الاثنين ٢٨ آب (أغسطس) ٢٠٠٦
بقلم أحمد الخميسي

حجر ، وورد - وجوه لبنانية

لكل إنسان عقلية ومعايير يزن بها ما حوله ويحكم من منظورها على الأحداث . من الصعوبة بمكان – لكن ليس مستحيلا - تفسير الكيفية الثقافية والذاتية والنفسية التي تختلف بسببها تلك العقلية من شخص لآخر، إذ تتداخل في تكوين العقلية على هذا النحو أو ذاك عوامل مثل التربية والمصلحة الاجتماعية والميول والوراثة وعوامل أخرى مستجدة . بالنسبة لي، كانت هناك - أثناء الحرب الأخيرة على لبنان - نشرتان للأخبار : الأولى تعرض لي الأنباء الظاهرة من الحرب ، أي عدد صواريخ المقاومة،واستبسالها، وحجم ونوع العمليات الإسرائيلية الفاشية، ونتائج الضربات المتبادلة. وكانت أنباء المعركة الظاهرة تمثل بالنسبة لي معيارا للحكم . نشرة الأخبار الثانية ، كانت تعرض لي في تقارير جانبية صغيرة ، أنباء الانفعال على وجوه بسطاء اللبنانيين ، والنبرة التي ينطقون بها ما يقولونه قرب بيوتهم المهدمة ، وإشارات أياديهم ، ودموعهم أحيانا . كانت تلك أنباء احتشاد الروح في هذا الاتجاه أو ذاك ، وبهذا القدر أو غيره . كنت أتابع عدد صواريخ المقاومة التي تسقط على حيفا ، ولا أحكم بشيء ، إلي أن أرى حجم الانفعالات المتوترة . كان رصد الانفعال بالنسبة لي نبأ وخبرا هاما ورئيسيا ، لا يقل أهمية عن عدد المعارك . كانت طبيعة تلك الانفعالات مؤشرا أحكم به . وفي هذا السياق لعلي لن أنسى وجه سيدة ضخمة كالشجرة تجاوزت منتصف العمر ، كانت تقف أمام كاميرا إحدى المحطات التلفزيونية في جلباب أسود منسدل قرب بيتها المهدم بالكامل . وسألها المراسل التلفزيوني عن بيتها الذي لم يبق من منه حجر على حجر ، وما تشعر به وهي ترى ذلك، فأشارت نحو الأنقاض تسأل المراسل التلفزيوني : ماذا ترى أمامك؟ . أجاب المذيع بهزة رأس اعتيادية دون أن يفهم ما تقصده : أحجارا .. نعم . فهتفت به ملوحة بذراعها أمام عينيه كأنه أعمى تحثه على الإبصار : كلا ليست أحجارا ، إنها زهور ، وستصبح غدا حديقة كبيرة ، سنعيد بناء كل شئ . ثم تقدمت سيدة أخرى شابة نحو الكاميرا قائلة : " الحجر يرمم ، لكن إذا تحطمت كرامتنا أصبحنا لا شئ " . كنت أتابع مظاهر الشعور بالكرامة كأنها ذخيرة ، يقاتل بها الناس جنبا إلي جنب مع ذخيرة المقاومة من صواريخ ومدافع . وبدون ذلك الشعور بالكرامة لا يمكن لأحد ، أو جماعة ، أو شعب ، أن يحقق انتصارا ذاتيا ، أو موضوعيا ، أو تاريخيا . فالشعور بالكرامة هو الشعور بأن من حق الإنسان أن يحيا كما يشاء وبالشكل الذي يريده ، وحين يصبح ذلك الشعور ظاهرة نفسية عامة ، فلابد أن يخطو بالتاريخ إلي الأمام . الكثيرون يحسبون الحروب والمعارك باعتبارها موازين قوى مادية فحسب ، لكن فيتنام الصغيرة استطاعت أن تنتصر على أمريكا ، وفقا لموازين قوى معنوية ، ووفقا لنشرة أنباء أخرى تخص الروح والانفعال .

ومنذ زمن بعيد ، وعبر رحلة تاريخية طويلة ، أصبح ما هو معنوي لدي الإنسان قوة مادية أهم بكثير من القوة المادية الظاهرة . ولهذا فإن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يقبل بالانتحار ، أو الاستشهاد ، أي الكائن الوحيد الذي يرضى عن وعي بأن يبيد ما هو مادي - أي بدنه وجسمه – من أجل ما هو نفسي ومعنوي ، أي كرامته ومبادئه . حالات الصمود حتى الموت داخل المعتقلات والسجون في كل بلدان العالم وتاريخه كثيرة ، وكلها تفيد معنى واحدا : إن الروح تنتصر على البدن ، وكل ما هو معنوي يقبل بالخسائر المادية ، لينقذ نفسه ، ومغزى حياته . وعبر تلك الخسارة فقط تصبح الروح قوة مادية ملموسة ذات أثر ضخم تعيد ترتيب العالم من حولها . ونحن في الحياة اليومية قد نرتضى البؤس ، أو الجوع ، لكننا لن نرتضي كلمة مهينة . لقد مات الموظف الصغير لدي أنطون تشيخوف في قصة " موت موظف " ليس بسبب الجوع ، لكن لشعوره بالضآلة والمهانة . والذين ينتحرون في قصة حب فاشلة ، يبيدون وجودهم المادي ، من أجل وجود معنوي ، والذين يفتدون أوطانهم أيضا يفعلون ذلك . ولهذا فقط تصبح الأحجار وردا ، تستنشق امرأة مقاومة عطره ، أو تظل أحجارا عند البعض الآخر.

وقصة تطور التاريخ الإنساني كله هي قصة التقدم من الحيوانية إلى الإنسانية ، ومن الجنس إلي الحب ، ومن حشو المعدة إلي الشعور بالكرامة، ومن الاستعمار إلي التحرر، ومن الحجر إلى الورد .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى