الأحد ٢٥ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم لطفي زغلول

حضارة الهدوء والسكينة

كانت عقارب الساعة تشير إلى ما بعد الثانية عشرة ليلا، وكان لا يزال دوي المفرقعات وأزيزها يملأ أرجاء المدينة، إضافة إلى مكبرات الصوت التي كانت تبث الإحتفالات في هذه المناسبة، وفي وسط الأحياء السكنية، ومنها الحي الذي أسكن فيه. كانت المناسبة نجاح الطلبة في امتحان الشهادة الثانوية الفلسطينية العامة «التوجيهي». وهنا فإنني أتقدم من الطلبة الناجحين بأخلص آيات التهاني والتبريك في هذه المناسبة.

تتكرر هذه الإحتفالية عشرات المرات، إنما في مناسبات أخرى، على إيقاع هدير موكب من السيارات التي أطلق سائقوها لأبواقها العنان على مدى أكثر من ساعة، فرحا وابتهاجا في موكب زفاف، وهذه "الإحتفالية" لا تخلو هي الأخرى من دوي رشقات من المفرقعات التي ابتلينا بها، وتسببت بحدوث عدد كبير من الإصابات والحروق المختلفة.

ويعلم الله وحده كم إنسان مثلي، شيخا كان أم طفلا ، رجلا أم امرأة ، معافى أم مريضا، لم تغمض عيناه، أو أنه قد أوقظ من نومه ليساهم بقسط من فزعه وروعه والرعب الذي حل به، ويشارك مجبرا في حفل الزفاف هذا، أو هذه المناسبة التي أصر أصحابها أن يوقظوا الناس مذعورين، أو أن يحرموهم من النوم، وهو ليس أول زفاف أو احتفال بنجاح على هذه الشاكلة، وعلى ما يبدو لن يكون الأخير.

المشكلة هنا لا تخص هذا الشكل من إزعاج المواطنين، والإعتداء على حقهم المشروع في نيل قسط من الهدوء والراحة والسكينة. ثمة أشكال أخرى كثيرة من الإزعاج والمنغصات أصبحت جزءا من الحياة اليومية. ومثالا لا حصرا، وإلى جانب تكرار شبه يومي لإطلاق المفرقعات، تبرز حفلات الزفاف ومناسبات الأفراح الأخرى التي تستخدم مكبرات الصوت إلى ساعة متأخرة من الليل. وفي ذات الصدد فإن زفات المونديال إلى عهد قريب كانت هي الأخرى لها منظومة إزعاج خاصة بها، ولا يمكن أن تمحى من الذاكرة.

هذا في الليل، أما النهار فله منظومة أخرى من المزعجات. هناك باعة الأشرطة الصوتية على قارعة شوارع المدن وفي مداخلها وأزقتها، والذين على مدار اليوم لا تهدأ أجهزة استيريوهاتهم عن بث آخر ما وصلهم من أقراص أغانيهم المدمجة، أو أشرطتها بأعلى وتيرة صوتية ممكنة.

ولا يقل عنهم في هذا المنوال الباعة المتجولون في مركباتهم، والذين ينادون على بضائعهم بوساطة مكبرات الصوت. ومن المنغصات الحقيقية الأخرى هدير الجرافات والكسارات التي تبدأ فعالياتها منذ ساعات الصباح الباكر جدا وحتى ساعة متأخرة من النهار، ولا تنجو حتى أيام العطل الأسبوعية منها، في إطار منظومة الإزعاج والتنغيص هذه.

في الحقيقة إن هذه المشكلة شبه اليومية، تنجم عنها العديد من المشكلات الإجتماعية والنفسية. فعلى الصعيد الإجتماعي، تسهم في توليد مشاعر النفور والعداء تجاه هؤلاء الذين يتسببون بالإزعاج والتنغيص، ولا يقيمون وزنا لحريات الآخرين المشروعة.

وقد تتطور هذه المشاعر إلى شكل أو آخر من أشكال النزاع وتفسخ أواصر العلاقات الإجتماعية. وعلى الصعيد النفسي فهي "تلويث للبيئة النفسية"، وأداة هدم لكل أجهزة الإستقرار النفسي، الأمر الذي يولد معه الإضطرابات النفسية والقلق والضيق. إلا أن الأهم من هذا وذاك شعور المواطن بأن هناك انتهاكا صارخا لحقه المشروع في قسط من الهدوء والراحة والسكينة والطمأنينة النفسية .

في هذا السياق لا بد من الإشارة إلى الأسباب الكامنة وراء مثل هذه الممارسات، والتي يخشى أن تكون قد أصبحت جزءا من السلوكات اليومية اللاإرادية، أو أنها أصبحت عادة أو "ثقافة سالبة" لبعض من المواطنين.

في اعتقادنا، ولدى مقارنة ما يجري هنا ببلدان متحضرة تحتل منظومة الهدوء والسكينة والطمأنينة في أحيائها السكنية مساحة شاسعة من حضارتها وثقافة مواطنيها، يتضح لنا أن الأزمة تنبع من أنانية وفهم خاطىء لحرية التصرف والسلوك وعدم إدراك للحدود التي يجب أن تنتهي عندها حريات هؤلاء الناس المسببين لهذه المنظومة من المزعجات والمنغصات، وتبدأ حريات الآخرين.

إن هؤلاء الناس يتصورون أنهم أحرار بعمل ما يحلو لهم، وأن ليس هناك قوانين تضبط سلوكاتهم، أو أنهم فوق القانون، أو أن لهم سندا ما يحميهم، أو يغطي على أفعالهم المخالفة للقانون. إنهم باختصار إما أنهم جاهلون، أو أنهم يتعمدون إيذاء غيرهم، وبخاصة في حالة إصرارهم على ارتكاب مثل هذه الأفعال.

ونحن في فلسطين أحوج الناس إلى منظومة الهدوء والسكينة والطمأنينة النفسية التي افتقدناها طوال عشرات السنين. إن الظروف التي مر بها شعبنا الفلسطيني عبر عقود نكبته ونضالاته، كانت صاخبة إلى أقصى حدود الصخب وأقساها.

إن الإحتلال الإسرائيلي بكل اتجاهاته وأشكاله وممارساته وتداعياته وإفرازاته، كان ولا يزال يشكل أعلى نسبة من الصخب والعنف والضجيج والضوضاء وفقدان الهدوء والسكينة والطمأنينة، تعرض لها شعب في هذا القرن، الأمر الذي ولد لدى الكثير من المواطنين حالات من الإضطراب النفسي والقلق وعدم الإستقرار العاطفي والضيق والعصبية وسرعة التأثر والإنفعال وردود الأفعال العنيفة، وفي أحيان حالات من الكآبة والإكتئاب ومشاعر الحساسية المفرطة.

ومثالا لا حصرا نسوق بعض الفعاليات التي تسبب الإحتلال الإسرائيلي من خلالها بالأذى للمواطنين، وحرمانهم من حقهم في حياة هادئة آمنة مطمئنة. ومنها الإجتياحات التي أحدثت دمارا واسعا في مخيماته وقراه ومدنه، والتي استخدم فيها الإحتلال الجرافات لهدم البيوت، وإطلاق القنابل المسيلة والصوتية والرصاص الحي. لقد تعمد جنود الإحتلال إلى إيقاظ الناس الآمنين من نومهم بغية إجراء اعتقالات، أو إخراجهم من بيوتهم في البرد القارس والمطر، أو تكديسهم في منزل واحد لساعات، وربما لأيام.

إن الشعب الفلسطيني لم ينس بعد الطائرات الحربية المقاتلة التي ما زالت تستبيح السماء الفلسطينية مخترقة حاجز الصوت، وما يمكن أن يخلفه ذلك من هلع وفزع للكبار والصغار، وخلخلة لأساسات المنازل، وتحطيم لزجاجها.

وإذا كان الإحتلال هو الإحتلال بكل ممارساته القمعية، وهنا لا نملك إلا أن نقول لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنه كان من المفترض أن يتصرف بعض المواطنين بصورة لائقة، لا تضر بمواطنين آخرين من بني جلدتهم، تعبر عن مدى التزامهم وتمسكهم بالقيم الحضارية التي تنم عن أناس حضاريين بكل ما للكلمة من معان.

إن الشعب الفلسطيني بحاجة إلى أن يتخلص من هذه التراكمات النفسية السالبة وإفرازاتها. وهذا لن يتسنى له إلا من خلال أجواء من الهدوء والسكينة والطمأنينة النفسية آناء الليل وأطراف النهار، يسهم في تكريسها وترسيخها أبناء هذا الوطن بكل ما أوتوا من إرادة وقوة وعلم ونية سليمة تجاه وطنهم ومواطنيهم.

وتظل الأفراح والمناسبات السارة والمسرات والمتع موضوعات شخصية خاصة لها حدودها، ولا ينبغي فرضها على الآخرين. ولكل إنسان في الوطن الحق في التعبير عنها بأسلوبه وما تمليه عليه ثقافته ومنظوره الحياتي. ولكن شريطة عدم التعدي على حريات الآخرين. ساعتها يخرج هذا الحق عن نطاق الحرية الشخصية وإطارها، ليصبح انتهاكا صارخا لحريات الآخرين.

وهنا تتضاعف مسؤوليات المؤسسات التربوية، ووسائل الإعلام المختلفة، وكذلك يبرز دور الأسرة في التوعية والتثقيف في ما يخص حق كل مواطن في الحرية، وحماية هذه الحرية التي تنتهي عندما تبدأ حريات الآخرين. ولا يعلو حق على حق الإنسان في أن يعيش في دعة وهدوء وسكينة وطمأنينة نفسية وأمن وأمان. فهذه المنظومة ولا شك تشكل أهم الأسس لحضارة الإنسان الراقي المستقر، وتدفعه نحو مزيد من العطاء والإنجاز الحضاريين، وأهم من ذلك كله إلى تمتين أواصر شبكة من العلاقات الإجتماعية بين المواطنين أساسها المحبة والاحترام والتآلف. وتظل أجهزة الدولة الأمنية والقضائية هي السياج الحامي للحريات بكافة أشكالها من خلال أطرها القانونية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى