الثلاثاء ١ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم محمد محمد علي جنيدي

حشائش البشر

كنت في الزَّمن البعيد وأنا صغير كثيراً ما أزور أحد أقاربي في القرية المجاورة لمدينتنا فكان يصطحبني للاستمتاع بالهواء الطَّلق المنبعث من أريج الحقول ونسائم الإصباح البكر الطَّهور وأذكر بأنَّني ذات يومٍ سألتُه عن الفرق بين الأحواض المزروعة المُنَظَّمَة وبين الحَشَائِش الَّتي تخرج من ثنايا الصُّخور والَّتي تكسو ضفاف المصارف والتِّرع وتلك الَّتي تَطِلُّ على السَّائرين من أجنابِ الطُّرقات فكان يُردِّدُ لي مقولة الأجداد: هي نباتات شيطانيَّة، وتمرُّ الأعوام ونتعلم وندرس ونعرف أن ما من شيء موجود بغير سبب مهما صَغُر حجمه أو قلَّ وزنه، وتمرُّ أعوامٌ أخرى كثيرة وتتجدَّدُ هذه الظَّاهرة أمام عيني مرَّة أخرى – ولكن هذه المَرَّة – بين حشائش البشر (ولا حول ولا قوُّة إلا بالله) وأعتذر عن هذه التَّسْمِيَة، فكثيراً جداً من الأطفال والغلمان يفترشون الطُّرقات والحدائق وأسفل العربات وتلفحهم أسقف الكباري وحرقة شمس الظهيرة وعندما ينامون لا يجدون ما يسترون به أجسادهم اللهم إلا بملابسهم المُمَزَّقة.

فتذكرتُ حشائش الطُّرقات بالقرية المجاورة حينئذٍ واستفزَّ ضميري شعوري بتقارب وجه الشَّبه بين حشائش الماضي والحاضر!

وتساءلتُ ونفسي ساخراً من هذه الظَّاهِرة: ظاهرة (أولاد الشوارع) فإنَّها كما تعلم – عزيزي القارئ – مجتمع آخر يتنامى بسرعة خَطِرة جداً وليست مجرد ظاهرة عابرة ستزول بمرور الوقت، فقد أصبحوا هؤلاء (كدُويْلَة صغرى) تُصَدِّرُ كُلَّ ساعة قضاياها ومشكلاتها إلي الدَّولة الأمِّ.. فهم يتعايشون فيما بينهم بطريقتهم ويخرجون لطلب الرِّزق بغير أي ضوابط ويُسْتَخْدَمون كثيراً كعَصَا إرهابٍ وتهديد (وتخليص حقوق) بعيداً عن ساحات المحاكم وجرائمهم بدأت تملأ الأفق وتضيق بها النَّاس وتُرعب أضعفهم وتُخيف أقواهم فإذا كان بوسعنا ومقدورنا الآن (السُّكوت وأذن من طين وأخرى من عجين) على هذه المصيبة المستعصية، فكيف بنا إذا تركناها بغير حلٍ جذري لسنوات قادمة وحِينَئِذٍ هل يمكننا السَّيطرة على توابعها!! لا أعتقد ذلك أبداً..

ولستُ هنا – عزيزي القارئ - لمناقشة الأسباب وتحديد المسؤوليات فالأسباب واضحة ويُسْأل عنها المجتمع بأسْرِه ولكنَّني بمنتهى الإخلاص أُحذِّرُ من تفاقم هذه المُعضِلة والَّتي لا يَأْمَنُ حُمَمَها فيما بعد أحد ولو استعصم واستخفى في بروجٍ مُشيَّدة – نعم – إن نحن تركناها ستصبح ناراً أو أسرابَ جرادٍ سيأكل أمامه كُلَّ الأخضر واليابس، فلماذا نحن دائماً لا نلقَى بالاً ولا اهتماماً بشيءٍ إلا في (رمقه الأخير) – أقول – لمن يدفع الملايين لشراء لاعب كرة وجاهةً ثم يقوم بإهدائه لناديه المحبَّب ولمن ينفقها على مزاجه وشهواته مُسْتَخِفّاً بجميع من حوله مجاهرةً وفي سفاهةٍ ولا مبالاة – وأقول – لكلِّ مسئولٍ - يُهدرُ مُخَصَّصَات موازنة بلاده في كُلِّ ما يُمْكِن الاستغناء عنه وهو لا يبالي بلوعة ومأساة هؤلاء الَّذين أصبحوا وقود حرِّ الصَّيف وأسرَى برد الشِّتاء - أقول له – إن كنتَ مؤمناً بأن لهذا الكون إله سيفصل فيه يوماً بين عباده، - إن كنتَ كذلك - اتَّقِ الله وانظر لمن لا يجدون مكاناً ينامون فيه ولا يأكلون ويشربون إلا بشقِّ الأنفس.. ، ثمَّ ها أنا أُنادي في كُلِّ مَنْ رَغِد عَيْشُه واتَّسع رزقُه وقد أقبلت الدُّنيا عليه وهرولت، فَمَلَك المليارات والملايين أقول له خُذْ حاجتَك من أموالك وحاجة أبنائك وأبناء أبنائك وأبناء أبناء أبنائك و .. .. ثم اخرج واسْتَبْقِ عند ربِّك لهؤلاء شيئاًً يشفع لك يوم تلاقيه، يوم لا ينفعك مالاً وأين هو حينئذٍ ولا بنون وقد يختصمونك عند الَّذي حتماً سيفصل يوماً بين عباده.

 يعني - لن ينفعَك دعاؤهم بعد رحيلك أبداً.. وعليه عزيزي، من إذاً سيأخذُ بيدِك للنجاةِ من عقابِ الله، وهل أنت تركتَ لنفسِك صدقةً جاريةً تنتفع بها وأنت ماثلٌ بين يدي الحَكَم العدل - ويا حسرتاه - حينما تجدُ أنَّ هذه الصَّدقة كانت في هذا اللاعب الَّذي اشتريته لناديك الكبير!!

ثمَّ هل آمنتَ على نفسِك من انتقام هؤلاء في دنياك، فلن يُحَصِّنَكَ ثراؤك كثيراً فقد تستهدفُك أفكارهُم وتطولُك أياديهم ثُمَّ تجدُ نفسَك في النِّهاية قد خرجت من الدُّنيا بفعل فاعل! أعاذك وأعاذنا اللهُ من موتِ الفُجَاءَة

ثمَّ – عزيزي الغني - أمفهوم الأمن القومي يقف في تَصَوُّرِكم عند ما يُهَدِّدُ حضرتَك أو يُهَدِّدُ وطنك من الخارج!! لا والله فرُبَّما الخَطَرُ الآتي من الدَّاخل يكون أعظم ضرراً وأشدُّ تنكيلاً ولعياذ بالله.

أيُّها السَّادة الكبار الأغنياء: ماذا تنتظرون وماذا أنتم فاعلون؟!

فهل ستنقذون أنفسَكم وتنقذون بلادَكم وتعيشون ولو لمرَّةٍ واحدةٍ على قلبِ رجلٍ واحدٍ يتَّقِي اللهَ ربَّه ومولاه

أسأل اللهَ أن يُلِينَ ويُهْدِي ضمائرَكم ويربط على قلوبِكم ويأخذ بأيديكم إلى ما يُنجِيكم به فَتَرْحَمُون لتُرْحَمُون، اللهم آمين.
إنه وحده وَلِيُّ ذلك والقادرُ عليه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى