الاثنين ٣ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم أحمد الخميسي

حصان فلسطيني أحمر

بالأمس رأيت بين الحقول حصانا أحمر، كان يقف في هواء أحمر خفيف فظننت أنه حلم لأنه لم يسبق لأحد أن شاهد حصانا بهذا اللون، ولم يأت ذكر شيء كهذا، فالخيول تولد بيضاء وسوداء ورمادية وشهباء وبنية وصفراء إلا ذلك اللون. خطوت خطوة واحدة بحذر شديد في اتجاه الحصان الذي كان يشبه بقعة دم كبيرة في الأفق الساكن، لكن ما إن تحركت حتى رفع الحصان قائمتيه الأماميتين عاليا في الجو متراجعا ملفوفا بهالة من الهواء الأحمر الخفيف. تجمدت مكاني فعاد الحصان إلى وقفته الهادئة، ومال برقبته على الأرض يلوك أعشابا حمراء، ثم انعطف نحوي قليلا فشاهدت عينين واسعتين مثل فنجانين ممتلئين بالدم، ولا شيء آخر.

في المساء حكت لي جدتي كيف ولد ذلك المهر الذي أصبح حصانا أحمر، وكيف كتب عليه أن يلوك أعشابا حمراء وأن يشرب ماء أحمر وأن يستريح تحت سحب حمراء يغشاها نعاس الوحشة، وكيف راح الحصان يظهر على التلال في الليالي المظلمة. حكت لي أن الخيل توافدت من كل بقاع الأرض ذات يوم واجتمعت في غابة كبيرة لتتفق أخيرا على أنها مهددة بالزوال ما لم يبزغ من بينها حصان يلهم الخيول الصابرة عشق الحرية، على أن يكون أحمر اللون فيصبح مرئيا من أي مكان أو زمان.

قالت الخيول:، لكن حصانا بهذا اللون بحاجة إلى بحيرات من الدم عاما بعد عام، يغطيه من قوائمه حتى رقبته وعرفه ثم ينزلق من صدره العريض إلى جنبيه. حصان كهذا يلزمه عشرات السنين ليبقى لونه ثابتا في جلده وذاكرته وعينيه. حصان كهذا لابد أن يولد في حريق يلقنه ألا يأكل سوى أعشاب حمراء، وألا يشرب سوى ماء أحمر، وأن يقف في الحرائق ليلعق ظلالها الحمراء من فوق الأرض الساخنة. وعندئذ لن يمحو لونه لا ماء ولا مطر. حصان كهذا قالت الخيول سيكون وحيدا جدا، لا مهرة ترافقه، ولا ولد، لكنه إذا صهل فوق الجبال أو بين التلال أيقظ الخيل كلها.

قالت جدتي وهي تفرك يديها فوق الحطب المتقد: لقد ولد ذلك المهر في غزة، لأنه لم يكن هناك مكان في العالم مثل هذه المدينة الصغيرة تجري فيه الدماء بهذه الوفرة والغزارة، فيها تتساقط الصبايا كل يوم والفتيان وفيها وحدها يقتل الأطفال الرضع كل ساعة، فيلفهم من بقى في الحريق على قيد الحياة، ويقدمهم للأرض مثل باقة ورد. هكذا كان المهر إذا سار في أزقة غزة بين البيوت والدكاكين المهدمة تشبعت قوائمه بالدم، فإذا ركض إلى الميادين غطت دماء ورش العمال وأفران الخبز صدره ورقبته، وحين يركض بعيدا إلى الحقول تغمر الدماء رأسه.

هكذا ظهر الحصان الأحمر. وعندما علمت الخيل بالنبأ أخذت تشق طريقها إليه من تل الزعتر ودير ياسين وبحر البقر وصبرا وشاتيلا ورفح وجنين ورام الله والجولان وشبعا والفالوجا، تنقل إليه دماء تلك النواحي، لأنها تعلم أن حصانها مازال بحاجة إلى ما يشربه لكي يكون لونه الأحمر ثابتا إلى الأبد.

إنك تنظر إلى ذلك الحصان متوهجا بعيدا ولا تدري كم هو وحيد ومنهك من عذابه، ومن قدره الذي كتب عليه أن يكون نادرا، وأن يتحمل في سبيل ذلك ألما فوق طاقة الخيل كلها على الصبر. فإذا تمكن أحد – وهذا مستحيل – من امتطاء صهوة ذلك الحصان، فسوف يرى العالم كله باللون الأحمر: الأشجار الخضراء تصبح حمراء، والثلوج البيضاء، والسماء الزرقاء، وحتى القمر بلونه الأبيض الفضي يصبح أحمر. ولكي يزول عذاب ذلك الحصان وألمه لا بد له أن يكف عن التوهج في الليل وأن يكف عن صهيله الذي يوقظ به الخيول من فوق الجبال، وأن يفرغ كل ما في قلبه وجوفه من دماء وذكريات سنوات طوال إلى أن يصبح مثل الخيول الأخرى يشرب ويأكل مما تأكل، ينام مثلها في الحظائر، ويحرث حقلا، أو يجر عربة، ويستريح من لون الحريق.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى