الأحد ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم زهير الخويلدي

حتى لا يقود بادئ الرأي الأمة

إن المغرب والمشرق ليسا معطيين أوليين أو وحدتين ذاتيتين أو منطقتين متمايزيتين يعكسان مفهومين للوحدة وتجربتين إقليميتين متباينتين بل هما جناحان لعالم واحد هو العالم العربي أو إن شئت العالم الإسلامي. [1]

تبدو الأمة هذه الأيام في حاجة ماسة إلى بيان افتتاحي وقول فصل بعد أن ظهرت بوادر الفتور والارتداد عن المكاسب التنويرية الحداثية وبعد أن دبت روح الشقاق والانقسام ووصل الحال إلى تغليب مصلحة اللعبة على الانتماء إلى الملة وجعل ماهو ظرفي أمر رسمي وتحويل ماهو رسمي إلى أمر ظرفي. ولعل السؤال الأكثر إلحاحا بعد هذه القرقعات وبعد أن تلبدت سماؤنا بالغيوم هو: من نحن؟ أو يا ترى من نكون؟ ومن هم أصدقاؤنا ومن هم أعداؤنا؟ إلى أي حضارة ننتمي؟ وماهي الثقافة التي تخصني؟ وماهي الروابط التي تجمعنا بمن يقاسمنا الانتماء؟ وماهي آداب الانتماء؟

غني عن البيان أن الأمة العربية الإسلامية هي التي تمتد من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي مرورا بالبحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والبحر الأسود وبحر العرب والمحيط الهندي وتبدأ رمزيا من مراكش لتنتهي في جاكرتا ومن جبال القوقاز إلى الجزر والصحراء الإفريقية وتضم شتات من الجاليات الكثيفة العدد في أوربا وأمريكا الشمالية واللاتينية والوسطى واستراليا ولو انطلقنا من جملة الأديان التي تضمها والأعراق التي تتكون منها واللهجات واللغات التي تنطق بها والثقافات المحلية التي تغذيها فإننا نلاحظ أنها جميعها تدعو إلى التوحد والتكاتف و"التواصي بالصبر والتناصح بالحق" حسب عبارة البروفيسير أبي يعرب المرزوقي. ولا جدال أن كل من المؤتمرات ولجامعات والندوات والجمعيات قد تعثرت في رأب الصدع ولم الشمل ومنع تفجر النزاعات الحربية أو حتى المشاحنات الإعلامية والتحرش الاثني من طرف مستعلي على طرف آخر ولم ينفع التبشير بالحوار القومي الإسلامي وتدشين صفحات من الحوار العلماني -الديني والحوار اليساري- الإسلامي لكي يتم تفادي مثل هذه الانقسامات وإنهاء الخلافات وكأن قدرنا هو أن نتشرذم وننكفىء على أنفسنا ونسارع عجلة التفريط والتجزيء في ظل زمن معولم ملتهب يقوم على التكتل والتحالف وتجبيه القوى والاقتصاد في المدخرات من الطاقة والمياه والرأسمال اليشري.

لكن السبب الرئيسي لهذه الموجة الشديدة من التشققات هو أن الذي يقود الأمة ويمتلك سلطة القرار يعتمد على بادئ الرأي وغير مكترث بصوت العقل ولغة الضمير ومهمل لمنطق الحكمة ونصيحة الواقع. لكن ماهو بادئ الرأي الذي انقادت له الأمة؟ وأليس من الضروري الآن العمل على تخليصها من الانقياد إليه وإعادتها إلى صراط العقل وهدي المنطق بماهو محك النظر وميزان العمل وقسطاس مستقيم؟

يقر الفارابي أن الملة تعلم الأشياء بالتخييل والإقناع ويحصل لها ذلك ولو كانت الأقاويل الاقناعية مغلوطة والطرق جدلية مبنية على مقدمات ظنية ويفسر ذلك أن الإقناع حصل بمقدمات هي في بادئ الرأي مؤثرة ومشهورة ومحل إجماع من الجمهور ومستمدة من المعارف المشتركة ولكنه يتعقب بادئ الرأي ولا يحمل المسؤولية للجمهور والملة وإنما للذين يعتمدون طرق خطابية دون توثيق ومع غياب اليقين وخاصة السوفسطائيين من بائعي الكلام ومروجي الشائعات وصانعي الدعايات المغرضة. وخطيئة هؤلاء أن جعلوا القوة الجدلية والسوفسطائية تتقدمان الفلسفة وما تمثله من تحري وتثبت وتعقل واتزان. ولو عدنا لما أصاب الأمة اليوم فإننا نجد أن السفسطة عمت الفضاء العمومي واكتسحت منابره وفقدت الأنظمة عقلها وبرز روح ثقيل ينزع نحو التدمير والهيمنة والاستئثار ويقضم ما تبقى من ذيله ويستهلك نفسه.

إن بادئ الرأي لا يعنى الدهماء والسواد الأعظم والسوقة والأغلبية الصامتة ومثل هذه التصنيفات تنم عن أرستقراطية معرفية مضللة ونظرة طبقية مقيتة ولكن يعني الشعب الكريم والحشد والناس والجمهور الذين هم في حاجة أكيدة إلى التنوير الآخر وآخر التنوير ومتلهفون إلى الحريات والتمتع بالحقوق من أجل استعادة الإنسانية التي فقدت منهم بفعل فاعل السلطة والاستقطاب الإيديولوجي والثقافة الآثمة.

إن إعادة التفكير في مفهوم الأمة هو أحسن الطرق الممكنة من أجل الرد على هذه الموجة من التشويهات التي تعرض لها الإنسان في حضارة اقرأ والآتية ويا للأسف من الداخل المصاب بالزكام والمانع لكل هواء نقي يريد الدخول إلى أروقة الذات لكي يجدد لها شبابها ويبعثها من رقادها.

ماهو منطقي أن كل التشنجات تنتهي وكل سوء التفاهمات تزول وكل الحروب تخمد وكل التنازلات تلغى وكل التراجعات تسرد وكل الأشياء النفيسة الضائعة تسترجع وتبقى الأمة شامخة مواصلة المسيرة دون كلل أو ملل وذلك بفضل سواعد أبنائها وتضحياتهم واعتصامهم بعقولهم وبضمائرهم وإرادتهم الصلبة.

إن حضارة اقرأ لا تهتز ولا تتهاوي بفعل حفريات في كهوفها الجغرافية ومواقعها الأثرية طالما ظل الأمر القطعي الذي أسسا حيا منبعثا مدويا في السماء تتلقفه الأفواه وتنظر بفعله العيون إلى النصوص باحثة عن المعاني متصورة للأفكار بالعقول تسطر بالأيادي ما اختزنته الذاكرة وباح به الوجدان.

إن ثقافة العرب والمسلمين ليست كتلة واحدة متجانسة ولا وحدة أقنومية جامدة بل منظومة تعددية ونقطة التقاء بين ثقافات جمة وهذه التعددية هي التي تجعلها عصية عن كل تقوقع أو تشظي وهي ما انفكت تتفاعل مع مكوناتها ومع كل العناصر الوافدة من المحيط الذي يلفها. وفي الحقيقة هناك علاقة جدلية عميقة وغامضة بين المعنى الديني والمعنى الاجتماعي التاريخي للأمة في التكوين النفسي الثقافي الذي تحمله المجتمعات العربية من تاريخها الطويل، القديم والحديث. [2]

إن المطلوب ليس التنكر للعروبة ولا التملص من الإسلام حتى نبرأ أنفسنا من ذنوب ارتكبها غيرنا عن جهل وقلة تبصر وحتى ننتمي إلى الراهن ونواكب روح العصر، ونمنح العروبة السرد اللازم لجعلها تصنع التاريخ الخاص بالمعمورة دون تمركز أو وله ذاتي ونطلق عنان الاجتهاد في القرآن والحديث لننتج تنويرا أصيلا ونفضي المكان لميلاد الإنسان بكل ما يحتمله من فردية وشخصانية وآدمية.

إن الخطر الذي يهدد الأمة ليس الخارج النيوكلياني ولا اشتداد الصراع بين دعاة التقليد ودعاة التجديد ولا امتلاك بعض الجهات الاقليمية عناصر القوة والمنعة فهذه علامة صحية وتصب في اتجاه استئناف التجدد الحضاري ولكنه يوجد في الداخل ويتمثل في هذا الجحود بالصلات والروابط والاستخفاف بالقريب وشيطنة الشريك وتجريم الحليف وإقصاء الصديق والتغافل عن التحديات والمهالك وإلغاء آداب الصحبة وواجب الأخوة، فكيف نصير أشداء على بعضنا البعض رحماء مع من يبحث لنا عن المضرة؟

وفي ظل التبجح بالقطرية والتمييز بين القومية والوطنية والكونية أليس من الضروري البحث عن شروط لبناء كيان سياسي فيدرالي فعلي بين مكونات الأمة؟ ألا ينبغي إعادة طرح إشكال الوحدة وتراوحه بين الإقليمية والاندماجية؟ ألم يقل عابد الجابري في ذلك الحوار الشهير مع حسن حنفي: «ما أريد أن أخلص إليه أن فكرة الوحدة هي اليوم في حاجة إلى إعادة تأسيس في الوعي العربي.» [3] فما أحوجنا اليوم إلى حوار بين مثقفين وإلى وحدة ثقافية بين مكونات الأمة تخرجنا من مغالطات بادئ الرأي وتعيدنا إلى حديقة العقل وأنوار المدنية والتقارب؟ أليس الانتماء إلى المقاومة ومناصرة القضايا العادلة للأمة هو وحده الذي يبعد شبهة التعصب إلى المذهب أو الأثنية الطائفية؟


[1حسن حنفي- محمد عابد الجابري، حوار المشرق والمغرب،نحو إعادة بناء الفكر القومي العربي، مجد بيروت 1990 ص51

[2ناصيف نصار، مفهوم الأمة بين الدين والتاريخ، دار الطليعة بيروت، طبعة خامسة، 2003، ص 13

[3القومي العربي، مجد بيروت 1990،ص49


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى