك لا يمكن أن تفهمه أو أن معرفة أفكاره العظيمة يحتاج منك إلى تعلم ما لا يقل عن سبع لغات وقراءة كتب الفلسفة والفيزياء والأحلام وأمراض العصاب الذهني! ولاكتشاف صحة ضعف قدرات هذا الشخص التواصلية يمكنك أن تطلب منه طلبًا بسيطًا يتضمن ما يكشف عن مهارته اللغوية في نقل أفكاره إلى الآخرين، ولعل أيسر مثال على ذلك أن تطلب منه أن يصف لك موقعًا معينًا في المدينة، وسوف تجد أنه يربكك في الوصف ويعجز عن إرشادك إلى المكان بلغة سهلة مفهومة.

أما الشخص الذي تكون الفكرة غير واضحة في ذهنه، فإن السؤال عما يريد قوله وعن الهدف من كلامه كله يجعله يعيد النظر في كلامه، وخاصة إذا سألته عن دلالات كل كلمة. وفي هذه الحال يجد نفسه غير قادر على تفسير كلامه تفسيرًا واضحًا.

والواقع أننا نجد بعض الكتاب والمؤلفين يكتبون عبارات في غاية الغموض والفوضى، فعلى سبيل المثال يقول أحدهم في كتابة يزعم أنها دراسة نقدية تحليلية تفكيكية وربما إبداعية: «السعي الحاضر وبكل قوة يكمن في هذا الاتجاه لجماليات التشظي التي تنحفر في أفق النص بحوافز انشطارية تتوازى مع المعقول منطلقة نحو اختزال الوعي في احتفالية جمالية تنكفىء على امتعاض الراهن الذي تسعى إليه مختلف الأطراف من أجل احتكار مجال التصريح والإمساك المفرط بتلابيب الصياغات الذي تم تحييده في لوثة النزاع من أجل فرض الهيمنة والسيطرة المباشرة على سلطة الخطاب ومقايساتها الرمزية».

والمزعج في الأمر أن هذا النمط من الكتابات لم يعد مقتصرًا على الصحف بل تسرّب إلى بعض البحوث العلمية التي يفترض فيها الوضوح التام والدقة في اختيار كل كلمة. والحقيقة أن هذا النوع من الكتابة الفوضوية -التي هي أقرب إلى «الدجل» منها إلى أي شىء آخر- ما كان لها أن تشيع وأن تصبح بضاعة لمن لا يكلفون أنفسهم عناء القراءة والاطلاع لو كان هناك محرر يعيد قراءة ما يكتب ويصوغه بلغة واضحة إن كان يقبل ذلك أو يحذفه.

وقد ساءني أكثر من مرة الكم الهائل من الأخطاء التي تمنعني من مواصلة القراءة؛ وأذكر أني ألزمت نفسي ذات مرة بإتمام قراءة إحدى الرويات لكاتب سعودي له مكانة بارزة في عالم الرواية المحلية، ثم وجدت نفسي أملأ كل صفحة بالتصويبات والملاحظات التي ضاقت عنها المساحة البيضاء في الكتاب. وتمنيت لو أنفق هذا المؤلف وقتًا ومالا إضافيًا ليطلب من غيره قراءة العمل وتصويبه وإعادة صياغة المكرر منه وترتيب الأفكار التي تبدو غير مترابطة وتصحيح الأخطاء.

وهذه المشكلة متكررة مع مؤلفين آخرين، ويبدو أن هذا الخلل المنهجي له علاقة ببعض العادات السلوكية كالملل من المراجعة والتدقيق وانعدام الصبر وقلّة الجلد على العمل؛ وكأن الكتابة علّةٌ أو همّ يريدون التخلص منه بأسرع وقت ويكرهون العودة إليه مرة أخرى.

ولو نظرنا في المؤلفات الأجنبية وبخاصة المكتوبة باللغة الإنجليزية الصادرة من دور نشر عالمية لوجدنا أنها تكاد تخلو من أي خطأ أو ركاكة. والسبب في ذلك يعود إلى أن جهة النشر لا تعترف بأي مؤلف دون أن يكون له محرر معترف بقدرته اللغوية؛ فأهمية الكتاب لدى الناشرين مرتبطة غالبًا بمحرره أكثر من ارتباطها بمؤلفه. ولهذا نجد أن المحرر يتقاضى مكافأة عالية على عمله لأنه يمضي فيه وقتًا طويلا وجهدًا كبيرًا، وفي بعض الحالات يختلف المحرر مع المؤلف وربما يتخاصمان في حال رفض المؤلف حذف بعض الصفحات أو الفصول أو تغييرها. ولكن المؤلف في النهاية مضطر لمصالحة محرره وربما توسيط آخرين بينهما للوصول إلى حلّ مناسب يرضي المحرر. والحقيقة أن المؤلف مجبر على ذلك لأنه لن يجد أحدًا ينشر كتابه من دون محرر جيد.

أما الوضع عندنا فهو مختلف؛ فبعض المؤلفين يعتقدون أن التحرير بمثابة تصحيح المعلم للطلاب ولهذا يرون فيه انتقاصًا لهم، بل إن البعض يعتقد أن أفكاره هبة ربّانية وأنها انثالت عليه كالنهر المتدفق في لحظة التجلي، ولهذا فإنه يعطيها نوعًا من القداسة ويصعب أن يتنازل عن أي كلمة يكتبها. ولو صح هذا في الكتابة الإبداعية، فكيف يصح في كتابة مقالة أو بحث؟ ثم إن المحرر عندنا يفهم أن دوره مقتصر على تصحيح الأخطاء الإملائية والنحوية؛ ولو طلبت منه التصرّف في الصياغة أو الاختصار والحذف لاعتقد أن هذا العمل غش أو تحريف.

إن ثقافة المراجعة والتحرير يمكنها أن تشيع ويكون لها صيغة رسمية يتبعها المؤلفون والكتاب إذا حرصت الجهات الأكاديمية ومراكز البحوث على التقيّد بها. ولو شاعت هذه الثقافة فسترتبط بها ثقافة الدقة والصبر واحترام العمل وتقدير المتلقي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى